حديثي سيكون تفصيلًا لبعض النقاط الأساسية التي أرى وجوب تفصيلها عن الحالة الاحتجاجية التونسية بعد انتخابات المجلس الوطني التأسيسي والتوصل إلى اتفاق على تولي منصف المرزوقي منصب رئيس الجمهورية التونسية ومصطفى بن جعفر منصب رئيس المجلس التأسيسي و حمادي الجبالي رئاسة الحكومة الانتقالية. خلال السنوات الماضية من الحكم الدكتاتوري للرئيس الهارب زين العابدين بن علي، غرس في أرض تونس الخضراء كثيرا من الفوضى، وكثيرا من المحسوبية، وكثيرا من المجاملات السياسية، وكثيرا من التلاعب والفساد الذي مر دون حساب أو عقاب، وكثيرا من الطبقية والتفرقة في المناصب والمكاسب... ليثمر هذا كله حقولاً وحقولاً من الحنظل والشوك. أثمر ضياعاً لهيبة الدولة، وتجاوزاً لكل القيم والأعراف والمبادىء الأخلاقية. أكتب هذا المقال للتاريخ، ليس خوفًاً ووَجَلا من حساب على صمتٍ نرفض قبوله، بل ليكون رسالة نرسلها من حاضرنا هذا للمستقبل، ليقرأها من يقرأها في لحظة مستقبلية، سواء أكانت تلك اللحظة هي الساعة القادمة أو بعد يومين، أو بعد قرن أو دهر من الزمان، وليستنتج ذلك القارئ مرّة أخرى أن التاريخ التونسي لم يمت، لأن روح الإنسان التونسي لم تمت، بل إنها تتشبث بإرادتها وبقدرتها على صنع هذا التاريخ. أشعر أننا بالكتابة للتاريخ كما أفعل الآن مثل من يبعث رسالة إلى المخلوقات المجهولة في الكون الفسيح عن أن هناك كائنًاً إسمه الإنسان يشاركهم الوجود في الكون الفسيح: هنا نحن نبعث رسالة للمستقبل إن الشعب التونسي حيّ كريم، يَقبَل الخير ويُقبِل عليه ويرفض الشر والفساد ويعاقب عليه، وأنه بخير لأنه حي قادر على حمل الأمانة التي تنوء عن حملها الجبال، وهي إرادة التغيير. حديثي سيكون تفصيلًا لبعض النقاط الأساسية التي أرى وجوب تفصيلها عن الحالة الاحتجاجية التونسية بعد انتخابات المجلس الوطني التأسيسي والتوصل إلى اتفاق على تولي منصف المرزوقي منصب رئيس الجمهورية التونسية ومصطفى بن جعفر منصب رئيس المجلس التأسيسي و حمادي الجبالي رئاسة الحكومة الانتقالية. النقطة الأولى هي أن التحرك الاحتجاجي هو حالة إنسانية، منبعها الحفاظ على كرامة الإنسان التونسي، وعلى إبقاء جذوة إرادته حيّة، كما أنها تنطلق من الشرائع والقوانين، كما تضمن القوانين المعاصرة كرامة الإنسان، فالإعلان العالمي لحقوق الإنسان يضمن للإنسان التعبير عن آرائه ورفضه لما يحد من حريّته وينتهك كرامته، كما ينص الدستور التونسي على هذا الحقّ في التعبير السلمي عن الرأي. فالحالة الاحتجاجية الحالية تنبع من نفس منبع الكرامة والإرادة: رفض الظلم ووجوب تغييره. النقطة الثانية مرتبطة بالنقطة الأولى، ومفادها أن التحرك الاحتجاجي السلمي هو حالة شعبية، فالتونسيون بمختلف المناطق يعبرون عن احتجاجهم على كثير من الأمور التي سادت قبل هذا الاحتجاج، وهي ليست مجرد فورة شباب فقط كما يحلو للبعض القول، فالرسالة واضحة هنا