في الذكرى الحادية عشرة لإعلان برشلونة تبدو أوروبا أقل حماسة من أي وقت مضى للمشروع الذي يُفترض أنه أرسى المسار الأورومتوسطي في 15 تشرين الثاني (نوفمبر) العام 1995، بمشاركة وزراء خارجية خمسة عشر بلدا من أعضاء الاتحاد الأوروبي (قبل توسعته) إلى جانب اثني عشر بلداً متوسطياً (بينها ثمانية بلدان عربية). ومع تعثر الآمال المعقودة على تنمية التعاون الإقليمي وصولاً إلى إنشاء منطقة أوروبية – متوسطية للتبادل الحر، بسبب تداعيات الصراع العربي - الإسرائيلي، سيطرت الهواجس الأمنية على الأوروبيين وباتت تحتل الرتبة الأولى على أجندتهم. وما من شك بأن تنامي موجات الهجرة غير المشروعة نحو السواحل الأوروبية ساهم في تعزيز المخاوف من دول الضفة الجنوبية، لكن رؤية الأوروبيين أخذت تضيق لتنحصر في بحث القضايا العسكرية والأمنية في إطار مجموعة 5 + 5 التي تشكل جوارهم المباشر والمصدر الرئيس لزعزعة الاستقرار القومي والإقليمي معاً في نظرهم. وفي السنة الماضية لوحظ أن أهم اجتماع عقد بعد إخفاق القمة التي استضافتها اسبانيا في الذكرى العاشرة لإعلان برشلونة، هو الذي عقده وزراء الدفاع في البلدان العشرة في الجزائر في كانون الأول (ديسمبر) لتكثيف التعاون في المجالات الأمنية والعسكرية، بما في ذلك التنسيق في مراقبة السفن التي تعبر المتوسط وإخضاعها للتفتيش عند الاقتضاء، إضافة الى إحكام أمن الطيران لمجابهة مخاطر نقل أسلحة أو أشخاص مشتبه بهم. وكانت البلدان المغاربية الأربعة المشاركة في مسار «الحوار المتوسطي» مع الحلف الأطلسي (المغرب والجزائروتونس وموريتانيا) عززت التعاون في هذه المجالات مع القطع البحرية التابعة للحلف والمرابطة في المتوسط. وقبل أقل من شهر كان وزراء داخلية البلدان العشرة ناقشوا في اجتماع مماثل في باريس قضايا متصلة بتعزيز التنسيق الأمني. والأرجح أن الفرنسيين والإيطاليين والإسبان باتوا ميالين لاعتبار مسار 5 + 5 أمضى فاعلية من مسار برشلونة، وأكثر قدرة على اتخاذ قرارات عملية تحتاجها أوروبا في هذه المرحلة لتحقيق أجندتها الأمنية خصوصاً في مجالي مكافحة الإرهاب ومحاصرة ينابيع الهجرة غير المشروعة في الضفة الجنوبية للمتوسط وأفريقيا جنوب الصحراء. والظاهر أن لا تعارض بين مساري «الحوار المتوسطي» مع الحلف الأطلسي والتعاون في إطار 5 + 5، لأن الإطارين يخدمان أهدافاً موحدة، إضافة إلى أن جميع البلدان المشاركة عدا ليبيا موجودة في الإطارين في آن معاً. غير أن البلدان الأوروبية تبدو غير واثقة إلا بقواتها الخاصة لحماية القارة من الأخطار التي تعتقد بأنها قد تأتي من الضفة الجنوبية، على رغم اتفاقات التعاون العسكري والأمني الكثيرة مع البلدان المتوسطية. وتُجسد هذه الرؤية التحركات المختلفة التي تقوم بها الوحدات البحرية والجوية التي شكلتها البلدان الأوروبية الجنوبية، خصوصاً في الحوض الغربي للمتوسط، والتي تشمل زيارات دورية تقوم بها قطع حربية تابعة للقوة البحرية المتوسطية «أورومافور» للقواعد العسكرية