مضى ما يناهز القرنين من الزمان على بداية الحركة التنويرية في العالم العربي؛ منذ بدأ رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي رحلة التنوير الذي كان يخضع - تبعا لظروف المرحلة، ومكونات الفاعل التنويري - للمنحى الإصلاحي، بدل المنحى العقلاني الخالص. ورغم كل هذه السنوات، ورغم تعدد وتنوع التيارات التنويرية، إلا أن هناك حقيقة مؤلمة، لا يمكن إنكارها أو تجاهلها، وهي أن التنوير لم يحظ بالاستجابة الجماهيرية التي ترجح كفته على تيارات التقليدي؛ رغم رواجه النسبي في بعض الفترات الاستثنائية. طبيعي أن تبقى الجماهير الأمية وشبه الأمية في صف التقليد، وضد التنوير في بداية التعرف على التنوير. لكن، أن يكون هذا الانحياز الجماهيري هو الغالب على روح الأمة في بعديها: العربي والإسلامي، فهذا يدل على أن هناك تصورات راسخة ضد التنوير وأعلامه، جعلت منه خصما للجماهير في كثير من الأحيان، أو موضع إهمالها في بعض الأحيان. ليست المسألة خطرا عارضا، ولا (موضة) جيل من الأجيال. فالفترة التي يشغلها الخطاب التنويري ، تغطي ما يعادل ستة أجيال. وكلها أجيال كانت الاستجابة فيها للتنوير استثناء من جهة، وانحصارا في النخبة المثقفة من جهة أخرى. أي أن الاستجابة لم تكن جماهيرية بحال. ومن ثم، لا يمكن أن تأخذ طريقها إلى الفاعلية الاجتماعية التي تتحكم في تفاصيل الاجتماعي، وتصوغ مفردات السلوك العام، الذي يكوّن - بمجموع عناصره - هوية الأمة، وروحها التي تحدد طبيعة الاتجاه. لا شك أن الوعي السلفي، سواء في منحاه الديني، أو في منحاه الاجتماعي - وبينهما علاقة جدلية؛ لا تجعل من الديني بالضرورة هو الأصل - هو المسؤول عن الرفض الجماهيري للتنوير، والانحراف عن الفاعل التنويري، لحساب التقليد والجمود، ولصالح الفاعل التقليدي المنتج لخطاب الخرافة التي ترضي عواطف الجماهير، والموغل في أسطرة التاريخ الذي لا تجد الجماهير البائسة في سواه عزاء لها عن واقعها، واقع التخلف والانحطاط، وعن هزائم الزعماء الملهمين!. التيار التنويري، وفي كل زمان ومكان في العالم العربي، لم يتعامل مع الجماهير مباشرة، أو لم يسمح له أن يبلغ رسالته؛ دون تدخل من أحد. لقد كان من قدر التنوير أينما حل، أن يقف التقليد منه موقف الخصم اللدود. وهذا طبيعي في سياق خطاب يجاهد انطفاء شعلته المقدسة؛ فيما يتوهم. لكن - وهذا هو المهم - لم تكن المواجهة بين أفراد وأفراد، ولا بين مؤسسات ومؤسسات، وإنما بين أفراد من قبل التيار التنويري، ومؤسسات تقليدية راسخة، تاريخها يمتد لعدة قرون، بحيث أصبحت البنية المؤسساتية للخطاب التقليدي، مقدسة بذاتها، فضلا عن مضمونها ذي المنحى الرجعي السلفي. هذه المؤسسات الراسخة في التاريخ، ومنه في أعماق وعي الجماهير التي لم تشب عن طوقه، وبقيت - لجهلها - أسيرة جهله، أو ما يسميه علما!