إذاً: أن الحالة الاحتجاجية هي حالة مطلبية لأن مطالبها تتسامى على المصالح الضيقة والمباشرة للمحتجين أو لمناطقهم، بل أن الجميع رفعوا مطالب عامّة، منطلقها رفض جادّ وصلب لممارسات سلبية وُجِدَت في كل الأرض التونسية، وهي مطالبٌ سينهمر غيثها المدرار، حين تتحقق، على كل الأرض التونسية الطيبة. فالاحتجاجات أحدثت قطيعة حاسمة مع الثقافة التنظيمية الحزبية وتقاليدها السيئة من حلقية، وانغلاق، وانفصال عن المحيط الاجتماعي، ومخاطبة فوقية له، وأعادت للسياسة حيويتها ونصابها كشأن عام لا كحرفة تمتهنها نخبة صغيرة وتنوب عن المجتمع والشعب في ممارستها، وحررتها من الموسمية (الانتخابية غالباً) ومن تقاليد المساومة والرسائل الرمزية المتبادلة بين المعارضة والسلطة، فجعلتها ناطقة بعد خرس، فصيحة بعد تلعثم. النقطة الثالثة التي ينبغي على الجميع، وخصوصاً الدولة، وضعها نصب الأعين هي أن الحالة الاحتجاجية ليست هي المشكلة بل هي البادرة اللازمة للحل والإصلاح، أي أن التحرك السريع والبعيد المدى لا ينبغي أن يركز على كيفية ''الخروج من المأزق الحال'' (بحسب اللغة الصحفية المعتادة) وعدم تكرار ظهوره في المستقبل، بل علينا أن نفهم أن هذا ''المأزق'' سيكون هو نبع الخير العميم الآتي على تونس، لأنه لو لم يحدث لسارت الأمور السلبية كما كانت. وربما قال قائل '' ولكن هذا يدفع بخلخلة استقرار البلاد '' والجواب هو أن البلدان الكريمة لا تعيش لكي تستقر، بل إنها تستقر لكي تعيش كما أنها تنتفض كي تعيش حرَّةً كريمةً، وحين يمتنع العيش الحرّ الكريم فلا ضير من خلخلة الاستقرار، ولا نقصد بطبيعة الحال خلخلة الاستقرار الأمني، فهذا خط أحمر كلنا ضده (ودرء الضرر الأعظم مقدم على جلب المصلحة الأصغر) ولكن المقصود بالاستقرار الذي ينبغي علينا جميعاً خلخلته هو استقرار أحوال الفساد بكل أشكاله، فهو استقرار ينخر البلد، ويصيب عظامها بالهشاشة الوطنية، ويتعداه إلى إصابة روحها بموت الكرامة والإرادة. هذا النوع من الاستقرار من الواجب المبادرة إلى نفضه وهزّه بل وزلزلته. الانتفاض الاحتجاجي في تونس هو إذاً احتجاج لأنه يعبر عن رفض الفساد بكل أشكاله، ويعبر عن الأحلام والآمال الوطنية بشتى ألوانها، ولا ينبغي أن يتم التعامل معه على أنه هو المشكلة. الاحتجاج هو ضرورة لازمة من ضرورات العلاج، وما الفساد والصمت عليه، واحتضار الأمل أو موته، إلا السم الزعاف والداء الذي يقتل الأوطان والشعوب. النقطة الرابعة تتعلق بمستقبل تونس، وحق الجميع في المساهمة في صنعه. شعر الكثير من التونسيون لوقت طويل أنهم مغيّبون عن صنع حاضرهم ومستقبلهم. شعروا بأنهم مجرد مشاهدين لمسلسل ممل لا يغطي حلقاته إلا ضباب الفساد بكل أشكاله، وهو مسلسل بدا لوهلة أن حلقاته لا تنتهي أبداً. ما أود أن أقوله هنا هو أن الحالة الاحتجاجية التي تعم تونس تخبرنا بأن تونس ملك للجميع، وليس لعائلات معينة تتحكم في دواليب