المغاربية، تُقابلها زيارات مماثلة لقطع تابعة للحلف الأطلسي. وتعتبر وحدات «أورومافور» الذراع البحرية والجوية للقوة التي شكلتها أربعة بلدان متوسطية هي إيطاليا وفرنساوإسبانيا والبرتغال عام 1995 انسجاماً مع مبادئ السياسة الدفاعية التي حددتها البلدان الخمسة عشر الأعضاء في الاتحاد الأوروبي آنذاك، والتي رمت الى تكوين قوة عسكرية أوروبية مستقلة عن حلف شمال الأطلسي. وهي شكلت في الفترة نفسها ذراعاً برية أطلق عليها اسم «أوروفور» (Eurofor ) ووصل تعداد وحداتها إلى 60 ألف جندي في عام 2003. أما مسرح عمليات القوتين فحُدّد في المنطقة المتوسطية لذلك لم يكن غريباً أن يوضع مركز قيادتها في قاعدة فلورنسا الإيطالية كي تكون قريبة من نطاق العمليات المُفترض. وحددت مهمتها ب «حفظ الأمن والسلام وتنفيذ عمليات إنسانية»، والمُلاحظ أن قادة أركان البلدان الأعضاء في الاتحاد الأوروبي (أي الخمسة عشر) أقروا في أول اجتماع تاريخي لهم في 11 ايار (مايو) 2000 أهداف تلك القوة ونسق عملها ودائرة تحركها، مع إيضاح استقلاليتها من حيث القيادة والتموين والاستخبارات والرقابة عن القوات المسلحة لكل بلد عضو في الاتحاد. وشرح وزير الدفاع الفرنسي السابق آلان ريشار في كلمة ألقاها أمام مجلس الشيوخ الفرنسي في مطلع العام 2000 ضرورة تشكيل قيادة عامة ثالثة إلى جانب قيادة القوات الأطلسية المشتركة وقيادة قوة «أوروكوربس» (Eurocorps) التي شكلتها بلدان الاتحاد الأوروبي مع أعضاء الحلف الأطلسي، مشيراً إلى أن القيادة الجديدة ستجسد الاستقلالية الأوروبية كونها تمثل قيادة جيش متكامل أسوة بالقوتين السالفتين. وتقرر في شباط (فبراير) 2000 تكوين قيادة عامة يتداول عليها دورياً ضباط كبار من البلدان الأربعة. ويعتبر المسؤولون العسكريون الأوروبيون أن هاتين القوتين (أي «أوروفور» و»أورومافور») تعكسان الهوية الدفاعية والأمنية الأوروبية «التي لم تتح لها الأزمات السابقة في المتوسط التعبير عن ذاتها»، في إشارة إلى حربي يوغوسلافيا السابقة والبوسنة. وعلى هذا الأساس ركزت البلدان الأربعة في السنة الماضية التي صادفت الذكرى العاشرة لإعلان برشلونة على التحرك في المتوسط «من أجل المساهمة في خدمة أهداف مسار برشلونة». غير أن التمسك بالهوية الدفاعية الأوروبية لم يكن يعني يوماً النأي عن حلف الأطلسي، فوحدات القوتين تقوم بمناورات مشتركة مع قوات الحلف مرات عدة في السنة وتشاركها في التدريب، انطلاقاً من رغبة الأوروبيين في رفع المستوى القتالي للقوتين وتحسين قدرتهما على جبه الأزمات السياسية والكوارث الطبيعية، واستطراداً جعلهما مستجيبتين لمواصفات وحدات تقوم بأدوار إقليمية. ولوحظ أن البلدان الأربعة المشكلة ل «أوروفور» و «أورومافور» عبرت عن ارتياحها عندما أبدى الأميركيون والبريطانيون والألمان رضاهم عن مستوى القوتين واعتبرت ذلك «تكريساً لصدقيتهما». لكن هذه التقاطعات لا تدل إلى نهاية السباق الأوروبي – الأميركي على النفوذ في المياه الدافئة إن كان في