القيروان: إزالة توصيلات عشوائية على الشبكة المائية في الشبيكة    بالفيديو: مطار طبرقة الدولي يستعيد حركته ويستقبل أول رحلة سياحية قادمة من بولونيا    عاجل: أمر مفاجئ من ترامب: على الجميع إخلاء طهران فورا    في 5 سنوات.. 11 مليار دولار خسائر غانا من تهريب الذهب    كأس العالم للأندية: التشكيلة الأساسية للترجي الرياضي في مواجهة فلامينغو    كأس العالم للأندية: تعادل مثير بين البوكا وبنفيكا    اسرائيل تتآكل من الداخل وانفجار مجتمعي على الابواب    عاجل : ترامب يدعو إلى الإجلاء الفوري من طهران    كاس العالم للاندية 2025: تشلسي يفوز على لوس انجلس بثنائية نظيفة    بعد تسجيل 121 حريقا في 15 يوما.. بن الشيخ يشدد على ضرورة حماية المحاصيل والغابات    ميناء جرجيس يستقبل أولى رحلات عودة التونسيين بالخارج: 504 مسافرين و292 سيارة    يهم اختصاصات اللغات والرياضيات والكيمياء والفيزياء والفنون التشكيلية والتربية الموسيقية..لجنة من سلطنة عُمان في تونس لانتداب مُدرّسين    المندوبية الجهوية للتربية بمنوبةالمجلة الالكترونية «رواق»... تحتفي بالمتوّجين في الملتقيات الجهوية    في اصدار جديد للكاتب والصحفي محمود حرشاني .. مجموعة من القصص الجديدة الموجهة للاطفال واليافعين    الكوتش وليد زليلة يكتب .. طفلي لا يهدأ... هل هو مفرط الحركة أم عبقري صغير؟    أخبار الحكومة    انطلاق الحملة الانتخابية بدائرة بنزرت الشمالية    المنتخب التونسي للكرة الطائرة يفوز وديا على المنتخب الايطالي الرديف 3 - 1    بورصة: تعليق تداول اسهم الشركة العقارية التونسية السعودية ابتداء من حصّة الإثنين    تونس تحتضن من 16 الى 18 جوان المنتدى الإقليمي لتنظيم الشراء في المجال الصحي بمشاركة خبراء وشركاء من شمال إفريقيا والمنطقة العربية    منظمات تونسية تدعو سلطات الشرق الليبي إلى إطلاق سراح الموقوفين من عناصر "قافلة صمود".. وتطالب السلطات التونسية والجزائرية بالتدخل    طقس الليلة    تونس تعزز جهودها في علاج الإدمان بأدوية داعمة لحماية الشباب واستقرار المجتمع    إسناد العلامة التونسية المميزة للجودة لإنتاج مصبر الهريسة    تجديد انتخاب ممثل تونس بالمجلس الاستشاري لاتفاقية حماية التراث الثقافي المغمور بالمياه لليونسكو    عاجل/ وزير الخارجية يتلقّى إتّصالا من نظيره المصري    "تسنيم": الدفاعات الجوية الإيرانية تدمر مقاتلة إسرائيلية من طراز "إف 35" في تبريز    اتحاد الشغل يدعو النقابيين الليبيين الى التدخل لإطلاق سراح أفراد قافلة "الصمود"    تونس تدعو إلى شراكة صحّية إفريقية قائمة على التمويل الذاتي والتصنيع المحلي    نحو إحداث مرصد وطني لإزالة الكربون الصناعي    جندوبة: اجلاء نحو 30 ألف قنطار من الحبوب منذ انطلاق موسم الحصاد    العطل الرسمية المتبقية للتونسيين في النصف الثاني من 2025    عاجل/ باكستان: المصادقة على مشروع قرار يدعم إيران ضد إسرائيل    جندوبة: الادارة الجهوية للحماية المدنية تطلق برنامج العطلة الآمنة    "مذكّرات تُسهم في التعريف بتاريخ تونس منذ سنة 1684": إصدار جديد لمجمع بيت الحكمة    الدورة الأولى من مهرجان الأصالة والإبداع بالقلال من 18 الى 20 جوان    في قضية ارتشاء وتدليس: تأجيل محاكمة الطيب راشد    القيروان: 2619 مترشحا ومترشحة يشرعون في اجتياز مناظرة "السيزيام" ب 15 مركزا    عاجل : عطلة رأس السنة الهجرية 2025 رسميًا للتونسيين (الموعد والتفاصيل)    الكاف: فتح مركزين فرعيين بساقية سيدي يوسف وقلعة سنان لتجميع صابة الحبوب    ابن أحمد السقا يتعرض لأزمة صحية مفاجئة    تأجيل محاكمة المحامية سنية الدهماني    دورة المنستير للتنس: معز الشرقي يفوز على عزيز دوقاز ويحر اللقب    خبر سارّ: تراجع حرارة الطقس مع عودة الامطار في هذا الموعد    10 سنوات سجناً لمروّجي مخدرات تورّطا في استهداف الوسط المدرسي بحلق الوادي    189 حريق خلال الأربع والعشرين ساعة الماضية….    