الوزارات والسفارات والمؤسسات الحكومية التونسية بأكملها، ينبغي أن يشارك الجميع في صنع الحاضر والمستقبل مشاركة متكاملة تكون فيها الحكومة أمينة على مصالح الشعب التونسي، كما ينبغي أن توجد من الضمانات المؤسسية ما يكفل هذا، وأخص بالذكر ضرورة تفعيل أدوار المجلس الوطني التأسيسي إلى مجلس يقوم بالدورين بالتشريع ومراقبة أداء الحكومة ومحاسبتها. يجب أن تكون سلطاته الرقابية على العمل الحكومي أوسع مما كانت عليه في الماضي الغابر. النقطة الخامسة حول مفهوم '' التخريب ''. ذكرت في الأعلى أن درء الضرر مقدم على جلب المصلحة، ومعنى هذا أن كل التونسيون يرفضون أي حالة من حالات تخريب الممتلكات العامة أو الخاصة، ولكن علينا أن ننتبه إلى أن التخريب، وخصوصاً الذي شهدناه في بعض المدن التونسية، هو محض هامش للحالة الاحتجاجية وليس أساسها، وهو أمر ينبغي أن يتم التعامل معه ضمن القانون، وينبغي استخدام القوة مع من يحاول أن يفتعله لأي سبب، فلا يمكن القيام بالإصلاح من خلال القيام بالفساد. كما أود أن أشير إلى قضية في غاية الأهمية في هذا السياق، وهي أنه ينبغي على الجميع ألا يحصروا التخريب في ما شهدناه، من حرق وإتلاف للممتلكات، بل أن كل فساد هو تخريب، وكل استغلال لمنصب من أجل إثراء أو نفوذ أو مصلحة أياً كانت هو تخريب. التخريب لا ينبغي أن ينحصر في ما حدث في بعض المدن التونسية فقط، بل أن تخريب الوطن من خلال الفساد السياسي والاقتصادي والإداري والمالي هو تخريب أخطر بكثير من تخريب الممتلكات (المرفوض بقوة كما أشرت). وهذا يعني أن على الدولة الجديدة أن تحاسب كل المخربين، صغيرهم وكبيرهم، وأن يتم أولاً البحث الحقيقي الصادق في تهم الفساد التي يتهمهم المجتمع بها بناء على قواعد واضحة معلنة على قاعدة '' من أين لك هذا؟ '' وإن ثبتت عليهم التهم فالقضاء التونسي في العهد الجديد كفيل بالتعامل مع كل مخرّب لأي حق وطني وأن ينال من العقاب ما يستحقه. النقطة السادسة تتعلق بمسار تونس المستقبلي عقب هذه الاحتجاجات: لقد غيّرت هذه الأحداث تونس تغييراً كبيراً، وهذا التغيير يقودنا إلى حقيقة أساسية علينا جميعاً أن نفهمها وهي أنه لا عودة للوضع الذي كان قبل الثورة، وأعني بطبيعة الحال ألا عودة للحالات السلبية التي كانت موجودة في عهد الطاغية زين العابدين بن علي، بل أن تونس خطت خطوات للأمام وهي رحلة في طريق واحد هو طريق الإصلاح والتغيير، وهذا يعني أن على التونسيين أن يقفوا جميعاً ضد أي محاولة من أي كان للعودة إلى التعايش مع السلبيات والأمور المرفوضة، والتي قامت الثورة لإنهائها. النقطة الأخيرة هي غلاف لكل النقاط الواردة فيما تقدم، ومفادها أن إصلاحات التغيير المطلوبة ليست إصلاحات معيشية واقتصادية فقط، بل إنها إصلاحات شاملة، وعلى رأسها الإصلاحات السياسية. المطالب المعيشية والاقتصادية طفت على السطح لأنها تمس الناس مسّاً مباشراً في حياتهم ومعيشتهم