أيّ صلة يمكن أن تنعقد بين الانسان والحيوان؟ أهي الذّكرى؟ ولكن أيّ ذكرى؟ يتهيّأ لي، وأنا أستحضر سيرة الأخيل(تونسيّ بسيط كابد عذابات السّجون في العهدين: الاستعمار والاستقلال)، وأحاول أن أنفذ إلى دخائلها،أنّ هذه الصّلة "ذكرى" تقبع في سحيق سابق على وجودنا الاجتماعي، أعني منذ لا نتذكّر، ونحن كائنات هشّة بكماء، قطعة لحم تندلق إلى الأرض، وتتدرّج موكولة إلى هشاشتها في ذلك السّديم الأوّل أو النّعيم الأوّل،تتوسّل بالحركة والإيماءة أو بالضّحك والبكاء! إذن ألا يكون الحيوان ذاكرتنا الأولى المفقودة؟ إنّ الحيوان لا يرزح مثلنا تحت إرث الموتى،فإذا كان له ماض فهو ماضينا نحن البعيد، قبل أن تمتدّ إلينا يد المجتمع، وتحفر صورتها في لحمنا. جمعنا وإيّاه صباح غابر من أيّام الخليقة حيث كان درب بسيط يوحّد بيننا نحن حيوانات الأرض التي تفكّر لا برؤوسها فقط وإنّما بأيديها ومعدها وجلودها وأقدامها أيضا، وهذه الكائنات البكماء، رغم أنّ هذه القرابة قد نسيت كما كتب طاغور منذ عهد سحيق، ولم يبق من ذلك الفردوس السّالف غير وشم بسيط في لغتنا: هذه "المحاكية ..Omnotopéeالصّوتيّة" الكلمات التي تحاكي أصوات الحيوان والطّبيعة، وبخاصّة في لغة مثل العربيّة تمتلك خصيصة مميّزة في بنيتها الصّوتيّة هي عدم وجود صوت صائت ينفصل عن صوت صامت يلفظ قبله. ألا يكون تعاطف الأخيل مع كلبته" كسبة" وحبّه لزهرة لافيارج،تعويضا عن غياب تلك الذّاكرة الأولى؟ عن لحظة فيه مثلما هي فينا، لحظة مهملة منسيّة،لا ندرك كنهها، ولكنّنا نريد أن نستردّها بأيّ ثمن!؟ الكلب الذي ينظر إلينا بعينين في عينيه، وينام دونما ندم وبلا كآبة.. الحمام الذي يتسكّع في ساحات المدن الأوروبيّة، غير مبال بالنّاس، ولا أحد يزعجه"هو بقر أوروبّا الهنديّ !" كما قال لي البرتغالي أجيتوغونسالفاس.. وعول الجبال التي تتشمّم الهواء، ثمّ تقفز كلّما حدست خطرا،أو هي تربض ويسند بعضها بعضا قرب منحدر صخريّ ، أو على أطراف الغابات، وكأنّها تنتظر شيئا ما، كما رأيت بعد ذلك بأعوام، وأنا في سيّارة السّيّدة سيغريد كاهل ابنة المستشرق نوبرغ،نقطع الطّريق من ستوكهولم إلى لوند.. النّسر الذي يطير بعكس الشّمس، ويدور كأنّه يغسل الأرض من ريحها، ثمّ ينقضّ على حيوان أو طائر صغير، وينشب فيه مخالبه..سرب الإوزّ البرّي القادم من الجنوب، وقد انقسم إلى سربين مشكّلا علامة النّصر أو رقم( سبعة ) العربيّ أو الهنديّ ، في سماء الصّيف..حتّى البيضة التي تتهيّأ لتفقّس، والفرخ الذي يدقّ القشرة مثل كلمة سقطت من قصيدة، فهي تدقّ على باب الشّاعر، لأنّها لا تريد أن تتأوّه وحدها في الظّلام ، كما يقول الإسباني خوسي أنخل بالنته.. كلّ هذه الكائنات التي تعيش في الكون مثل الماء في الماء،ترتبط معنا بشوابك قرابة كثيرة! ربّما نحن نسمّي الأشياء، أمّا هي فالأشياء تتسمّى لها! يتهيّأ لي أنّ القوّة التي كانت تدفع الأخيل إلى تلك الكائنات البائسة المربوطة إلى ظلالها هي هشاشة الكائن، الهشاشة التي جعلت حياته خيطا واحدا ينتظم حبّه ل"كسبة" وحبّه لزهرة لافيارج وحبّه لتمبكتو التي سجن لأجلها مرّتين. ( أقول الآن لو امتدّ العمر بالأخيل،ولم تصفرّ ورقته قبل الأوان، لسخر من نفسه، ومن السّنوات الطّوال التي قضّاها في السّجن! فلا شيء تغيّر في تمبكتو! غيّرنا ما بأنفسنا، ولم ...! سيقرقر في الضّحك،وأنا أروي له مختلف النّوادر والحكايات التي أخزّنها في ذاكرتي، وأنا في القاهرة أو دمشق أو بغداد أو فاس أوصنعاء أو غرناطة أو بورتو... حتّى إذا عدت، قسّطتها على أصحابي،كما يقسّط الدّيك أصواته على أوقات اللّيل! سأروي له حكاية العصفور والبقرة والثّعلب.. سأقول له إنّ عصفورا نزقا طار ذات يوم بارد لاذت فيه العصافير بأعشاشها..