مهما يكن الفاعل فان آثار الاغتيال والتعبئة المنظمة التي تلته وامتداد رجاته الى خارج حدود الوطن بشكل برقي على مستوى التفاعل وارادة استهداف الترويكا الحاكمة عبر تفجيرها وحركة النهضة عبر اتهامها , ثم الدعوة الى الاضراب العام وماصاحبها من جرائم مريبة ومااستصحب الحدث من حرص على تدويل الموضوع باللجوء الى محكمة الجنايات الدولية ..., كل ذلك يؤكد أن مايحدث في تونس هاته الأيام كان أمرا غير طبيعي بالمرة , بل أظن أن روح الانتقام فيه من مهد الربيع العربي كانت بصمة خارجية ثابتة لكن بمعاول داخلية لازالت تشعر بمرارة الهزيمة . دعونا نطرق مجددا أبواب حادثة الاغتيال الذي تعرض له السياسي الراحل شكري بلعيد , فالموضوع في خطورته يشكل اغتيالا معنويا لانتظارات وردية حالمة شملت كل بلدان هلال الربيع العربي , فمابالكم بشارع تونسي ظل يفتخر على مدار سنتين ماضيتين بحسم معركة الحرية والكرامة بضريبة كانت الأقل كلفة دموية مقارنة بضريبة "الربيع" في ليبيا ومصر واليمن , أو سوريا التي أريد أن يغتال الربيع نهائيا على أرضها أوعند حدودها ... سؤال أحرق أفئدة الكثيرين بالنظر الى مخاطر تبعات الاغتيال اذا مافتح الباب الى تصفية الحسابات السياسية والعقدية بين الخصوم بلغة الرصاص ... أود قبل المضي قدما في الاجابة الشجاعة على السؤال الخطير , التذكير بأن التوظيف السياسي السيء واللاأخلاقي لحادثة الاغتيال دفع بعض مزيفي التاريخ الى تبرئة بورقيبة وبن علي من مثل هاته الجرائم أثناء حكمهما الجانح كل الجنوح نحو فردانية الحكم .., اذ تحدث محللون تونسيون عن اغتيال الزعيم فرحات حشاد بصفته حدثا وقع ماقبل الاستقلال .., ليتناسوا أن بورقيبة اغتال الزعيم صالح بن يوسف خارج البلاد التونسية مطلع الستينات , وبأن تصفية كاملة وقعت بالرصاص لمناضلين من الجناح اليوسفي بعد مؤتمر صفاقس المؤرخ في 15 نوفمبر 1955... - وقد تم في هذا السياق التغطية على لفظ الاغتيال السياسي باستعمال لفظ الصراع البورقيبي اليوسفي , لينسينا هؤلاء اغتيالات مرت عبر القضاء بتهمة المحاولة الانقلابية الفاشلة لحوالي ثلاثين زعيما وقائدا كانوا أبرز رجالات الحركة الوطنية أثناء فترة الاستعمار الفرنسي , فقد أعدم هؤلاء سنة 1963 ودفنوا تحت الأرض في مكان سري ثم صب عليهم الاسمنت المسلح لتنتهي جريمة الاغتيال بكتابة مزيفة للتاريخ ... أما الرئيس المخلوع فقد اعتمد نهجا آخر من الاغتيال ,اذ خولت له أساليبه في التصفية اطلاق الرصاص على متظاهري الاتحاد العام التونسي للشغل بشكل انتهى الى ازهاق أرواح المئات حين كان مسؤولا بارزا بالأمن سنة 1978 , فقد تحدث البعض من الشخصيات البارزة عن اطلاقه للرصاص من طائرة عمودية كانت تحوم فوق أجواء المتظاهرين - والأمر في تقديري يحتاج الى تحقيق موضوعي من رفاق مرحلته في شهادات ضرورية وصادقة على العصر .. حادثة اغتيال الناشط الطلابي عثمان بن محمود , هي الأخرى مأساة عاشتها الجامعة التونسية سنة 1985 حين تحدث الكثيرون عن تصفية الأخير بأوامر من بن علي .. ولاننسى أيضا اغتيالات أخرى وبالرصاص لنشطاء من الجامعة التونسية حين تمت تصفية بعضهم على اثر تحركات طلابية , ولعلني عايشت شخصيا وأمام مرأى عيني سنة 1990 تصفية بالرصاص للشهيد صلاح الدين باباي بمدينة صفاقس ,على اثر مسيرة طلابية حركتها أجواء جريمة احتلال العراق للكويت ... وبعد تصحيحنا لبعض المعطيات التاريخية لايفوتني التذكير بمحاولة الاغتيال الفاشلة التي تعرض لها الصحفي الهادي بن فضل بعد اصابته برصاصات غادرة حين شكك في جدارة بن علي , على خلفية ادارته لأزمة اضراب الجوع التاريخي للصحفي التوفيق بن بريك ..