فاز شريط «آخر فيلم» للمخرج التونسي النوري بوزيد بجائزة التانيت الذّهبي لمهرجان قرطاج السينمائي، عدى بعض التعليقات هنا أو هناك وبعض القراءات النقدية في هذه الصحيفة أو تلك مضى الفيلم إلى رحلة بحث جديدة عن التسويق دون أن يثير الجدل الحامي المفترض إثارته حول فيلم من الصّنف الذي أخرجه النوري بوزيد بمضمون مثير ومعالجة لافتة خاصة وأن أفلاما أقل جرأة حظيت في مراحل سابقة من تاريخ الحراك الإعلامي والثقافي بالبلاد بأجواء نقاش حيوية ومجادلات واسعة امتدّت عبر مساحات إعلامية كثيرة واستقطبت جزءا مهما من وجوه النخبة الفكرية والثقافية بل والسياسية أيضا وهنا يمكن لنا استحضار أفلام نفس المخرج النوري بوزيد مثل «ريح السد» أو «صفائح من ذهب» التي شرّعت حولها أبوابا واسعة لنقاشات دسمة ومناظرات حيّة أعطت للمشهد الثقافي والفكري زخمه وحيويته. «آخر فيلم» يطرح معالجة سينمائية لموضوع التطرّف الديني ضمن دائرته الأكثر حضورا في الوقائع والأحداث والأخبار الراهنة وهي دائرة الإسلام الجهادي الذي ما فتئ يستقطب بغواية خطابه وأثير مستنداته أعدادا من الشبان الذي يرسلون للإستشهاد على خطوط المعركة المفتوحة عالميا ضد «الكفّار» متجوّلة من أرض إلى أخرى من أفغانستان إلى البوسنة ومن الفيلبين إلى الشيشان لتستقر اليوم بكثافة السقوط الدارماتيكي لبغداد بتركيز ودقّة وحماس على أرض العراق بلاد الرافدين. ما يحسب للنوري بوزيد أنه أطلق معالجة ابداعية للموضوع كمبدع تونسي بسرد تونسي وإطار تونسي وعنوان تونسي دون أن يستسلم لتلك الرؤية التي تتصيّد الإبداع باسم المصالح العليا للوطن فتمنعه من ولوج المعالجات السياسية الحساسة باسم ترويج الصورة الهانئة، المطمئنة، السعيدة للوطن كبطاقة بريدية جميلة تحيط بها الطبيعة الخلابة وزقزقة العصافير حيث لا مشاكل ولا هموم ولا انشغالات ولا أسئلة ولا حيرة. نعم هذا ما يحسب للنوري بوزيد وشريطه الأخير أنه أعاد للأذهان حقيقة أننا كتونسيين معنيين أيضا بخطر مظاهر غسيل الدماغ التي ترسل شبابا في مقتبل العمر إلى الموت باسم شعارات الجهاد وقتال الكفّار ونصرة الإسلام، إنه أعاد للأذهان حقيقة أننا بحاجة لطرح نفس الأسئلة العربية والإسلامية والعالمية حول قضايا التطرّف الديني في صيغته الجهادية العنيفة ونقل المعالجة إلى ساحة النقاش الفكري والثقافي والإبداعي والسياسي وعدم الإكتفاء بمعالجتها عبر منظومة القوانين وتطبيقاتها التنفيذية فقط. بالتأكيد مجتمعنا يملك حظوظا وفيرة في الحصانة ضدّ هذا التيار مقارنة بمجتمعات عربية أو حتى مغاربية أخرى ولكنّ هذا الأمر لا ينبغي أن يخفي عنّا أن شبابا من التونسيين المتعلمين في المعاهد والجامعات يتوجّه إلى العراق للإنضمام إلى الجماعات الجهادية ويقدّم نفسه فداء لمنظومة أفكار دينية سرمدية تتطلع إلى افناء الذات من أجل مطلب الطهارة الروحية التي تمر عبر الشهادة ضدّ الكفّار المترامية أصنافهم بين المحتل الأمريكي وبين من يسمّيهم شيوخ الفتاوي الجهادية بالمنافقين أعوان الكفر من الروافض والصفويين وما شابههم وهنا تنطلق فوضى القتل باسم المقاومة وعُنف الدم باسم الجهاد. فيلم النوري بوزيد المحيّن في المكان والزّمان يمتلك خصلة الشجاعة في اقتحام هذه الدائرة رغم اتجاه المعالجة الذي بدا سطحيا، مباشرتيا أحيانا تراجعت فيه لغة التخييل والترميز لفائدة خطاب إيديولوجي