أثارت تونس هذه الأيام زوبعة خارجية ولكن وإلى حد ما داخلية عندما ذكرت الجهات الرسمية بمواقف سابقة من الحجاب، الذي يعتبر هنا سواء لدى السلطة أو لدى جبهة عريضة من المثقفين مظهر تراجع عن مكاسب مهمة حققتها المرأة في بلد وفر حدودا عليا من المساواة بين الرجال والنساء ومكن المرأة من التعليم الذي تجاوزت فيه عدديا أرقام الرجال وكذلك مكنها من مكاسب تعتبر اليوم في تونس غير قابلة للتراجع مثل منع تعدد الزوجات، ومنع التطليق الجزافي بكلمة من الرجل وضرورة المرور عبر السلطة القضائية وغير ذلك مما يعتبر ليس فقط مكاسب اجتماعية بل مجتمعية، غيرت وفي العمق التصور المجتمعي للفرد التونسي وجعلته يتقدم أشواطا على أخيه في العالم العربي والإسلامي. ولكن ظاهرة التحجب عادت بقوة في العامين الأخيرين، وفي ما عدا السيدات اللائي عرفن عهود اضطهاد المرأة أو ما يعتبر كذلك ممن يفقن الخمسين أو الستين من العمر والحائزات على حد أدنى من الثقافة المزدوجة غالبا فإن جانبا من الشابات خاصة ممن نلن دراسة علمية أخذ جانب منهن بالتمنطق بالحجاب مما شكل ظاهرة واضحة ولكن لا تمثل بحال أغلبية. ولن ندخل هنا في مدى وجهة النظر الدينية بشأن الحجاب، بين من يحرّمون سفور المرأة و ممن يعتمدون على النص ويؤولونه تأويلا ليس فيه حرمة، أو ممن يعتمدون على القول أن الحجاب ليس من تقاليدنا العريقة بل هو مستورد حديثا إلى تونس التي كانت تعرف "السفساري" وهو غطاء يبرز أكثر مما يخفي، فذلك جدال في النهاية لا يؤدي إلى شيء. ولكننا سنتطرق إلى مسألة منع الحجاب في الإدارة العامة والمراكز الوظيفية وفي المعاهد الثانوية والجامعات، بقصد إزالة وجوده من هذه الأماكن الحساسة. ويبدو أن الحكومة التونسية قد أقرت العزم على محاربة الحجاب وحصره في أضيق المساحات عن طريق هذا المنع. وكانت السلطة التونسية قد تدخلت في نوع اللباس منذ منشور لوزير الأشغال العامة السابق عزالدين العباسي الذي منع الموظفين من الوصول إلى إداراتهم مرتدين للجينز وذلك بموجب منشور يعود إلى سنة 1959. ولم يكن آنذاك الحجاب موضوع حديث، ففي سنوات الاستقلال الأولى أقدمت الموظفات الشاعرات بأنهن استرجعن حريتهن وأنه لم يعد هناك ما يمنع سفورهن على ترك السفساري الذي كان منتشرا في تونس، وكان المجتمع كله يشجع تلك الظاهرة التي عنت في ما عنت تخليص المرأة مما سمي براثن الماضي، وغاب السفساري شيئا فشيئا فيما انقطع تماما في الإدارة والمدرسة. وفي السبعينيات وفي خضم خيبات الأمل المرة من تطورات الأحداث عربيا وداخليا سواء بهزيمة 1967 المنكرة أو على إثر فشل نموذج التنمية الاشتراكي وتدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية ظهر الحجاب على طريقة للواقع لم تكن موجودة قط في تونس فيما سمي أيامها من المتشبهات براهبات سانت مونيكا القديسة المسيحية اللائي يلبسن حجابا أشبه بحجاب المتحجبات اليوم. غير أن مؤسسات بعينها منعت دوما لا فقط الحجاب بين موظفاتها ولكن أيضا قدوم الموظفين إلى عملهم دون لباس البدلة بقطعتيها والكرافاتة، على