قد يكون الجدل الدائر حول الإسلام وقضايا الإسلام قد أخذ منحى أبعد من مجرد حرية التعبير .. وربما دخل أو سيدخل قريبا مرحلة الصراع المكتوم ، وهنا يمكن أن تسجل عدة نقاط ضد المنظومة الغربية فى تعاطيها مع الأحداث قياساً على ما بشرّت به من معايير فى مجالات الحريات العامة وحقوق الإنسان ، وهذه النقطة أتصور أنها بدأت تتسلل الى ذهنية الشارع الغربي وباتت ترسم أمامه عدة علامات إستفهام ، لو نجحنا فى تسليط الضوء عليها فلربما ستشكل أحد البدايات الجيدة لعودة التوازن لعلاقة لم يعد خافٍ توترها . ولكن كمقيم دائم بديار الغرب أجد لزاماً علي أن أشير الى نقاط أتصور أنها هامة ، وفى تقديري ربما تكون أغفلت أثناء التعاطي مع هذه المشكلة المتعاظمة ، فجاء مردود إغفالها سلبيا جدا ، وأول تلك النقاط هي : فهم قيم الحضارة الغربية والفصل بينها وبين متطلبات العمل السياسي البراغماتي ، فعلى سبيل المثال عندما إحتدم النقاش حول قضية الرسومات المسيئة للرسول (ص) تعنّت الكثير من قادة العمل الإسلامي في طلب الإعتذار من رئيس وزراء الدنمارك . وعندما حاول الرجل شرح ثقافة الفصل بين السلطات المتجذرة في الغرب ، والتى تجعله حقيقة وليس خدعة غير معني بقصة الإعتذار بصورة مباشرة ، وأن إعتذاره قد يسهم فى سقوط حزبه سياسياً لكونه ليس طرفاً مباشراً فى القضية ، لم يتفهم قادة العمل الإسلامي ذلك ، مما جعله يقف على مسافة منهم ، وكان بالإمكان تفهم تلك النقطة وكسب الدولة المتمايزة فى المنظومة الغربية عن النظم والإدارات الحاكمة بل ربما كسب بعض أركان هذا النظام أو ذاك ، فقصة الحياد الإيجابي جزء أصيل من الثقافة الغربية ، وهذا ما تشهد به حيوية ساحات التدافع السياسي لديهم . أما النقطة الثانية فهي اٍستمرار قادة العمل الإسلامي فى المشرق فى اعتبار الجاليات الإسلامية جزء من دول الشرق الإسلامي .. بل وأزعم أن بعضهم يتعاطى مع الجالية بما يشبه علاقة القاصر أو السفيه الذى ليس له من أمره شيء ، حتى أنه فى بعض مفاصل الصراع نجد المراسلات تتم بين أشخاص يعيشون فى الشرق الاوسط وبين حكومات غربية ، ولا أثر للجالية صاحبة المصلحة الأولى ، والتى يعتبرها القانون جزء من شعب المنطقة ! ، وبلغة ( عربية أردية فارسية ) لا يفهمها الجيل الثاني المستهدف من وراء الأحداث ، ومثل هذا الخلل فى العلاقة بات يعود عليها بالسلب .. وكان المنتظر من قادة العمل الاسلامي ورموزه أن يرسخوا فكرة إدماج ( وليس إذابة ) الجالية فى مجتمعتها الجديدة .. والمساعدة على تحويل قضاياها الى جزء من قضايا الوطن الجديد .. وصولا الى إقناع المجتمع ودوائر صنع القرار فيه بسن قوانين لحمايتها ، وهذه النتيجة " الفرائحية " كانت تحّتم على قادة الشرق تفهم خصوصية قضايا المسلمين فى بلاد الغرب .. فلو عولجت قضية كقضية الصور المسيئة للنبي (ص) على خلفية إحترام الخصوصية .. فاقتصرت ساحة الصراع حولها على القضاء والإعلام ، وجعل طرفيها الصحيفة والجالية التى تعتبر قانونيا جزءا من المواطنين ، وتركها اي الجالية تخوض معاركها لكسب الأحزاب السياسية والشارع الشعبي لقضاياها العادلة بدلا من التعامل معها بمنطق القصّر والسفهاء ، وتهييج الشارع فى الشرق الاسلامي ، لربما شهدنا اثارا إيجابية أكثر ، أما أن يهيج الشارع مثل فورة البيبسي المؤقتة لقصة الصور ، ثم لا يسمع له رِكزاً عندما ظهر شريط مصور