مباشر صادر فيه المخرج حق المتلقي في استخلاص الموقف والفكرة بفرضه لحيز طويل من الحديث التنميطي المباشر الذي برز غريبا عن اللغة السينمائية وأقرب إلى بعض المدوّنات السياسية التقليدية التي تذكّرنا بشعارات بعض الكتيّبات التي كان يصدرها بعض اليساريين التونسيين في سياق صراعهم مع التيارالأصولي قبل أن يرتدوا جملة وتفصيلا عما كتبوه!!! الفيلم شجاع وجريء ولكن مخرجه اعتقد في هذه الجرأة أكثر من اللازم حتى كأنه بدا منزعجا منها حين أقحم نفسه مفسرا مبيّنا في حوار كان واضحا أنّه موجّها إلى الرقيب أكثر مما كان موجّها إلى بطل الفيلم أوالجمهور ليبيّن سلامة النوايا وخلو المرجعية من أي شبهة وهذا في رأيي ما قد قلّص من دائرة المصداقية في العمل وسمح لتيار واسع من منتقدي شريط «آخر فيلم» بوضعه في خانة أعمال المتن الإبداعي الرسمي المنخرط في مجرى التيار الحكومي العالمي لمقاومة الإرهاب الذي يمثل خط قوى الإستعمار الجديد في مواجهة قوى المقاومة والتحرر الوطني وهو انتقاد لئن كان مبالغا فيه ومنخرطا بدوره في شكل من أشكال «الدمغجة» الإيديولوجية التي لا يحتملها عمل سينمائي فإنه يفسح المجال إلى غير ذلك من الانتقادات خاصة حين يبالغ مخرج الفيلم في تصوير شجاعة عمله وجرأته ويعلن أن مهرجان «كان» رفض الفيلم خوفا من هذه الجرأة وكأن شريط «آخر فيلم» هو أول شريط قد تناول قضايا التطرف الديني في تاريخ السينما العالمية!!! الطريف في كل هذا وما حملني تحديدا على الكتابة في الموضوع هو اتجاه بعض التغطيات الإعلامية لفوز النوري بوزيد بالتانيت الذهبي الى الاحتفاء بالشريط الفائز بتغييب كامل لموضوعه وتعمّد القفز على ما عالجه من انشغالات ولعل أبرز مثال كاريكاتوري لهذه الفوبيا الخانقة دوما هي التغطية التلفزية لسهرة اختتام المهرجان واللقطة التي تم اختيارها للشريط الفائز والتي توحي أن موضوع الشريط هو كل شيء من رقص وراب وغناء وشباب وفرح وغبطة إلا ما قد يمكن أن يفوح منه حقيقة الموضوع الذي يجب أن يبقى مغيبا ومسكوتا عنه فشريط «آخر فيلم» قد فاز بالتانيت الذهبي وبطله قد فاز بجائزة أحسن ممثل، وطوبى للسينما التونسية المتألقة وكفى أما المضمون فلا يجب أن تعلمه العامة أو تناقشه لأنها غير ملقّحة مثل صفوة النخبة الذكية!!! مسألة أخرى جلبت اهتمامي في موضوع أيام السينما هي استغرابي من استهجان عدد من المعلقين لكلمة رئيس لجنة التحكيم الأديب اللبناني الياس الخوري الذي أكد على الارتباط الحيوي بين الإبداع والحرية وقدّم بعض المقترحات الخاصة بإنجاز هيكلة مستقلة للأيام ومضى بعضهم بطريقة ردّ «الفعل البافلوفي» المتحمسة إلى التذكير بمنجزات حرية الإبداع في البلاد وتقاليدها الراسخة وعراقتها المتجذّرة وغير ذلك من الحديث الذي لم ينقصه سوى إدانة إلياس الخوري واتهامه بالعمالة للأطراف التي تتآمر على الوطن والمطالبة بمنعه مستقبلا من دخول البلاد!!! أعتقد أن المشكلة الحقيقية تكمن في عقدة النّقص الساكنة في أرواح من يظنّ أن كلام إلياس خوري يعنيه هو دون غيره في حين كان الأجدى أن نضمّ جميعا أصواتنا مع صوت رئيس لجنة التحكيم لنقول من هنا من تونس ومن مهرجان ترعاه الدولة وبحضور مسؤوليها وحماسهم ومشاركتهم نعم فعلا، ضروري وعاجل.. لا إبداع بدون حرية: ما أجمل أن تصدر هذه الرسالة من أيام قرطاجالتونسية، من تونس لكل مبدعي العالم!!!