ليست هذه المرة الأولى و لن تكون الأخيرة التي يدور فيها الجدل حول الخطاب السياسي الذي يجب أن تمارسه المعارضة التونسية سواء كانت إسلامية أو علمانية .وبالتالي فالخلاف حول هذا الموضوع ليس جديدا بما في ذلك التجاوزات التي يمكن أن تحصل في حق البعض وما يترتب عنها من نتائج سلبية يدرك جميع من يعمل في هذا الحقل آثارها و ثمارها ، ولعل حالة التشرذم التي تعيشها هذه المعارضة تفسر جزئيا بمثل هذه التفاعلات العاطفية مع كل مخالف ... ما جرنا لهذه المقدمة ما عمد إليه أخوة و أصدقاء لا زلنا نحمل لهم في قلوبنا كل الود و الاحترام رغم أنهم قد سمحوا لأقلامهم أن تكتب عبارات تصنف ضمن قاموس الغمز و اللمز و لا صلة لها بالحوار السياسي الصريح الذي من جملة شروطه الاحترام المتبادل و مناقشة المضامين قبل الأساليب و الابتعاد قدر الإمكان عن محاسبة النوايا وادعاء الكشف عن خبايا النفوس . لا يغفل أحدنا عن التذكير بأنه يقبل بالرأي المخالف و يحترم صاحبه و قد يبالغ في الأمر و يدعي أنه سيدافع عن حقه في التعبير انسجاما مع مبدأ حرية التعبير لكنه على مستوى الممارسة كثيرا ما يفعل عكس ذلك تماما و لن تعوزه الأسباب لتبرير ذلك ، أما إذا وصل هذا الرأي المخالف إلى الخروج عن المألوف أو الخط السائد و تعرض بالنقد لبعض الأشخاص المحوريين من مثل قادة الأحزاب و الزعماء الكبار و الصغار فقد ينقلب أحدنا إلى مدافع كبير أو مهاجم جدير يضرب في كل الاتجاهات معتقدا أنه بذلك يخدم ثوابته و ينصر جماعته وهو في ذلك يخلط في الحقيقة بين واجب الدفاع عن حزبه و واجب احترام الرأي المخالف فيكون عمله مدمرا وهو يخاله معمرا ، و لا نريد أن نأتي بأمثلة على ذلك لأننا نلمس بوضوح أن تحسنا قد طرأ علينا في هذا المجال نريده أن يتعمق و يصبح ثقافة سائدة و الدليل هو عدم انخراط أقلام كثيرة و قديرة في هذا السجال . قد يعبر هذا الرأي المخالف عن نفسه في شكل جملة من الانتقادات لأشخاص محوريين فيعترض عن خياراتهم ومحتوى خطابهم ويسرد ما يعتقد أنه أخطاء لهم ، فلا يجب أن يكون ذلك مبررا لاستعمال أسلوب الهمز و اللمز فضلا عن أسلو ب "التحقير" خاصة إذا صدر ذلك عن غير هذه الزعامات لأن هذا الأمر يتحول إلى نوع من التزلف و التملق لا نريده أن يترسخ فيصبح عادة عند المعارضين كما هو ثقافة عند الموالين ... و السبب لا يخفى إلا على المبتدئين باعتبار أن هؤلاء القادة هم في موقع يسمح لهم بالتأثير الأكبر في الخيارات و السياسات و بالتالي من الطبيعي أن يحملوا مسؤولية الانتصار و الهزيمة و النجاح والإخفاق . و لعله من المفيد التذكير بأن الحوار الكتابي يحتاج من الفرقاء إلى اطلاع كل طرف على رؤى الطرف الآخر من كل جانب ثم مناقشتها و الرد عليها و ليس الاقتصار على إخراج بعض العبارات من سياقها و الاسترسال في محاكمة النوايا والتوجهات على أساس تجارب سابقة فاشلة أو ناجحة ، لأنه في السياسة لكل تجربة ظروفها وملابساتها و مساراتها . تحدث الأخ الصحفي عبد الباقي خليفة عن قبوله بالمصالحة و حدد شروط الصلح ، لعله فعل ذلك لأنه كما ذكر لم يجد في" خطابا التصالحي " إن صح التعبير ما يشير إلى هذه المطالب ، فبدا و كأنه قد أعلن الحرب لتحقيق هذه الأهداف ولعله