كتب صديقنا وزميلنا صلاح الدين الجورشي بتاريخ 20 أكتوبر 2006, تقريرا جميلا وعميقا عن خلفيات العودة بتونس الى معركة الحجاب, بعد أن كانت توقعات المراقبين والملاحظين تسير باتجاه سياسي معاكس: تبدو البلاد وكأنها تتّجه نحو مُواجهة. فجأة توقّفت كل المؤشرات التي كانت تُوحي ضِمنيا باحتمال تسوية عدد من الملفات السياسية العالقة، وإذا بالسلطة تقوم بعملية فرملة فجئية وحادة، وتقرّر الدخول في معركة ضدّ ظاهرة ثقافية اجتماعية، من خلال محاولة تجنيد الجميع للتصدي للمتحجبات اللاتي ملأن الفضاءات العامة ومؤسسات التعليم بالخصوص، بعد أن خاض النظام معركة حامية من أجل تجفيف منابع التطرف الديني. والسؤال الذي يتردّد في جميع الأوساط: لماذا هذه الحملة؟ ولماذا الآن؟ بهذه الفقرة وبهذين السؤالين افتتح زميلنا الجورشي تقريره المعنون تونس :ضد المحجبات أم حجب للملفات المعلقة؟,غير أن الجواب يبقى محل نقاش سياسي وفكري قد يلامس بعضا من خيوط الحقيقة وقد يداعب أجفانها وقد لاينفذ الى أعماق أسرارها التي تخفى على كثير من المراقبين والمحللين في ظل غياب كثير من المعطيات. قبل أسابيع قليلة كان النقاش السياسي في تونس متمحورا حول امكانيات ترتيب قواعد جديدة للبيت السياسي على أرضية من الوفاق الوطني,ولعله لم يكن خافيا على الجميع أن بدايات تواصل بين جهات سياسية عليا وبين عناصر قريبة من تيار الاعتدال الاسلامي كانت قاب قوسين أو أدنى من تحقيق بعض النتائج الأولية في مسار مصالحة وطنية شاقة ومحفوفة بالأشواك. لقد نقلت السلطة في أعلى هرمها رسائل ايجابية كانت توحي بأن عيد الفطر المبارك كان سيحمل معه خطوات عملية على طريق الانفراج وخاصة في ملف معتقلي الرأي في تونس. وفي خضم رسائل ايجابية من الطرف المقابل ولو بشكل غير مباشر ورسمي,كانت أجواء مشحونة بالقلق والتوتر تخيم على بعض أطراف المعارضة تجاه ماسماه أحد أقطابها البارزين بتنزيل لسقف المطلبية السياسية,وبالتوازي استعجل البعض أمره من داخل التيار الاسلامي من أجل شن هجوم قاسي ولاذع على مارأى فيه بحسب تقديراته هدية للسلطة دون أي مبرر... وفي تطور دراماتيكي وبعد أن وصلت الرسالة بين أيادي أمينة كما نقل طرف قريب جدا من أعلى هرم السلطة,فوجئت بعض الجهات بحسب مابلغنا رسميا بخطاب ذي سقف عالي تحدث به الشيخ راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة على شاشة الحوار التي تبث برامجها من عاصمة الضباب لندن. بعد ذلك بأيام قليلة تسارعت أحداث التراجيديا السياسية في تونس وانطلقت الحملة الشعواء على المحجبات,بعد أن مهد اليها بعض رموز اليسار التونسي القريب من الحكم الطريق على صفحات الصباح التونسية وربما صحف أخرى,لتشهد كرة الثلج بعيدها تدحرجا غير مسبوق أدى الى تجند كل أعضاء الديوان السياسي لحزب التجمع الدستوري الديمقراطي بما في ذلك أبرز وزراء الدولة من أجل التحريض والافتاء في قضية كان من الحكمة تركها لقناعات الأفراد وعمق انتماءاتهم الدينية المحضة . وعودة الى الوراء كنت قد تحدثت في مقالين سابقين نشرا على صحيفة الوسط التونسية عن الحزب السري الذي اختطف التجمع,وعن تونس التي يشكل فيها هذا الحزب المخترق لأجهزة الدولة وخاصة حزبها الحاكم عقبة كؤودا في وجه أي اصلاح... لم يكن هذان المقالان عفويان في مثل هذا التوقيت ,بل كانا مقالين هادفين أرادا التلميح الى أن توقيت الحملة ضد الحجاب كان مقصودا ومرتبا من هذه الجهات التي تشكل دولة داخل الدولة,غير أنني لم أفسر فيهما