اعتبار اعتماد زي لائق أمام الحرفاء، ففي البنوك مثلا غاب الحجاب تماما كما غابت الأزياء الرجالية غير المتقيدة بالزي اللائق الذي وصفنا. واليوم فإن جهات عديدة مبررة لقرارات الحكومة في خصوص الأزياء تقيم منطقها على أساس، أن المشغل له الحق في أن يفرض الزي الذي يراه ملائما لسير العمل والصورة التي يريد إعطاءها عن مصالحه. ويقول نفس المنطق وهو الأكثر انتشارا في تونس، إن الحكومة لا تتدخل في أزياء الناس في الشارع، ولكنها تستطيع أن تفرض اللباس الذي تراه مناسبا لسير العمل، وهو شأن شجعت الدولة بقراراتها القطاع الخاص على اتباع أثره. فالسلطة ترى أن الحجاب لا يناسب سير العمل وبالتالي وباعتبارها هي المشغل فإنها تطلب من موظفيها أن يكونوا على زي ليس فيه إلا ما هو أمر طبيعي أي بدون غطاء للرأس أو ما يشير إلى ما اعتبر زيا طائفيا. كما أن السلطة وهي التي تقبل في مدارسها حوالي مليونا من البنات ومدرساتهن على طاولات الدرس تعتقد بأن ما وصله أمر التقدم من شوط فإنه غير مسموح استعمال زي بهذا الشكل وهي حرة في الشروط التي تفرضها في لباس من يؤمون قاعات الدرس عندها. وكل الناس أحرار في ما عدا ذلك ولكن ليس في مكاتبها ولا في معاهدها وجامعاتها. وكما إن البنوك تشترط في موظفيها الرجال أن يلبسوا البدلة والكرافاتة وفي موظفاتها الامتناع عن لباس الحجاب فإن الدولة أيضا لها شروط في من يشتغل أو يدرس عندها ينبغي أن يندرج ضمنها من يريد أن يتعامل معها وهو حر في ما عدا ذلك، كما يشمل هذا الشرط لا فقط العاملين ولكن أيضا المتعاملين مع الإدارة، مثلما هو شأن من يأتي للمصالح الحكومية لقضاء شأن ما وهو يلبس الشورت فلا يقبل ولا يسمح له بالدخول. وإذا كانت ظاهرة الحجاب في اعتقاد السوسيولوجيين هي ردة فعل على ما حصل من خيبات مرة على أيدي الحكومات اللائكية أو شبه اللائكية، فإن الرأي السائد اليوم هو أن انتشار الحجاب بشكل ما هو نتيجة تأثير القنوات الفضائية وخاصة المشرقية التي باتت منذ زمان تدعو بشكل واضح ومستمر للبس الحجاب والدعوة له، وبذلك فإن هذه القنوات التي أنشئت لنشر الفكر التحرري في نظر الكثيرين قد أصبحت تدعو إلى ممارسات توصف بأنها رجعية من وجهة نظر أعداد كبيرة من المثقفين والمثقفات وخاصة في تونس جمعية النساء الديمقراطيات التي تعد أكبر داعية لمنع الحجاب وفرض ذلك. وإذا كان الحجاب قد انتشر بهذا الشكل فالسؤال، هل هو يعكس ظاهرة سياسية، امتدادا لمجموعات التنظيمات السياسية الإخوانية أو ما شابهها أم هو ظاهرة اجتماعية تدينية لا علاقة له بالسياسة؟ والواضح أنه بقدر انتشار الحجاب، فإن معارضيه ومعارضاته ليسوا بالقلائل بل لعل غالبية المجتمع التونسي هي ضد هذه الظاهرة التي وإن كانت انتشرت فإنها أبعد ما تكون تعبيرا عن توجه أغلبي، ولكنها تمثل فقط أقلية نشيطة تقع مواجهتها بقوة لا من طرف الحكومة كما يريد البعض خاصة في المشرق أن يوحي بل من طرف جانب كبير من الفئات المثقفة نساء ورجالا يرفضون رجوع القهقرى. *المقال من اقتباسات واختيارات الوسط التونسية