باريس سان جيرمان يقسو على أتليتيكو مدريد برباعية في كأس العالم للأندية    النادي الصفاقسي: الهيئة التسييرية تواصل المشوار .. والإدارة تعول على الجماهير    تعاون تونسي إيطالي لدعم جراحة قلب الأطفال    كأس المغرب 2023-2024: معين الشعباني يقود نهضة بركان الى الدور نصف النهائي    صفاقس : الهيئة الجديدة ل"جمعية حرفيون بلا حدود تعتزم كسب رهان الحرف، وتثمين الحرف الجديدة والمعاصرة (رئيس الجمعية)    لطيفة العرفاوي تردّ على الشائعات بشأن ملابسات وفاة شقيقها    قابس: الاعلان عن جملة من الاجراءات لحماية الأبقار من مرض الجلد العقدي المعدي    تحذير خطير: لماذا قد يكون الأرز المعاد تسخينه قاتلًا لصحتك؟    من قلب إنجلترا: نحلة تقتل مليارديرًا هنديًا وسط دهشة الحاضرين    قافلة الصمود فعل رمزي أربك الاحتلال وكشف هشاشة الأنظمة    ملف الأسبوع .. أحبُّ الناس إلى الله أنفعُهم للناس    طواف الوداع: وداعٌ مهيب للحجيج في ختام مناسك الحج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



د. يوسف القرضاوي: نظمنا السياسة الاستبدادية عائق أمام تقدمنا


- أهم شيء فعله القرآن هو أنه أقام العقلية العلمية.
- الإسلام برئ من دعوة تخلف المسلمين.
- التقليد ضرب حياتنا الدينية والعقلية والسلوكية فمنعنا من التقدم.
- أنظمتنا التعليمية لا تخرج النوابغ والمبتكرين.
- علينا أن نخلص الأمة من الموروث الجامد والوافد الغريب.
- الحرية تصنع المبدعين والاستبداد يقتل الإبداع.
- إذا ظلت القطرية والفرقة في تفكيرنا فلا أمل في التقدم.
'الإسلام والتقدم العلمي'.. كان موضوع الندوة التي أقيمت مؤخراً في إطار منتدى الشيخ محمد الغزالي – رحمه الله – وتحدث فيها د. يوسف القرضاوي وأدارها د. محمد عمارة.
وقد تحدث د. يوسف القرضاوي فقال إننا ولا شك متخلفون.. قد يقولون عنا إننا دول نامية أو إننا عالم ثالث وقد تكون هذه التسميات للتخدير، أما الحقيقة فهي أن الأمة الإسلامية كلها محسوبة في دائرة التخلف، ومضي الزمن ليس جزءً من العلاج، فنحن نركب السيارة وهم يركبون الطائرة، وحينما ركبنا الطائرة ركبوا الصاروخ. وليت السيارة والطائرة من صنعنا بل هي من صنعهم ونحن مجرد مستخدمين لهذه الأدوات الحضارية. إن بعضنا ربما يركب سيارة مرسيدس آخر موديل لكننا للأسف لم نصنع من هذه السيارة أي شيء، لكنه مجرد مال مدفوع لشرائها. عجبا لأمة سورة الحديد التي لم تتقن صناعة الحديد... لقد نزل علينا القرآن وفيه قوله تعالى في سورة الحديد [لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس..]. الآية. وقوله تعالى: [بأس شديد] فيه إشارة للصناعات الحربية، وقوله تعالى ومنافع للناس فيه إشارة للصناعات المدنية. ونحن للأسف لم نصنع أي منها بل إننا كل على غيرنا، إننا نستورد السلاح الذي ندافع به عن أنفسنا، فإذا كف الغربيون أيديهم عن إمدادنا بالسلاح فلن نستطيع أن ندافع عن أنفسنا، ونحن بلاد زراعية ومع ذلك نستورد نصف أقواتنا أو أكثر، فإذا كنا نستورد قوتنا وسلاحنا فنحن متخلفون قطعاً.