وحقوقهم المباشرة من وظيفة وزواج ومسكن، وفي تقديم المطالب الاقتصادية المعيشية فإن علينا أن نميّز بين المطالب التي تبدو منطقية قابلة للتحقق والمطالب غير المنطقية التي يصعب أو حتى يستحيل تحققها. يجب أن تكون المطالب في هذه المرحلة واضحة ودقيقة، وقابلة للتحقق، لابد أن نقول أن زمن الأحلام قد انتهى وبدأ زمن الحقيقة، والحقيقة تتطلب أن ننظر إلى الأمور بمنطقية بحتة. كما تتطلب الحقيقة أن يقال أن لا وجود للعصا السحرية التي تضرب بها الأرض فتخرج ما نريد، أو تخفي ما لا نريد. بعض مفردات التغيير يمكن أن تتحقق بسرعة، وقد بدأنا نشعر بها جلياً من خلال انتخابات المجلس التأسيسي وتنصيب رئيس الجمهورية، ورئيس المجلس التأسيسي و رئاسة الحكومة الانتقالية. ولعل ما أصبحت تتمتع به السلطة التنفيذية الحكومية من اختصاصات، وما يتمتع به رئيس الحكومة من سلطة نافذة، يؤسس ولأول مرة في التاريخ السياسي التونسي لانتقال حقيقي نحو توازن في السلطة. فتونس تنتظرها تحديات اقتصادية تتمثل بنسبة عالية من البطالة تصل لحوالي 20 في المائة ومناطق بحاجة ماسة للتنمية وبخاصة في مجال الصحة والتعليم والبنية التحتية وغيرها، فقد تأثرت أهم القطاعات الحيوية التي يرتكز عليها الاقتصاد التونسي وهي السياحة والصناعات التحويلية والنسيج والخدمات والزراعة فضلاً عن الارتفاع الكبير للمديونية الخارجية والداخلية التي فاقت 36 مليار دولار. فلابد من تقليص المديونية والهجرة وتحقيق العدالة الاجتماعية وبخاصة في المناطق البعيدة والمهمشة. أيضاً تجفيف منابع الفساد وفلول النظام السابق، وهذه بحاجة إلى دراسة معمقة ومعالجة صبورة واستبدالها بعقول لامعة وإرادة لا تلين وأيدي نظيفة واجتثات جذور الرشوة مع التعليم والتقنية المطلوبة، كذلك استقطاب عناصر التكنوقراط وذوي الخبرة، وهذه الخطوة لابد منها لتأمين مسيرة الدولة في النهوض والتقدم. ويجب أن تكون منطلقاً لمسار من العمل السياسي الجديد، الهادف للنهوض بالتنمية في مناخ من الالتزام الجماعي بالقانون، والتعبئة والثقة اللازمة لتحريك عجلة الاقتصاد، وتحفيز الاستثمار المنتج. بما يحقق للتونسيين رؤاهم الوطنية لنظام الحياة في تونس، إضافة إلى إصلاح الإعلام التونسي وتحريره من القيود الكابحة للقول والتعبير عن الآراء المختلفة، ووضع النظم التي تحد من الفساد والتخريب بكل أشكاله، ووضع نظام صارم يتمتع بالمراقبة لصرف المال العام بما يضمن عدم التعدي عليه وعدم هدره فيما لا يجني منه المواطن التونسي الخير، وإصلاح حال مؤسسات الدولة المختلفة التي لا يختلف إثنان على وجود ترهل وضعف في أداء كثير منها، ونشر التعليم ومؤسساته بما يضمن حصول كل تونسي على التعليم الذي يرغب فيه وبما يضمن الصالح الكلّي في استعداده للمستقبل، مع وضع التنظيمات التي تضمن المهنية العالية الحقة في مؤسسات التعليم بكل مستوياته. الوسط التونسية بتاريخ 22 ديسمبر 2011