، هي التي وقفت بالمرصاد لأعلام التنوير كأفراد، ولكل إجرائية تنويرية يراد لها أن تتمأسس في الواقع. وفي هذا تم توظيف كل شيء يمكن أن يفيد في كسب هذه المعركة؛ من خطبة الجمعة، إلى واقع الاستعمار المرفوض من جميع الشرائح الاجتماعية، مرورا بولولة الأدعية وبكائياتها، وحلقات الدروشة وغنائياتها. كيف يستطيع رجل فرد - كالشيخ محمد عبده - أن يواجه معقلاً من أكبر معاقل السلفية في العالم الإسلامي (الأزهر)، بينما معظم شيوخه يطعنون في فكره، وربما في دينه؟. وعندما يحاول توظيف قوى الاستعمار؛ يصبح في خط النار، فيتهم بأن الاستعمار هو الذي يوظفه لصالحه، وليس هو الذي يوظف الاستعمار؛ مع أن التنوير - آنذاك - مستحيل دون التفاعل الإيجابي مع الوجود الاستعماري. لقد كان الاستعمار هو العدو المحتل، ولكنه كان القدوة، والمثال، والأنموذج الحضاري، ومصدر الوعي بالتخلف في الوقت نفسه. فكيف يمكن لأفراد - كعبده - إفهام قوى التقليد ومؤسساته بهذه الحال، وإقناعها بضرورة الخروج من كهوف قرونها الوسطى، بعد طول سبات؟!. لقد استطاعت قوى التقليد والجمود أن تحاصر التنوير في جيوب ضيقة، بحيث لا يؤثر في مسيرة المجتمع، ولا يفعل في وعي الجماهير؛ فيبقى مخلصا لمقولاتها، وخاضعا لرموزها وزعاماتها؛ عبر إخضاعه لجملة من المؤثرات التي تضمن تدجينه واستئناسه في حظائرها. ولتحقيق ذلك؛ قامت باللعب على أوتار المقدس؛ لتصبح الحرب (الجدل الفكري) حربا مقدسة، يخوضها سدنة التقليد، ومن ورائهم مسلوبو الإرادة من الجماهير الغائبة والمغيبة، لمواجهة خطاب التنوير وأعلامه. عبر هذه الرحلة الطويلة من المواجهة، كان الجهل الذي اتسمت به شرائح عريضة من الجماهير، يخدم سدنة الخطاب التقليدي. الأمية القرائية، والأمية الثقافية - وهي الأخطر في هذا الجدل الفكري - كانت ظروفا اجتماعية، تساعد على رواج التقليد من جهة، وعلى الجهل بالتنوير - والجهل داعية ارتياب - من جهة أخرى. لقد لوحظ أن التنوير يتقهقر في الوقت الذي يتردى فيه التعليم، وتتراجع فيه الثقافة؛ كخطاب في التنوع والمعاصرة. لا يسير التعليم - فضلا عن الثقافة - في خط تصاعدي مستمر، كما يظن كثير من المتفائلين. ولقد أشارت الباحثة المصرية: نولة درويش، في بحث لها ضمن كتاب (التربية والتنوير في تنمية المجتمع العربي) إلى تنامي معدلات الأمية في مصر مثلا، ووصول الأمية النسائية في الريف المصري إلى ثمانين بالمائة، وإلى زيادة عدد المتسربين من التعليم. ونسبة الرواج التي يحظى بها الكتاب التقليدي على حساب الكتاب التنويري، أصبحت ظاهرة مقلقة، تحكي قصتها المؤلمة، إحصائيات عدد النسخ المطبوعة من هذا الكتاب وذاك. كل هذا مؤشر إلى أن هناك علاقة بين صعود خطاب التقليد والمحافظة، وبين تراجع التعليم والثقافة عن مكانتهما كقيمة في السياق الاجتماعي العام. هل كان يمكن - لو كان هناك تعليم نوعي، وسياسة ثقافية تدعم التنوير وقيم الانفتاح - أن تصل مبيعات الكتب التي تتحدث عن الحجاب، وعن تفسير الأحلام، وإخراج الجان، وكرامات الأولياء... إلخ إلى أرقام مليونية، وفي المقابل لا تصل مبيعات كتب الفكر الجاد حدود الآلاف، وأحيانا دون حدود الألف الواحد. لقد استطاع تيار التقليد والمحافظة أن يؤسس لخطاب عاطفي، غير عقلاني، يبعد به الجماهير عن خطاب التنوير. وبما أن الجماهير قد جرى استئناسها وترويضها بواسطة خطاب مؤسطر. والأسطورة تخاطب الوجدان دون العقل، وتؤسس لنوع من التلقي المشوه الذي يتبع سلوكيات ردود الأفعال العفوية. وهذا ما يحتاجه الخطاب التقليدي؛ ليروج لمقولاته، وليشوه مقولات التنوير. ولو نظرنا إلى الكتب أو الكتيبات التي تعنون ب (فلان في ميزان الإسلام) لوجدنا