لقد أثبت الفكرالاسلامي \"النهضوي \" في شقّه السياسي ، ولا يزال ، كفاءةً متميزة في تخطي العقبات والنّجاة من المطبّات ،في محطات متتالية كان آخرها انتخابات المجلس التأسيسي وتسيير جلساته الأولى، وما بقي عليه الا أن يثبت عينَ الكفاءة في شقّه الدّعوي، وذلك باعداد أنصاره ومُناضليه عَقَديّا ليكونوا مفاتيحَ للخير ، مغاليق للشر محمد أبو عدنان العرضاوي- آراء ومقالات - الوسط التونسية: شاء الله أن ينقلب كل شيء ، في زمن قياسي ، و شاء عزّ وجل أن لا تمر تسعٌ من الشهور بعد هروب المخلوع الا و تنطق صناديق الاقتراع بلسان نهضوي مبين ، رغم كيد الكائدين وفِخاخ الحاسدين ، واتضح جليا أن الشعب يبغي العودة الى المنابع الصافية لهويته ، وان زمن الزّيْف قد زال الى غير رجعة ، واعتلت حركة اسلامية موقع القرار ، برصيد نضالي شَهد له العدو قبل الحليف ، وككل النّاجحين كان لابد للحركة من حاسدين ، لكن أن يَخلُص البعض الى اتهامها بعلمنة الاسلام فذلك من الظلم وقصور الفهم . إن من التّجنّي الشديد أن يقف شخص ، مهما كان علمه ومهما كان شأنه ، لينزع عن حركة النهضة جوهرها الاسلامي ومقصدها الرّباني ، لتصبح حزباعلمانيا كغيرها من الأحزاب ، لأسباب كثيرة ، غير أنه من الواجب أن نردّ على هذه الشبهة، ولن تعوزنا حجّة و لا برهان ، فالأمر كأنْ تنفي البياض عن النّاصع والحُمرة عن القاني . لابد من أجل ذلك أن نبحث في بدايات الحركة و أطوارنشأتها تاريخيًا ، حتى نصل الى منابع الفكر\"النهضوي\" ان جاز التعبير ، فمع بداية العودة الى الهوية الأسلامية كبديل حضاري يُناجز، وباقتدار، ثقافة القوة الوافدة ،التي بدأت رياحها تهبّ قبل أن تعصف في مابعد عَلَت في جنبات العالم الأسلامي الأصوات مُحذرة من هذا الوافد ،الذي لم تكن قوته التي انطلق بها من قوّة جوهره بل من جوهر قوّته ، وكانت منارة الزيتونة أول دروع الهوية في تونس ، وأول منابر أنصارها ، وانبرى مؤسسو الجماعة الاسلامية يُنافحون من خلالها عن البديل الاسلامي أشدّ المنافحة ، لا يثنيهم في ذلك جُنوح الدولة التونسية الوليدة ، وزعاماتُ ما بعد الاستقلال، الى تبنّي المشروع التغريبي العلماني ، والمُضيّ الحثيث في القطع الحاسم مع الثقافة العربية الاسلامية واعتبارها موروثا غير محفّز على التقدم ، فكان اطارُ الجماعة الحاضنَ الرئيس للفكر الاسلامي الذي تفرعت منه بعد ذلك جلّ اجتهادات الاصولية بغضّ النّظر عن قربهاوبعدها عن الواقع, وكان من أبرز قادة هذه الجماعة شيوخُ حركة الاتجاه الاسلامي والتي أصبحت تُعرف، الى اليوم، بحركة النهضة. إنّ التمشّي الفكري الذي ارتآه زعماء هذه الحركة ، حسب الفهم العميق لواقع شَهِد الكثيرمن التّغيرات ، هو الفكر الذي أثبت ولا يزال جدارته في تصوّر الحلول المناسبة لأوضاع صعبة ومعقّدة ،خصوصا بعد