تغلّقت أمامه السّبل، وضاقت به السّماء والأرض بما وسعت... وفرّ ... فرّ هاربا لا يلوي على شيء غير النّجاة بروحه المغموسة في الدّماء والمترعة بالمظالم.... نسي أنّ العدل أساس العمران، قرأ "ميكيافيلي"، ونسي أن يقرأ سورة البقرة حتّى يعلم سيرة الجبّارين ونهاية الظّالمين، فانقلب وبطانته منقلبا لم يدر أصله وفصله وبدأه ومنتهاه. في معرض العبدليّة بذخ فاحش، سيّارات فارهة، وملابس من آخر طراز، وأدوات زينة عالية الجودة، وأحذية تُقدّر بآلاف الدّنانير، ومجوهرات فوق الوصف، وبُسُط أنيقة، ودرر فريدة تكاد تكون بلا مثيل، وتماثيل من ذهب، وفروش مزخرفة، ولوحات فنّية، وأثاث منزليّ لا تراه إلاّ في الأفلام وعند عُتاة المترفين... كان الرّئيس الهارب وزوجته وتبّعهم في نعيم، وكان معظم النّاس عيّاشين في الضّنك، ويعانون شظف الحياة، وشدّة الفقر وألم البطالة... كان العامّة في جحيم، وكان الخاصّة يتربّعون على كلّ شيء، ويستأثرون بكلّ شيء، جمعوا ومنعوا، شربوا حتّى ثملوا، وأكلوا حتّى تخموا، وأرسلوا أيديهم في الحجر والبشر، كانوا يستمدّون سعادتهم من بؤس الآخرين، ويشيّدون قصورهم من تعب المعدمين، ويستعذبون أيّامهم من عذاب المظلومين، يستلذّون سرقة المال العامّ، ونهب البطون الخاوية والجيوب الملآنة... كانوا ينامون في ريش النّعام، ولا يبالون ببرد قارس يلفع جسد طفل طريّ يسكن كوخا في أقصى المدينة أوفي جوف الرّيف... كانوا يأكلون الخرفان الطّازجة، ولا يأبهون إلى مئات المشرّدين والعاطلين والمعدمين الذين أخذ الجوع منهم مأخذه... كانوا يعيثون في الأرض فسادا، ويطمسون آثار الجريمة ومعالم المظلمة... مظلمة في حقّ شعب سلّطوا عليه سوط العذاب على مدى عقود، وتكلّموا بدلا عنه، ومارسوا عليه الوصاية، وصادروا ذاكرته وصوته وهويّته... وما علموا أنّ "تحت الرّماد اللّهيب... ومن يزرع الشّوك يجني الجراح ...". ظنّوا أنّهم مخلَّدون في الدّنيا، وأنّهم أمسكوا أبواب العرش، وأسباب القوّة جميعا، وما علموا أنّ التّاريخ دوّار وأنّ الزّمان قُلَبٌ، وأنّ أحفاد حنّبعل وخلف عقبة وأبناء حشّاد قوم سكنتهم الإرادة، وصنعوا التّاريخ على مدى قرون... ولا سبيل إلى استمرار حال الهوان إلى ما لا نهاية ... انتفض النّاس وجاؤوا من كلّ فجّ عميق، شيبا وشبابا، رجالا ونساء، من كلّ حدب وصوب، وخرجوا على الطّاغية وأعوانه... وقتها لم تنفعه القناطير المقنطرة من الذّهب والفضّة، ولم يجد متّسعا من الوقت ليحمل معه قوارير عطره الباريسيّة وبدلاته الأنيقة وهداياه الفاخرة وأمواله الطّائلة... كان صوت الشّعب هدّارا، وزحف المظلومين لا يرحم،دقّت ساعة الحقيقة، وارتعدت فرائص المستبدّ، وانفرط عقد سلطانه، وانفضّ من حوله حرّاس وأتباع ومدّاح ومناشدون... وجد نفسه في مواجهة المقهورين وفي مواجهة مصير مظلم رسمه لنفسه على مدى عقود .... جوّب في كلّ مكان وما من سبيل للخلاص، وخاطب وأنذر وتوعّد، وأرعد، وأزبد، وتردّد وتلعثم، وتوسّل ولم ينفع... وحرّك أبواق إعلامه في الدّاخل والخارج ولم ينفع... صيحات المظلومين لا تسكت وأنّات المعذّبين لا تخمد، وصرخات المحبوسين لا تهدأ، ودعاء الثّكالى لا يُردّ ... تغلّقت أمامه السّبل، وضاقت به السّماء والأرض بما وسعت... وفرّ ... فرّ هاربا لا يلوي على شيء غير النّجاة بروحه المغموسة في الدّماء والمترعة بالمظالم.... نسي أنّ العدل أساس العمران، قرأ "ميكيافيلي"، ونسي أن يقرأ سورة البقرة حتّى يعلم سيرة الجبّارين ونهاية الظّالمين، فانقلب وبطانته منقلبا لم يدر أصله وفصله وبدأه ومنتهاه. -الوسط التونسية بتاريخ 20 مارس 2013