هذا الفلاني في الغالب من أعلام التنوير. ومعنى هذا أن الذي يحاكم هذا العلم التنويري، إنما هو شخص يدعي أنه الممثل الشرعي للإسلام، وأن الموضوع في الميزان شخص متهم في دينه. وليس هذا التصنيف من نوع كتب العقاد - مثلا - كهتلر في الميزان؛ لأن الميزان هنا مطلق، يترك فرصة للجدل العقلي، ولتنوع الرؤى. بينما (ميزان الإسلام) محدد بالإضافة. فليس مجرد محاكمة فكرية، وإنما محكمة تفتيش، باسم الإسلام. من يتأمل كتيبات رموز ما يسمى بالصحوة (المباركة!)، تلك الكتيبات التي يحاكمون من خلالها أفكار المفكرين العرب وعقائدهم؛ يجد أنها تحمل هذا العنوان (التفتيشي)، صراحة، أو ضمنا. ومثقفو السماع الذين يأخذون (ثقافتهم!) من أشرطة الكاسيت، أو من هذه الكتيبات الوعظية، والمطويات التحريضية، يجدونها معينا لهم للتشنيع على دعاة التنوير؛ لأنها تلخص لهم التهم ذات الوزن الثقيل، وتخرجها في مظهر التحقيق والتوثيق. ومن ثَم، تلقى رواجها الكاسح في وسط جماهيري تعود على هذا النوع السلبي من التلقي، الذي لا يكلفه أكثر من عناء حفظ التهم الجاهزة. ولئن كان هذا هو حال التنوير في العالم الإسلامي عموما، فإنه في واقعنا المحلي يعاني من حصار أشد، ومن تهم أقسى؛ لأن الخطاب التقليدي أعنف من جهة؛ ولأن درجة تحكّم هذا الخطاب في الجماهير تكاد تكون الأولى من نوعها في العالم من جهة أخرى. ومما زاد من ضراوة المواجهة بين التيار التقليدي وبين الأطروحة التنويرية برموزها الفكرية والعملية، أن السنوات الأخيرة بدأت تأخذ المجتمع في اتجاه الانفتاح النسبي. وهذا من شأنه أن يعزز مقولات التنوير، ويدعم مواقع أصحابها، ويظهرها وكأنها خيار المستقبل، خاصة وأن المجتمع قد جرّب الانقياد التام للخطاب التقليدي؛ فوجد أنهم - دائما - في صف التقهقر والارتياب بالحضاري، أي أنه - بعد التجربة الواقعية - وجد أنه خطاب فاشل؛ بدليل أن الخطوات الإيجابية في المجتمع، قد تم القيام بها رغما عنه، أو - على الأقل - بعيدا عن مبادرته ومباركته. وبهذا أدرك مجتمعنا أن الخطاب التقليدي الذي طالما تماهى معه، أنه أحد أسباب التخلف التاريخي، وأحد أسباب استمراريته؛ حتى وإن عزّ عليه الاعتراف صراحة بهذه الحقيقة المؤلمة. الجماهير بحكم العلاقة التاريخية، عواطفها مع الخطاب التقليدي، وتتمنى لو كانت النجاة على يديه. ولكنها في الوقت نفسه تدرك - أو بدأت تخطو خطواتها الأولى في سبيل ذلك - أن الخطاب التقليدي لدينا، لا يمتلك أي مقوم من مقومات الحضارة، وفاقد الشيء لا يعطيه. بل على العكس من ذلك، بدأت تتضح الصورة بتفاصيلها المؤلمة، حيث تؤكد في مجملها، أن هذا الخطاب ينطوي على نفور شديد من العلم (العلم الحقيقي، وليست التراثيات الجاهزة التي يتم اجترارها). هذا التزحزح الجماهيري الذي بدأ يظهر في السنوات الأخيرة لدينا، لم يجعل الخطاب التقليدي يراجع نفسه، أو يحاول التخفيف من إيغاله في التصدي لخطاب التنوير. ما حدث من هذا الخطاب التقليدي في هذه الفترة، لا يمكن تفسيره إلا بالإحالة على سيكولوجية الإنسان المذعور؛ حيث زاد اضطرابه، وتشبثه بمقولاته، وترويجه التهم الجاهزة، لهذا التنوير الذي بدا - في تصور الخطاب التقليدي - وكأن الزمن يسير لصالحه. *نقلا عن جريدة "الرياض" السعودية-الخميس-