بذلك فتح لنا المجال لنحلل وجهة نظرنا بهذا الخصوص ، ذلك أن جوهر المشكل كما نراه هو حديث أغلبنا عن العمل من أجل المصالحة دون أن نترجم ذلك على مستوى الخطاب والمواقف السياسية ، و كتابات الأخ عبد الباقي تقدم الدليل على أنه من الذين يمارسون خطاب المغالبة ويلجأ إلى التخفيف من حدته بالحديث كل حين عن استعداده للمصالحة . فالمصالحة ليست كلمة تتشدق بها الأفواه لتصبح نشيدا قد يرفّه عن النفوس ولكنه لا يتحول إلى واقع . فمشكلتنا أن خطابنا يميل دوما لحديث الشعر والشعراء حتى قال أحد مفكري الخليج العربي " بشعرنة الخطاب العربي الإسلامي" . كل مصالحة لها شروط و حيثيات وقد تكون بوجه من الوجوه نوع من المعاهدات السلمية بين فرقاء الداخل وهي كغيرها من العقود تخضع لموازين القوى و من البديهي أن يعمل كل طرف على ضمان مصالحه و التقليل من خسائره و حتى الإيقاع بالطرف الآخر و ابتزازه وبالتالي فالعاملون لأجلها يحتاجون إلى حنكة سياسية و قدر لا بأس به من الذكاء والخبرة أما العداء فلا يحتاج إلى كبير عناء. بيد أن دعوتنا هي بكل تواضع ليست إبرام عهود توبة فردية ، لكنه مساهمة متواضعة في توفير شروط المصالحة ،أما المصالحة الفعلية فلا يمكن أن تقوم عليها إلا المؤسسات ذات الصلاحيات. و قد لا نختلف في أن التوجه التصالحي أمر قد قرر وكان من المفروض أن تقع ترجمته على مستوى الخطاب و الممارسة لكن ذلك في تقديرنا لم يتم بما يكفي على أحسن الأحوال ، فتنزيل القرار إلى حيز الواقع هو موضوع مبادرتنا ان صح أن نسميها مبادرة . و نعتقد أنه ليس من الممكن الحديث عن توجه تصالحي مع السلطة في ظروفنا الحالية ونحن نمارس خطابا راديكاليا يثير الشكوك لدى الطرف الآخر و من ذلك عدم الاعتراف بشرعية هذه السلطة من خلال مفردات الخطاب و من خلال النصوص الرسمية . يمكن أن يكون لنا تحفظات على هذه الشرعية الانتخابية لكن ذلك لا يجب أن يمنعنا من الاعتراف بالواقع في انتظار تغييره بالوسائل السلمية المعلنة ، فلا يمكن مثلا أن نقول إننا تعترف بشرعية السلطة ثم نتحالف مع طرف آخر يعلن صراحة أنه يعمل من أجل إسقاطها مهما كانت المبررات التي يمكن تقديمها ...و نعتقد أن كل ما نعرفه من تصرفات السلطة التي تمارس الاستبداد بكل أنواعه لا يكفي للاعتراض على هذا الكلام . و إذا أعلنا استعدادنا للحوار مع سلطة لا تريد ذلك كما هو واضح فعلينا أن نعمل على إقامة الجسور على الأقل مع أطراف في هذه السلطة علما بأن أي سلطة لا يمكن أن تتوحد أطرافها ضد القضايا العادلة إلا في حالة أن تشعر بأن خطرا كبيرا سيأتي من المعارضة أو من الخارج و هذا لا ينطبق على الحالة التونسية من وجهة نظرنا ... و لا شك أن المعارضة التونسية في الداخل والخارج تملك أوراق ضغط رابحة في مقدمتها الورقة الإعلامية و شبكة العلاقات الواسعة التي أقامتها و القضايا العادلة التي تناضل من أجل تحقيقها ، وعليها أن تستفيد من كل ذلك لممارسة الضغط المتواصل حتى يستجاب لمطالبها ما دامت قد اختارت منهج التغيير السلمي و أعلنت أنها تعمل من أجل إرساء النظام الديمقراطي . إن انسجام الخطاب و الممارسة مع حديث المصالحة هو مطلبنا لا غير ونسأل الله العون و التوفيق ... 12 رمضان 1427 هجري