لقد حاولنا النهوض منذ عهد محمد علي وخطونا فيه خطوات.. وكان ذلك تاريخيا مع اليابان أو قبيل اليابان.. فأين اليابان وأين نحن؟. وكوريا بدأت بعد الحرب العالمية الثانية ومنتجاتها الآن تغزو أسواق أوروبا وأمريكا. إن البعض يقولون إن الإسلام هو المسئول عن تخلفنا، وأنا أقول إن العكس هو الصحيح، فالإسلام دين التقدم العلمي والحضاري وهو الذي صنع الحضارة الإسلامية المتوازنة والمتكاملة والمتميزة التي كانت مصدر إشعاع للعالم في ذلك الوقت. لقد كانت جامعاتنا موئلا لطلاب العلم في العالم أجمع، وكانت لغتنا هي لغة العلم التي كتب بها الطب والفلك والفيزياء والكيمياء.. الخ. والآن يزعمون أن جامعاتنا ولغتنا عاجزة عن استيعاب هذه العلوم الحديثة. لقد كان الشباب في أوروبا إذا أراد أحدهم أن يثبت للآخرين أنه مثقف يتكلم ببعض الكلمات العربية كما نفعل نحن الآن مع اللغات الأوروبية. وكانت أسماء علماء المسلمين هي أشهر الأسماء في العالم كله. ففي الطب كان هناك الرازي وابن سينا والزهراوي وابن رشد وابن النفيس، وفي الكيمياء جابر بن حيان وفي الطبيعيات والبصريات الحسن بن الهيثم. ولو نظرنا إلى علم الطب لوجدناه قد قام على جهود هؤلاء الأفذاذ، التي كانت كتبهم هي المراجع العالمية المعتمدة مثل القانون لابن سينا والحاوي للرازي والكليات لابن رشد..الخ.
هذه هي حضارتنا التي استمرت قرونا ولم يحدث فيها ما حدث في حضارات أخرى بين العلم والدين، لأن العلم عندنا دين والدين عندنا علم. وعلماؤنا الكبار قالوا إن كل علم يحتاج إليه المسلمون في دينهم ودنياهم فإن التبحر فيه فضل كفاية، وكذلك الصناعات التي يحتاج إليها الناس. إن الأديان الأخرى يقوم فيها الإيمان على الوجدان وليس على العقل، أما في الإسلام فالدين والإيمان يقومان على العقل والبرهان والتثبت، قال تعالى [قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين].
ولا بد أن يكون الإيمان عن بينة ودليل وبصيرة.. ومؤرخو الغرب أنفسهم يعترفون بذلك.. إن في حضارتنا كثير من العلماء والمشاهير الذي نشأوا نشأة دينية وتثقفوا ثقافة دينية ومع ذلك برعوا في العلوم المختلفة وقامت الحضارة على إسهاماتهم. فابن رشد أعظم فلاسفة المسلمين على الإطلاق وأعظم شارح لأرسطو والذي عن طريق هذا الشرح انتقلت فلسفة أرسطو إلى أوروبا.
هذا الرجل درس اللغة والقرآن والفقه، ومع هذا فهو طبيب من أعظم أطباء العالم وكتابه 'الكليات' من أعظم كتب الطب في أوروبا، وهو مع ذلك القاضي ابن رشد من مشاهير قضاة الحنفية، وهو فقيه موسوعي وأعظم ما كتب في الفقه المقارن هو كتابه 'بداية المجتهد ونهاية المقتصد'. والفخر الرازي كان إماما في التفسير وإماما في علم الكلام وعلم الأصول وهو كذلك طبيب. وابن النفيس كان أحد فقهاء الشافعية، والخوارزمي أسس علم الجبر واخترعه ليحل مشاكل المواريث في علم الفقه.
وهكذا فإن الإسلام لم يقف في وجه الحضارة والتقدم بل هو الذي صنع الحضارة والتقدم، وإذا كانت مظاهر الحضارة الإسلامية قد ظهرت في العصر العباسي فإن أسس هذه الحضارة وضعت في عصر النبوة.