تحديدا لماذا تم اختيار موضوع الحجاب دون غيره لدق اسفين في مابين الطرفين الأقوى امتدادا جماهيريا بالبلاد -المقصود بذلك حزب التجمع وتيار الوسطية الاسلامية. كانت تونس قبل أسابيع قلائل على موعد مع الذكرى الخمسين لاصدار مجلة الأحوال الشخصية,وانطلقت بعض الأصوات اليسارية في هذه الذكرى من أجل المطالبة بالمساواة الكاملة بين المرأة والرجل في الميراث,غير أن الاختبار سرعان ماباء بالفشل حين اصطدم بكوادر تجمعية عليا تشكل مركز القرار ,رأت فيه هذه الأخيرة تصادما مع مصالح مادية وسياسية لم يتجرأ الزعيم الراحل بورقيبة على المساس بها. جاء الجواب يومها على شاشة التلفزيون التونسي وعلى صفحات الصباح بأن ميراث تونس البلد العربي الاسلامي لايقبل بتغيير نصوص شرعية ثابتة... نفس هذه النصوص الشرعية التي تحجج بها الرسميون,أصبحت من قبيل النسي المنسي حين تعلق الأمر باندلاع نيران معركة الحجاب في تونس,والتي تحين توقيتها بذكاء الحزب السري الماسك بتلابيب قصر قرطاج الى الدرجة التي أصبح القصر يعج بالقيل والقال والأحابيك والحيل السياسية التي تستهدف الحيلولة دون تقارب بين مؤسسة الرئاسة وشخص رئيس الجمهورية وبين أي وجه حركي من وجوه تيار العروبة والاسلام. نجحت الأحبوكة هذه المرة وذلك بحكم دراية الحزب السري بما يستسيغه شخص رئيس الجمهورية ومالايستسيغه,ولعل لعب البعض على التناقضات القديمة التي تشق الحزب الحاكم تجاه قضايا الهوية والعلاقة بين الدين والحياة ثم نفخ البعض في كير الحفاظ على المكاسب البورقيبية على اعتبار أن مشروع الدولة التونسية الحديثة هو مشروع التواصل مع طروحات الزعيم الذي باتت بنات افكاره تحكم البلد حتى بعد مماته. تحول نفوذ الحزب السري في تونس الى وصي على الأتاتوركية الجديدة ,بعد أن بدأ النفخ في روح الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة يخرج من طور النقد السياسي الهادف الى طور التعظيم الجارف,ومن ثمة وجدت الدولة التونسية الحديثة نفسها اسيرة لمخاوف وهواجس القصر الذي مازال يعيش على فزاعة سنوات بداية التسعينات. سنوات التسعينات التي ظن التونسيون أنهم قد قطعوا معها الى غير رجعة ,أصبحت مع اشعال الحزب السري لفتيل معركة الحجاب كابوسا يراد له ان يخيم على البلاد من جديد,غير أن أساطنة الحزب السري المتناثرين داخل قرطاج وحواليها نسوا في خضم مشاعر الزهو بالنجاح في توريط الدولة في مواجهة جديدة بأن الظاهرة الاسلامية لم تعد ملكا نهضويا خاصا,بل انها أصبحت ملكا وطنيا وجماهيريا يسري في عروق دماء أجيال جديدة باتت تبحث عن نفسها في ظل شعور قاسي بمخاطر زحف العولمة. نسي الحزب السري بأن الظرف أصبح مختلفا عن ظرف بداية التسعينات,ففي تلكم المرحلة لم تكن ثمة انترنيت ولافضائيات ولا ثورة اتصالات ,وكان من الممكن مع قطع الخطوط الهاتفية أوتشويشها عزل التونسيين عن محيطهم الخارجي والدولي ومن ثمة ممارسة ألوان من القمع خارج سياق التاريخ. وفي غفلة من عمق التفكير والتنظير نسي الحزب السري المذكور بأن الظرف الدولي لم يعد يحتمل بعد عقد ونصف من مواجهات سئمها أبرز أصدقاء تونس الغربيين,عودة بالبلاد الى مربع المواجهة الأمنية والسياسية المفتوحة. واذا تجاهل أساقفة وكرادلة الحزب المذكور مثل هذه الحقائق وأقدم على قرار باعادة البلاد الى مربعها الأول , فان تونس ستكون على أبواب تغيير سياسي كبير وحتمي. والأيام بيننا حكم في ذلك,وكان الله في عون تونس والتونسيين... لمراسلة الكاتب : [email protected] *