أنا من قلّة تكنّ للحمار كلّ احترام، شأنه شأن حيوانات أهلية أخرى كثيرة جمعنا وإيّاها صباح غابر من أيّام الخليقة حيث كان درب بسيط يوحّد بيننا وبين هذه الكائنات البكماء، برغم انّ هذه القرابة قد نسيت كما كتب طاغور منذ عهد سحيق، ولم يبق من ذلك الفردوس السّالف غير وشم بسيط في لغتنا أعني هذه «المحاكية الصوتية» Onomatopée أي الكلمات التي تحكي أصوات الحيوان والطبيعة، وبخاصة في لغة كالعربية تمتلك خاصية مميزة في بنيتها الصوتية هي عدم وجود صوت صائت ينفصل عن صوت صامت يلفظ قبله. *** تعلّمت أن احترام الحمار منذ سني طفولتي البعيدة في الريف القيرواني، برغم أني لا أزال أحمل وسم صكّته في جبهتي.. فقد أحببنا حقّا تلك الكائنات البسيطة وتعلّمنا وحدنا ألا نزعج حتى الجرادة وهي تغرز ذنبها في الأرض لتبيض، ولا الطائر المطمئن في ريح الصباح وهو يهوي على ريشه بمنقاره، فينتف منه ويطيّره في الهواء، ولا الحمام وهو يدخل فمه في فم أنثاه، وهما يتطاعمان.. ولكن كان للحمار، من بين كلّ هذه الكائنات، شأن وأيّ شأن.. ثمّ كبرت وقرأت «حيوان» الجاحظ و»حياة الحيوان الكبرى» للدميري، و»حمار الحكيم» لتوفيق الحكيم، و»أنا وحماري» للإسباني الأندلسي خوان رامون خيمينيث.. وأحببت كثيرا مرثيّته لحماره «بلاتيرو» وهي التي نوّهت بها لجنة نوبل عندما منحته جائزتها في أواخر الخمسينات من القرن الماضي. *** هذه الأيام ازداد احترامي للحمار وأنا أسمع عنه وأراه في التلفزيون يقوم بواجبه في مقارعة الاحتلال الأمريكي للعراق ويحمل راجمات الصواريخ، ويقف حيث حدّد له المقاومون أن يقف غير آبه للخطر الذي يتهدّده.. فالجنود الأمريكان يعانون من حالة هيستيريا وهلسنة بصريّة.. وربّما حسبوا الدّيك حمارا، والحمار ديكا.. وربما أطلقوا نيران أسلحتهم على ذبابة تصقل بيديها مرآة حدقتها أو تمسح عينيها من الغبار.. بل لم أعد أصدّق ما يتناقله أسلافنا من أنّ الحمار إذا شمّ رائحة الأسد رمى نفسه عليه من شدّة الخوف، يريد بذلك الفرار منه.. فقد رأيت في التلفزيون جنديّا أمريكيا يقود حمارا متلبّسا ب»جرمه» وكان الحمار ينظر في عينيه بثقة، وينفض أذنيه.. ولعلّه كان يضحك ويداري ضحكه بالنّهيق.. وربما قال له الجنديّ في نبرة تأنيب: «حتى أنت أيها الحمار!». *** للعرب في مدح الحمار وذمّه أقوال شتى متباينة، شأنهم شأن شعوب أخرى كثيرة.. ف»الحمار شنار والعير عار»، وصوته أنكر الأصوات.. وهو مثل في الذمّ الشّنيع والشّتيمة.. وكانوا من كراهيتهم أسمه، يكنّون عنه كما يكنّون عن الشيء المستقذر، فيقولون «طويل الأذنين».. مع أن الحمار معروف بحدّة السّمع، وباهتدائه إلى سلوك الطرقات التي مشى فيها ولو مرة واحدة.. فلا تعجبوا إذا قطع الأمريكان دابر الحمير في العراق.. فقد تألف هذه الأحمرة حمل الرّاجمات والصواريخ.. وتتعوّد قطع الطريق إلى فنادق بغداد العامرة بالجواسيس.. وقد صارت حقّا «فنادق» (بالتونسي) أي حظائر تأوي إليها الماشية لتقيها نيران المقاومة.. وربما احتجت جمعيات «الرفق بالحيوان» في أمريكا على سلوك جنودهم المشين.. فقتل الحيوان مع سبق الإصرار والتمثيل به جريمة يعاقب عليها القانون.. فيعقد السيد دونالد رامسفيلد ندوة صحفية صاخبة وهو يشبك يديه من خلف، ويعلن على رؤس الملأ أنّ حمير العراق لا تستأهل رحمة ولا شفقة، فهي تتربّص بالحلفاء الذين هرعوا لتحريرها من بطش النظام العراقي السابق، وأنه مع ذلك أمر جنوده أن يعاملوها معاملة «حيوانية» لائقة، وأن يعدّوا لها من ينبغي من حظائر. وأما أمر علفها فسيتكفّل بول بريمر بتسويته مع مجلس الحكم الانتقالي «النّفط ثمّ النّفط ثم النّفط مقابل العلف»، وربّما صرخ في الصحافيين المحتجين: «وماذا تريدون أكثر من هذا؟! نغنّي لحمير بغداد ونضرب لها بالدّف!؟» أما العرب أولاد ال.... فيجترّون جعجعتهم كالعادة. والجعجعة لمن لا يجعجع من بني قومنا، أو هو يجعجع ولا يعرف أنه يجعجع، فهي صوت الجمال إذا اجتمعت أو صوت الرّحى. ويروى انّ المعرّي سمع شعرا لابن هانئ الأندلسي، فقال: «تسمع جعجعة ولا ترى طحينا». وهو مثل يضرب للجبان يتوعّد ولا يوقع، أو للبخيل يعد ولا ينجز. ولكن ينبغي تحيينه، كما نقول بلغتنا اليوم، شأنه شأن أمثال وحكم أخرى كثيرة هي أشبه بشواهد القبور. فلعلّ ترجمة هذا المثل إلى اللهجة التونسية هي الأكثر دلالة، بحيث تقول: «تسمع جعجعة وترى طحينا» و»الطحين» لمن لا يعرف لهجتنا من بني قومنا هو «التّديّث» بالعربية الفصحى، ومنه اشتقّت كلمة «طحّان» أي ديّوث، ومن لطائف العربية أن «التديّث» هو القيادة. وها هنا ينبغي أن يثوب صاحب هذا الباب الخاطئ إلى رشده، ويلزم حدّه، حتى لا يطرق بابا حقيقيا. *** هؤلاء العرب من «ذوي المروءة» أمازالوا يذمّون الحمار، ويعدّون من مساوئ الآداب أن يجري ذكره في مجالسهم؟ ألا يزال بعضهم كما قرأت في أخبارهم يستنكف من ركوب الحمار وإن بلغت به الرّحلة الجهد؟! وماذا لو تكلّم ذلك «الحمار البغدادي»؟ أما كان يقول بلسان عربيّ مبين: «أيّنا أخو مروءة؟ أنا «طويل الأذنين» أم أنت «يا طويل العمر»؟! ألم تدركوا بعد ما يراد بكم في هذا الزّمن الأمريكي العجيب؟ أن تمسخ صورتكم ولعلّها مسخت فأنتم نوعان من الحمير: نوع يحمل أثقال العولمة، ونوع ليّن الأعطاف سريع العدو يسبق الخيل، تركبه أمريكا وتغزو عليه في حربها «المقدسّة على الارهاب». *** العزاء كلّ العزاء فيكم معشر الحمير! «ولكن دهرنا هذا حمار». (أبو تمّام)