ردحٍ من الزمن تجاوز نصف القرن ، كان من أبرز سماته العنف الشديد ، والمُبالَغ فيه أحيانا ، في القطع مع الثقافة العربية الاسلامية واقصائها عن جميع أوجُه الحياة . لقد كانت الأوضاع في تونس غير تلك التي شهدتها أغلب الدول الاسلامية ، في صوَر هذا القطع المنهجي مع كل ما هو\"إسلام\" ، لأن ألأدوات التي استُعملت في تونس جعلت منها بلدًا ، يوَدّع بحسرة و كل يوم جانبا من هويته ، وينزِع قهرًا ثوبا من أثوابها ، حتى صار الى حالٍ كادت تنسيه نفسه، بعد أن كاد ينسى اسلامه ، فحُقَّ عندئذ أن تتميز اجتهادات الفكر الاسلامي التونسي عن غيرها من التّصورات بالنّظرالى منشأها، ورغم تمايزها فانها تبقى فكرًا اسلاميا خالصا ينْبع من صَفاء ذات العين، وينهل من نقاء ذات المرجع . إنّ من العسير على مجتمع ، سادت فيه ولزمن غير يسير ، ممارساتٌ ومناهج حياة مخالفة لموروثه الحضاري القِيَمي أن يعود الى رحاب هذا الموروث في قفزة واحدة ، بعد أن زُحزح عنه وحِيل بينه وبين منابعه ، وبَعُدت بينهما الشُّقة ، فأصبح البعض من هذا غريبا عن البعض من ذاك ، وصارت القفزة المباشرة المطلوبة ضربًا من المُخاطرة ونوعًا من الصدمة ، يصعُب حتى على المنادين بها تحمّلها . إنّ بناء النفوس مهمة تقتضي التّرفق والحُنُوَ والصبر ، فكما حاول دعاة التّغرب بكل المعاول، من مواقع سهّلت لهم التّمسكن والتّمكّن ، هدْم هوية مجتمعٍ بأسره ، وبناء أخرى على أنقاضها وصار من العبث القولُ بفشلهم التام كان على الأصولية الاسلامية المضادة أن تبادر الى الصبر وطول النفس والحنكة والحكمة، لهدم ما بُني واعادة بناء ما هُدّم ، وما ذلك باليسير . ويكفي القول أن حركة النهضة كانت في وقت ما ، رمزا للاسلام السياسي المحارَب والمقموع بكل الوسائل والمُطارَد في الداخل والخارج ،فكيف لمن يدّعي بعلمانيتها أن ينسى أنها كانت خصما لأعتى النظم الاستبدادية المعادية للأصولية في المنطقة ، و ضحية لأشدّ وسائل بطشه . إنّ اجتهادات الحركة ، السياسية منها والشرعية ، لا يمكن الا أن تمثل تطوّرا للفكر الاسلامي ، يواكب بذكاء تطوّر اللحظة التاريخية بأنساقها ، لمجتمع شهد تحوّلات عميقة أكسبته خصوصيةً بين المجتمعات الاسلامية ،الشرقي منها والغربي ، فتونس شاء لها أعداء الهوية الاسلامية منذ الاستقلال أن تكون نموذجا لعلمانية فجّة بلا حياء ، بممارسات سبّاقة في محاربة التّديّن وتجرّؤ على المقدسات لم تعرفه أغلب المجتمعات الاسلامية حولها. إنّ شراسة الهجمة التي تعرضت لها الثقافة الاسلامية في تونس ، لعقود طِوالٍ عِجاف ، فرضت على الفكر الاسلامي ، تحدّيات خطيرة ّذاتية وموضوعية ، كان عليه أن يرفعها دون مجازفة ولا تسرّع ، أولها أنّ محاولة اقصائه من الساحة السياسية كانت ممنهجة وجذرية، طالت جميع أوجه الحياة الاجتماعية ، حتى الدينية