وأضاف د. يوسف القرضاوي أن الحضارة الإسلامية لم تنشأ من فراغ وإنما نشأت في أمة متهيئة وفي بيئة ومناخ أقامه الإسلام، والذي هيأ هذه البيئة لهذه الحضارة هو القرآن الكريم. وأهم ما فعله القرآن هو أنه صنع العقلية العلمية التي ترفض أن تؤسس أمورها على الظن والوهم ولكن على الحقيقة واليقين. فقد رفض القرآن اتباع الظن والأهواء والعواطف.. فقال [مالهم به من علم إلا اتباع الظن] وقال [إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون]. كما رفض القرآن التقليد الأعمى، فرفض تقليد السادة والكبراء والزعماء [وقالوا ربنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيل]. ورفض تقليد الآباء في الإيمان [إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون]. كما نهى الإسلام عن تقليد الغير فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم [لا يكن أحدكم إمعة يقول أنا مع الناس إن أحسنوا أحسنت وإن أساءوا أسأت]. فالإنسان لا ينبغي أن يفكر برأس غيره ولكن يفكر برأسه هو، وابن الجوزي يقول: 'اعلم أن المقلد على غير ثقة فيما قلد كأنما أعطاه الله العقل ليفهم به، وقبيح من أعطاه الله شمعة أن يطفئها ويمشي في الظلمة'. وقد عرض لنا القرآن نماذج وصور يوم القيامة للذين اتبعوا والذين أتبعوا ثم في النهاية جعل اللعنة على الجميع [قال لكل ضعف ولكن لا تعلمون].
والقرآن ما لبث يقول [أفلا تتفكرون].. [لقوم يعقلون]..[ لقوم يعلمون] فالفكر والنظر والرأي والحجة والبرهان كلمات لا نجدها في الكتب والديانات السابقة ولكن القرآن يستخدمها بكثرة ويكررها عشرات ومئات المرات.
وهكذا فإن القرآن يحاول أن يخلق الإنسان الذي يفكر.
والمشتهر عند علماء المسلمين أن تفكر ساعة خير من عبادة سنة، وفي سورة سبأ دعوة عظيمة للتفكر.. [قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا]. أي أخلصوا لله في طلب الحقيقة، فتفكر أنت وصديقك فإن لم يكن فأنت وحدك ومع نفسك بعيداً عن تفسير العقل الجمعي، فالإنسان في الجماعة ينسى نفسه ويفكر بعقل الآخرين، والإنسان حينما يفكر مع نفسه بصدق يبتعد عن تفسير المجاملات والحسابات.. وهكذا فإن العقلية العلمية التي أنشأها القرآن أهم من الإشارات الإعجازية التي يهتم بها بعض المسلمين... والقرآن بذلك هيأ المناخ لتقوم فيه الحضارة الإسلامية.
واستطرد د. القرضاوي قائلا: إن القرآن لم يكتف بتكوين العقلية العلمية بل حدد للإنسان أهداف حياته، وهذه الأهداف حددها الراغب الأصفهاني في مقاصد ثلاثة:
المقصد الأول: هو العبادة كما يقول القرآن [وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون].
والمقصد الثاني: هو الخلافة أي أن يكون الإنسان خليفة لله في الأرض يقيم فيها الحق والعدل [قال إني جاعل في الأرض خليفة].
المقصد الثالث: هو عمارة الأرض [هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها]. أي طلب إليكم أن تعمروها. وهذه المقاصد الثلاثة متداخلة ومتكاملة والمسلم يعبد ربه بها. والتقدم الإنساني ليس تقدما ماديا فقط. فالمنظور الإسلامي لا يعمر الأرض ويخرب الإنسان، بل يعمل على عمارة الأرض وعمارة الإنسان، ويعمل على إحداث التكامل بين الروح والمادة..بين العقل والقلب.. بين المثال والواقع.. بين الدنيا والآخرة.
والإسلام أعطى الدوافع للإنسان كي يتحرك، فقد يكون الإنسان لديه هدف ولديه عقلية جيدة ولكنه قد لا يكون لديه الحافز، ولا يوجد حافز أعظم من الإيمان. ومن أكبر السلبيات في حياتنا المعاصرة أن أمتنا لم تجد أهدافا كبيرة تعيش بها. إن العرب فتحوا بلاد الفرس والروم لأنهم أحسوا أن عليهم رسالة عالمية، وأنهم أمة لم تخلق لنفسها بل خلقت وأخرجت للآخرين، فهي أمة ذات رسالة وحينما أحست بهذه الرسالة انطلقت في الآفاق. وقد عبر عن هذه الرسالة صحابي ليس من علماء الصحابة ولكنه تربى في مدرسة النبوة وهو ربعي بن عامر في حديثه مع رستم قائد الفرس الذي سأله من أنتم فقال ربعي بن عامر: 'نحن قوم ابتعثنا الله لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله ومن ضيق الدنيا إلى سعتها ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام'. وهكذا وجد المسلم لديه الحافز ليخدم العلم ويبني الحضارة، لأن العلم أصبح عبادة مادام قد جند نفسه لله، ففي هذه الحالة تصبح الدنيا محرابا كبيرا للمسلم.