يسيئ لشخص الرسول الكريم (ص) فهذا سيجعل المواطن الدنماركي حائرا فى أمة تغضب الى درجة الهذيان من صورة تنشر فى جريدة محلية ، ولا تحرك ساكناً لشريط يفوق الصور إساءة ! ، فهل لأنه بث فى شهر رمضان أين يعتكف البعض ، وينام البعض ، وتقعد التخمة البعض الاخر ، فى المشرق الأدنى والأبعد معاً ؟!!.. ربما . ويُسحب ذلك على ما يثار الان فى بريطانيا ، فهناك نقاش واراء تطرح من قبل ساسة بريطانيين ، فأرجو الحذر من اغفال فكرة الصراع أو التجاذب السياسي الداخلي ، وأتمنى أن لا يقحم قادة المشرق أنفسهم بصورة مباشرة ، عبر منطق الوصايا المفضل لديهم ، فيظهروا كعادتهم بمظهر الرافض لفكرة الحوار بحجة أنه يمس الخطوط الحمراء وما شابه ذلك ،( وهذا يشي بعدم إستيعابهم لأحد ركائزالثقافة الغربية ، محور القسم الأول من المقالة )، وأتمنى أن يتركوا للجالية فرصة الإندماج مع محيطها بمشاكله وتعقيداته لكي يقوى عودها وتتعلم من أخطائها ، بل ولإثبات أن الإسلام لا يخشى من الإستماع الى أخطر وأعمق الأسئلة ، فالقرآن الكريم مليء بالتساؤلات التى كانت تشكك فى الرسالة والرسول بل وفي وجود الله وحدود قدرته ، ومع هذا أثبتها القرآن الخالد ولم يهملها أو يتجاوزها ، كل ذلك من أجل أن يتعلم المسلمون ألا يهابوا فكرة الحوار مع الاخر مهما كانت الصيغ التي يتقدم بها ، أو درجة الاختلاف حول ماهية الأشياء وتوصيفاتها . وأعتقد أنه إذا أخذت الأمور بهدوء أكثر فستنتهي مع إنتهاء مبررات إثارتها السياسية ، وستتعلم منها الجالية أن ضريبة وجودها تحتم عليها الإنتباه الى جزئية أن قضاياها ومشاكلها تشكل جزء من اللعبة السياسية ، التى طالت اليهود ، والسود ، والمرأة ، وبعض الجماعات التى تطالب بحريات خاصة ، وغيرهم ، والتى نجحت فى انتزاع حقوقها عبر النضال مع مكونات ذات المجتمع لا الهروب بقضاياها الى شارع ينقصه الوعي بها ، والمعرفة بمبرراتها ، فتمنح خصومها المتربصين بها بغباء ذرائع تحويل بعض القضايا العابرة المرتبطة بتموجات سياسية قابلة للانحسار الى " عقدة خوف " دائمة ، فللسيد " جاك سترو " ان يتحدث مع مواطنته " المسلمة " حول قضية النقاب ، وللسيد رئيس الوزراء " بلير " أن يبدي رأيه حول بعض قضايا الشارع البريطاني الذى يشكل المسلمون جزء منه ، وفى المقابل ينبغي على الجالية أن ترحب بذلك ، فى مقابل ان تقوم بواجبها تجاه ذلك بما يلزم من حوارات واتصالات بوسائل الاعلام وبالقيادات السياسية ومراكز البحث وإستطلاع الاراء من أجل تثبيت حقوقها ، ولا مانع كذلك من تفهم فكرة التوازنات الحزبية التى تتطلبها هذه المرحلة ، وتسويق نفسها كأحد المرجحات ، فكما بلع الساسة شعارات بوزن " النفط مقابل الغذاء " و " الأرض مقابل السلام " فكروشهم الكبيرة سياسيا ستتقبل فكرة " أصوات مقابل مطالب " . نأمل أن يتفهم قادة العمل الإسلامي فى المشرق قصة وجود حضارة غربية مدنية ، وهي غير السياسة وتمحكات الساسة ، وأن يفكروا قليلا فى إمكانية فطم الجالية ، فقد كبرت وشبت عن الطوق وآن لها أن تعتمد على نفسها ، إبتداءً من نبذ عادة جلب الوعاض من أودية الهند أوغيطان الصعيد ، إنتهاء بإيقاف مسلسل التحدث باسمها من أناس يعيشون فى بيئات مختلفة ، وصولا الى رفض فكرة تسييس مشاكلها الداخلية لحساب جماعات وجمعيات وهيئات وطوائف لها حساباتها الخاصة جدا .. وربما المتخلفة جدا فى بعض الأحيان .