فقد كتب لبن فضل عمر آخر بعد أن أصابته رصاصات البوليس السياسي دون أن تتمكن من ازهاق روحه... وعودة لموضوع اغتيال المعارض البارز شكري بلعيد , فان الأمر حدث في سياق مختلف , اذ ليس من مصلحة النهضة كحزب حاكم أن تدشن مشوارها السياسي بالاغتيالات , اذ أن الأخيرة كانت تسعى جاهدة الى وضع صورتها بموازاة صورة العدالة والتنمية في تركيا كحزب اسلامي حداثي يسعى لوضع تونس على سكة التنمية والدمقرطة في مصالحة تاريخية بين الدولة والاسلام , بل انها اختارت النأي بنفسها حتى عن تصفية الحسابات جسديا مع من تورطوا في تعذيب قاتل لقادتها وأعضائها زمن بن علي ..., واختارت الصفح والعفو أو الالتجاء الى المحاسبة القانونية عبر المسلك القضائي . فحينئذ تبقى هناك احتمالات لابديل عن واحد منها وهو أن الجهة القاتلة هي واحدة من الجهات الآتية : 1- فلول نظام بن علي وبقايا أجهزته في الدولة , وعند هذا الاحتمال تكون ارادة الفتنة وتفجير الأوضاع من الداخل واظهار النهضة بمظهر الفاشل هدفا مباشرا للعملية , في انتظار استثمار الأجواء للعودة مجددا الى الواجهة . 2- جهة أجنبية محددة المعالم أرادت وضع حد لمسار الربيع العربي واجهاضه بصفته يشكل مزاحمة لمصالح الاستعمار ولحظة تاريخية فارقة في مسار أمة تطمح للنهوض والتحرر , وهذا السيناريو يبقى قوي الحجة بالنظر لما يحدث من سيناريوهات عجيبة تستهدف الثورات في مصر وتونس وليبيا وسوريا وحتى اليمن... 3- عناصر ذات توجه ديني وقراءة "جهادية" لم تتحسب لعواقب الفعلة النكراء ومخاطرها على تونس ودول الربيع والمنطقة عموما , ويبقى هذا الاحتمال ممكنا جدا غير أن التوظيف الخارجي للحادثة والاغتيال ثابت بالتأكيد بل ان البعد الاستخباري فيه أمر طبيعي . 4-أطراف يسارية متنافسة على الزعامة والقيادة , وهو احتمال ضعيف جدا بالنظر الى مخاطر الانكشاف حين تتجلي خيوط الجريمة ..., غير أن التاريخ داخل الجامعة التونسية لايستبعد هذا الاحتمال بصفة نهائية اذ سبق أن حصلت صدامات دموية بين رفاق متنافسين من"المناضلون الوطنيون الديمقراطيون" وفصيل "النقابيون الثوريون" داخل أسوار الجامعة وكان الاتجاه الاسلامي حينها طرفا بارزا في ايقاف دموية هذه الأحداث . ومهما يكن الفاعل فان آثار الاغتيال والتعبئة المنظمة التي تلته وامتداد رجاته الى خارج حدود الوطن بشكل برقي على مستوى التفاعل وارادة استهداف الترويكا الحاكمة عبر تفجيرها وحركة النهضة عبر اتهامها , ثم الدعوة الى الاضراب العام وماصاحبها من جرائم مريبة ومااستصحب الحدث من حرص على تدويل الموضوع باللجوء الى محكمة الجنايات الدولية ..., كل ذلك يؤكد أن مايحدث في تونس هاته الأيام كان أمرا غير طبيعي بالمرة , بل أظن أن روح الانتقام فيه من مهد الربيع العربي كانت بصمة خارجية ثابتة لكن بمعاول داخلية لازالت تشعر بمرارة الهزيمة . 10 فبراير 2013