فهو إذا تعلم وعمل وأتقن عمله فإنما يفعل ذلك لله [قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين]. لقد اختلف علماؤنا في أي الحرف أفضل ..فمنهم من قال الزراعة أفضل لقول رسول الله [ما من مسلم يزرع زرعاً أو يغرس غرساً إلا كان له به صدقة]. وقال آخرون بل الصناعة أفضل لقول رسول الله [ما أكل أحد طعام قط أفضل مما يأكل من عمل يده وإن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده]]. فكان داود عليه السلام يعمل حداداً.. وقال آخرون بل التجارة أفضل لقول رسول الله [التاجر الأمين الصدوق مع النبيين والصديقين والشهداء]. إلا أن بعض المحققين قالوا ليس هناك حرفة أفضل ولكن ما تحتاجه الأمة هو الأفضل، فلو احتاجت الأمة إلى السلاح فصناعته هي الأفضل وهكذا.
الأسباب الحقيقية لتخلف المسلمين
وأضاف د. القرضاوي أن بعض الناس يقدمون أسبابا غريبة لتخلفنا فبعضهم يقول إن سبب ذلك هو انهزام المعتزلة أمام أهل السنة..أي انهزام المدرسة العقلية وأحرار العقل أمام المدرسة التقليدية النصية. وهذا سبب غير حقيقي فالمعتزلة كان مجال عملهم هو الميتافيزيقا وما وراء الطبيعية، واهتموا بالجدل والفلسفة التي تأثروا بها بالفلسفة اليونانية وأثاروا قضايا لا معنى لها، وكان لها أثرها السلبي في التاريخ والفكر الإسلامي مثل معركة خلق القرآن. وأحرار الفكر هؤلاء 'المعتزلة' استعملوا السوط والسجن في معركتهم، وما فعلوه بالإمام أحمد بن حنبل معروف للجميع.
كما أن المعتزلة لم يكونوا في موضع العقلية العلمية التي تشتغل بعلوم الحضارة. ثم إن العلوم ازدهرت بعدهم على أيدي ابن سينا والفارابي والكندي والبيروني وغيرهم. والبعض الآخر قال إن سبب تخلف المسلمين يرجع إلى الإمام أبو حامد الغزالي تلميذ المدرسة النظامية لأن هذه المدرسة انتصر فيها الفكر الديني على الفكر السلفي. وإن الغزالي في تهافت الفلاسفة ضرب الفلسفة ضربة لم تقم لها بعده قائمة. ونحن نرد على ذلك قائلين إن فلسفة تموت بكتاب واحد لا تستحق الحياة، كما أن الفلسفة لم تمت بعد الغزالي، والمعتزلة لم ينتهوا، فالفلسفة أنجبت بعد ذلك ابن طفيل وابن باجه وابن رشد والاعتزال أنجب الزمخشري والقاضي عبد الجبار.
إن أسباب تخلف المسلمين كثيرة منها ما هو سياسي ومنها ما هو اجتماعي يتعلق بالاسترخاء وشيوع الترف، ومنها ما يتعلق بالجوانب السلوكية في حياتنا حيث انتشر بيننا التصوف الأعجمي وانتشرت أفكار الصوفية التي تطلق الحياة وتترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أفكار أشاعت الجبرية في العقيدة، والسلبية في التربية، والبدعية والشكلية في العبادة، والحرفية في التفسير والظاهرية في الفقه.
لقد أصبح التقليد هو السائد في الفقه وعمت المذهبية وسمعنا من يقول لا يجوز الخروج عن المذهب وأنه ليس في الإمكان أبدع مما كان وما ترك الأول للآخر شيئا.