منها ، وثانيها أن هذا الاقصاء تزامن مع محاولات دؤوبة لبناء ثقافة بديلة ، بكل الوسائل ، كاد معها المسجد أن يصبح متحفا ، بعد أن صار المظهر الشرعي رمزا للتّخلف والرجعية، ومُسِخت الأفكاروالعقائد وأصبح المتمسّك بدينه وثقافته كالسائر نحو حتفه . ومن ثمّ ، كان لزامًا على الحركة الاسلامية ، التي كان دُعاتها أول ضحايا الماكينة التغريبية القامعة ، أن تراجع أدواتها وتهيئ خطابها وفق ما آلت اليه نفوس التونسيين ، حتى تكون حركة الاصلاح متأنّية ، تدوم من الزمن ، الردح الذي فعلت فيه معاول الهدم فعلها، دون تسرّع ولا صِدام ، لتصل بالناس الى برّ الهوية الأصيلة الآمن . إنّ اسلامية حركة النهضة ، قُبيل الثورة وبعدها ، لتعبّر عن نظرٍ ثاقب ورأي متّزن دقيق ، لا يفرّط البتّة في الأصول ، محللاً لِواقعٍ آل اليه المجتمع التونسي ، وسائرا في صبر وتُؤدةٍ الى اصلاحه ، دون تهوّر ولا مجازفة ، محاولا العودة به بداية الى ماقبل التشوهات، لينطلق لاحقا في تجميل صورته بكل أدوات البناء الحضاري التي شَيّدت الدولة الاسلامية الأولى . إنّ المتأمّل في ما وصل اليه المجتمع التونسي في علاقته بهويته الأصيلة ، لابد أن يمرّ بباله قول الله تعالى : \"نسوا الله فأنساهم أنفسهم \" ، فهذا مجتمع كاد أن ينسى ربّه ، فكاد بالتالي أن ينسى انتماءه ويُضيّع ما بقي من مقومات هويته ، ولكي ينجح عقارالاصلاح في علاج ما أفسده زمن العابثين ،لابد أن يُذكَّر الانسان التونسي أولا بانتمائه الحضاري العربي المسلم ، وأنّه في لحظة تاريخية ما، وفدت على ثقافته الاسلامية عواملٌ ذاتية و موضوعية ،حادت بها عن صفاءها الأصيل، ثم يُدعَى بعد ذلك الى السّير كما سار الأوّلون لتأكيد أحقّية ثقافته في الرّيادة ، حلاً لكل ما طرأ على البشرية من مشاكل،وتلكما لعمري مهمتان ليس أعسر منهما ولا أخطر. لقد أثبت الفكرالاسلامي \"النهضوي \" في شقّه السياسي ، ولا يزال ، كفاءةً متميزة في تخطي العقبات والنّجاة من المطبّات ،في محطات متتالية كان آخرها انتخابات المجلس التأسيسي وتسيير جلساته الأولى، وما بقي عليه الا أن يثبت عينَ الكفاءة في شقّه الدّعوي، وذلك باعداد أنصاره ومُناضليه عَقَديّا ليكونوا مفاتيحَ للخير ، مغاليق للشر ، دعاة أكفاء آخذين بيد المجتمع في رفق وحنوّ الى طريق الله القويم، وأحسب أن قادة النهضة يدركون صعوبة المهمة ، وَاعُون بجسامة الامانة وعِظم المسؤولية نحو مجتمعهم، ونحو منتسبي حركتهم ، وقبل كل ذلك نحو ربهم ، الذي هيّأ لهم أسباب النّجاح وأمدّهم بعونه وتوفيقه ، وأحسب كذلك أنّهم قادرون على التخطّي عازمون على الوفاء ، لأنهم أبناء حركة اسلامية أصيلة ،أذِن الله لها أخيرًا أن تقود ، وهو على نصرها اذايشاءقدير. محمد أبو عدنان العرضاوي استاذ علوم التربية الوسط التونسية - 4 ديسمبر 2011