طار حتّى وقع على العشب هامدا فاترا وهولا يقوى على ضمّ جناحيه من البرد..وصادف أن مرّت به بقرة، فسلحت عليه.. أحسّ العصفور وقد غطّاه الرّوث،بشيء من الدّفء، وبدأ يتحرّك، والحرارة تشيع في جسمه الصّغير، وقلبه يستعيد خفقانه! وصادف أيضا أن كان هناك ثعلب جائع يتتبّع أنفه ويستقرئ الأرض.. ولمح كومة الرّوث تتحرّك، فاقترب منها، ثمّ أخذ يزيل الرّوث بيديه ومخالبه.. وإذا بصاحبنا العصفور ينظر إليه بعينين هشّتين ضارعتين ولعلّه وهم أنّ الثّعلب جاء لتخليصه من ورطة الرّوث! ولكنّ الثّعلب ازدرده، ومضى في سبيله! سينظر إليّ الأخيل بعينيه المبيضّتين، ويقول:" ولكن ما المضحك في هذه الحكاية السّخيفة!؟" وأقول: " صبرك ياعم! لم أنه حكايتي! لنفكّكها! أولاّ: إذا سلح أحد ما على أحد ما أي راث عليه أو تغوّط وما إلى ذلك من هذا المعجم اللّغوي القذر، وسواء كان" السّالح" حيوانا أو انسانا أو حاكما بأمره، فليس معنى ذلك أنّه يريد ب "المسلوح عليه" شرّا! ثانيا:إذا أزال أحد ما عن أحد ما السّلح أو الزّبل أو الغائط،فليس معنى ذلك أنّه يريد له خيرا!" سيستوفز الأخيل،كدأبه كلّما تهيّأ للحديث أو راقته فكرة. لابدّ أنّه سيقول:" ثمّ ماذا؟ ياحرشوف! من أين لك هذا!؟" وأواصل،بنبرة الأكاديمي أو بلغة الباحث التي بدأت تفسد لغتي:" وبناء على ما تقدّم،فإنّ الحكمة التي ينبغي أن يتعلّمها كلّ من يستقوي بالآخر أو يستنجد به، عسى أن يزيل عنه، سلح الحكّام أو زبالتهم،هي أن يلبد تحت الرّوث،دون نأمة أوحراك، فلعلّ في الرّوث حكمة! ولعلّ البقرة أدرى بها!" سيقترب الأخيل منّي، وقد بدأ يتهيّأ للضّحك. وأواصل:"أمّا إذا أصرّ"المسلوح عليهم" من بني قومنا، على الطّيران في هذا الطّقس السّياسي العالمي المتقلّب، ثمّ وقعوا على الأرض،وأبوا أن يركنوا تحت أكوام الرّوث المتلبّد، وتحرّكوا كما تحرّك عصفور الحكاية،فلن يكون لهم سوى خيارين اثنين: إمّا أن يزدردهم الثّعلب الأمريكي، وإمّا أن يمتصّ نخاعهم الفنك الأنجليزي!" ستدوّي ضحكة الأخيل. سيعلّق:"ربّما كان عليّ أنا رهين المحبسين:لامبيز في الجزائر والرّومي في تونس، أن ألبد تحت روث فرنسا،إبّان الحركة الوطنيّة، ثمّ تحت روث الزّعيم، عندما أعلن الأستقلال الدّاخلي!"، سيقرقر كما لم يقرقر في حياته.) قوّة الأخيل هي هذه الهشاشة التي لم تقف به في منعطف دون آخر،وإنّما ظلّ يجري معها، ويتتبّع تدفّقها. معه تعلّمت أن أحترم الحمار،رغم أنّي لا أزال أحمل وسم صكّته في جبهتي، فهو ليس مثلا في الذّمّ الشّنيع والشّتيمة، ولا صوته أنكر الأصوات.إنّما هوطيّب ذكيّ حادّ السّمع، يهتدي إلى سلوك الطّرقات التي مشى فيها ولو مرّة واحدة! مع الأخيل تعلّمت ألاّ أزعج الجرادة وهي تغرز ذنبها في الأرض لتبيض، ولا الطّائر المطمئنّ في ريح الصّباح، وهو يهوي على ريشه بمنقاره، فينتف منه، ويطيّره في الهواء، ولا الحمام وهو يدخل فمه في فم أنثاه، وهما يتطاعمان! 1 أخذ هذا النّصّ من كتابي "فهرست الحيوان" الذي يصدر قريبا عن دار محمّد علي. *