وفي الأدب انتشرت المحسنات اللفظية واختفى الإبداع الحقيقي. حتى في الصناعة اختفى الإبداع والابتكار، وهكذا ضرب الجمود حياتنا كلها. وفي هذا الوقت كان الغربيون قد اقتبسوا من المسلمين منهج العلم فبدءوا يستيقظون وبدأنا نغط في نوم عميق، واستمر نومنا واستمر استيقاظهم إلى أن حدث ما حدث، واستعمر هؤلاء البلاد الإسلامية كلها وبدءوا في تطويع عقولنا قائلين لنا إننا خلقنا لنقاد لا لنقود، وخلقنا لنبتدع لا لنبتكر. وأنظمتنا التعليمية مسئولة أيضا عن هذا التخلف فهي لا تعطي الفرصة لتخريج النوابغ والمبتكرين بالقدر الكافي.
إن أمريكا منذ عدة سنوات شكت من تدهور نظامها التعليمي وأعدوا تقريرا اسمه [أمة في خطر] يقترح العلاج بالتعاون مع خبراء يابانيين.. إنهم أمة جادة.. صحيح أن عندهم نواقص كثيرة ولكن من فضائلهم أنهم يعالجون أخطاءهم، ولذلك فعلينا أن نعيد بناء أنظمتنا التعليمية من جديد حتى تخرج الطالب الذي يحب دينه وأمته ويعبد الله بأن يفكر وأن يعمل.
ونظامنا السياسي مسئول عن هذا التخلف.. إن الحرية تصنع المبدعين والاستبداد يقتل الإبداع. إن عنترة بن شداد لما رآه أبوه أسوداً تركه مع العبيد يرعى ويحلب وحينما هوجمت قبيلة عبس وأوشك الأعداء أن يدخلوا إلى الحريم دعاه أبوه ليقاتل فقال عنترة قولته المشهورة 'إن العبد لا يحسن الكر ولكنه يحسن الحلابة والصر'. فقال له أبوه 'كر وأنت حر'.. وهنا هاج عنترة كالوحش حتى هزم أعداءه.. إنه فعل ذلك حينما اعترف به إنسانا حراً.. أما إذا كان الإنسان لا يأخذ حقه ويشعر أنه غريب في بلده وأن ثروة بلده منهوبة وليست ملكا له فعندئذ سيموت حياً ولن يستطيع أن يقدم شيئا.
وهناك أمر آخر يجب الانتباه له وهو أننا لن ندخل عصر التكنولوجيا فرادى ولن نستطيع ذلك إلا مجتمعين.. وإذا ظلت القطرية في تفكيرنا فلا أمل في التقدم. إن الدول الكبرى تشترك مع بعضها في صناعة طائرة.. هؤلاء نسوا الصراعات القديمة وأصبح لديهم السوق الأوروبية والبرلمان الأوروبي، أما نحن فالصراعات بيننا تتزايد.. كما أنه ليس من مصلحة العرب أن ينفصلوا عن المسلمين ويخسروا هذه الكتلة البشرية الكبيرة التي تصل إلى 1.3 مليار مسلم.
ونحن أيضاً لن يمكننا التقدم بدون تعبئة إيمانية وأخلاقية. إن البعض يقول وما دخل الإيمان والأخلاق بالحضارة والصناعة؟ لكنني أقول: إننا أمة متدينة ولن نستطيع أن نتقدم إلا بالدين. إذا كنا نريد زرع فضيلة الصدق فيجب مخاطبة الناس في هذا المضمون بالخطاب الديني وتعريفهم أن هذا شرعي وثوابه كذا وعقابه كذا وأن الصدق جزء من الدين. إن الإيمان في هذه الأمة يصنع العجائب والمعجزات وهذا ما ينبغي أن نغرسه في أعماق هذه الأمة، فلا يمكن لأمة أن تصنع حضارة وهي ليس لها مشروع متكامل ولا رسالة تميزها عن غيرها. إن الأمة ينبغي أن تشعر أن لها هدفاً ومشروعاً يميزها عن الآخرين. والذين يظنون إن الإيمان والأخلاق بعيدان عن هذه التعبئة واهمون، كما أننا في حاجة إلى جهود مكثفة للتخلص من المورثات التي تعطل انطلاقنا. إن لدينا رواسب من عصور التراجع الحضاري.. فليس كل ما ورثناه صحيا، لذلك فلا بد أن ننقي تراثنا حتى لا يبقى إلا الصحيح، كما ينبغي أن نخلص الأمة من الغريب والدخيل عليها .. فهذه الأمور الدخيلة غيرت فعلا طبيعة أمتنا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.