المتوسط أم في أفريقيا. فالأوروبيون يعتبرون الضفة الجنوبية للمتوسط منطقة نفوذ تقليدية لهم ولا يخفون ضيقهم من تردد قطع الأسطول الأميركي عليها، فيما تبذل واشنطن جهوداً كبيرة لتعزيز التعاون العسكري والأمني مع بلدان المنطقة، خصوصاً في إطار ما درجت على تسميته ب «الحرب الدولية على الإرهاب». ويجوز القول إنها سجلت نقاطاً على أوروبا في هذا المجال من خلال اتفاقات التعاون العسكري مع كل من تونس والمغرب والجزائر وموريتانيا، ولا يُستبعد أن تشمل ليبيا في الأمد المنظور بعدما وصل أخيراً طيارون ومهندسون ليبيون إلى ولاية واشنطن الأميركية للتدرّب على قيادة جيل جديد من طائرات «بوينغ 737-800». والتعاون يبدأ بالمجالات المدنية ليتوسع إلى الميادين العسكرية. منافسة في أفريقيا وامتدت المنافسة إلى القارة الأفريقية إذ قررت الولاياتالمتحدة في آخر أيلول (سبتمبر) الماضي تشكيل قيادة عسكرية موحدة لعموم أفريقيا. وغير خفي الدور الحاسم لمصادر الطاقة في هذا السباق الشديد بين أميركا وأوروبا، إضافة إلى الصين في ضوء القمة الأفريقية – الصينية الأخيرة التي كانت «ضربة معلم» من بكين. ومن المتوقع أن تغطي واردات الولاياتالمتحدة من النفط الأفريقي نحو 30 في المئة من حاجتها إلى الطاقة بحلول عام 2020 مقارنة ب 15 في المئة حالياً. وتشعر البلدان الأوروبية، خصوصاً فرنسا، بالحاجة نفسها، ولذا باشرت تعزيز وجودها العسكري في القارة مع الحرص على خفض الكلفة بالتقليل من الوحدات البرية والتركيز على القوات المجوقلة، مثلما أظهر تقرير نشرته اخيراً جريدة «لوموند» عن القواعد الفرنسية في القارة الأفريقية. لكن الظاهر أن ملف مكافحة الهجرة غير المشروعة أفرز تباعداً في مواقف البلدان الأربعة المُشكلة لقوات التدخل السريع «أوروفور» و «أورومافور»، إذ طلبت مدريد وروما من الاتحاد الأوروبي في إلحاح شديد تقديم العون لهما لجبه موجة الهجرة غير الشرعية التي تفاقمت في الصيف الماضي، لكنهما لم تلقيا التجاوب الكافي. وأمام استفحال الظاهرة شكلت إسبانيا وإيطاليا وحدات خاصة لمراقبة المياه الإقليمية وإحباط محاولات الهجرة السرية. وأعلن وزير الداخلية الإيطالي جوليانو أماتو في 22 آب (أغسطس) الماضي أن وحدتين مؤلفتين من قضاة وحراس سواحل وشرطة سترابطان في ميناءي أغريجانتي وكاتاني جنوب صقلية. وقامت إسبانيا بتسيير وحدات بحرية لمراقبة سواحل موريتانيا والسنغال بالتعاون مع خفر السواحل في البلدين. مع ذلك يبقى تجمع بلدان الضفة الشمالية للمتوسط، أي إيطاليا وفرنساوإسبانيا والبرتغال، متماسكاً على الصعيدين السياسي والعسكري، وسيظل موحداً على الأرجح، بالنظر الى المخاطر المتوقع أن تأتي من الضفة الجنوبية والتي تتجاوز الهجرة غير المشروعة لتلامس ملفات أكثر التهابا تتطابق مع الملفات الموضوعة على الأجندة الأميركية، وفي مقدمها ما يسمى خطر انتشار الأسلحة غير التقليدية وخطر الإرهاب والجريمة المنظمة. *الصورة في الأعلى لقوارب مهاجرين غير شرعيين قبل انطلاقها