ما نشهده في منطقتنا اليوم ليس فقط إفلاس الدولة (الوكالة الأجنبية) التي نشأت في ذيل الاستقلالات الشكلية خلال العقود الماضية، ولا انفتاح "المقاومة" التي اتخذت أشكالاً عصبوية طائفية أو مذهبية أو أقوامية... على الفوضى، ومن ثم إخفاقها في إعادة تشكيل وطنية جامعة أيضاً... ولكنه أكثر من ذلك؛ العودة الأليمة والمأساوية إلى منطق الصفقات التقليدية التي صاغت نظام العلاقات الدولية شبه الاستعماري في المنطقة، بين النخب الحاكمة والدول الكبرى في العقود الماضية! وهو ما سوف يترجم بإعادة تكريس الدولة القهرية المعادية لمجتمعها والمقاومة العصبوية الفاقدة لأي إرادة وطنية جامعة تمكنها من تغيير موازين القوى المحلية والإقليمية لصالح الشعوب في مواجهة نخبها المتحالفة مع القوى الكبرى. يطرح هذا التحول تحدياً كبيراً على قوى التغيير التي نشأت في السنوات الماضية؛ سواء من تصدى منها للتغيير عن طريق إصلاح الدولة، بفرض التحولات الديمقراطية وتطوير قوى المعارضة السياسية الداخلية، أو من تمسك بخط مقاومة القوى الأجنبية والكفاح ضدها كمدخل لعزل السلطة الاستبدادية والديكتاتورية أو تطويقها. ويدفع هذا التحدي أو ينبغي أن يدفع لا محالة إلى إعادة النظر في السياسة العربية ذاتها وبرنامجها، في شقها الإصلاحي وفي شقها المقاوم معاً. ليس التأكيد على راهنية التحويل الديمقراطي للدولة والمجتمعات، هو أصل الخطأ في برنامج الإصلاح والديمقراطية الذي تبنته قوى المعارضة التي التفت حولها قطاعات من المثقفين والطبقات الوسطى... ولكن رهانه على اندماج في الحياة الدولية لم تتوفر شروطه بعد، وارتباطه بالتالي بحسن نوايا قوى النادي الديمقراطي العالمي. وبالمثل، ليس التأكيد على أولوية الصراع لتحقيق السيادة والاستقلال هو الذي قاد المقاومة إلى طريق تعزيز الانقسام والفوضى العربيين، وإنما حصر المقاومة بالمهام الموجهة نحو الهيمنة الأجنبية. فكما أدى التفاؤل المفرط تجاه استقلال النظم عن الاستراتيجيات الدولية الكبرى، وأحياناً الاعتقاد بتبدلها في اتجاه ايجابي، إلى المبالغة في تقدير احتمالات التحول الداخلية، قبل أن يدفع البعض إلى التعلق بأوهام الضغوط الخارجية، قاد التثبت بمفاهيم مجردة للسيادة والاستقلال، إلى التقليل من مخاطر المقاومات العصبوية، ودفع إلى التغطية على الحروب الأهلية، أو الالتحاق باستراتيجيات النظم الاستبدادية التي كانت تعاني من أزمة في علاقاتها الدولية. ومن هنا، تعني إعادة النظر في السياسات التي وجهت عملنا في السنوات الماضية الرد على سؤال: كيف نبني معارضة ديمقراطية لا يكون رهانها الرئيسي الضغوط الخارجية، وكيف ننظم مقاومة لا تقود إلى الفوضى وانقسام المجتمعات وتفكك عروتها الوطنية أو دعم النظم الاستبدادية؟ يمكن تلخيص ما علمتنا إياه تجربة السنوات القليلة الماضية في أمرين: لا مجال لمعارضة ديمقراطية في إطار دولة مستلبة الإرادة والسيادة، ولا مجال لمقاومة وطنية من دون بناء قيم القانون والمساواة والحرية والعدالة والاستقلال... عند الأفراد. وهو ما يعني أن ما كان ينقص المعارضة ويضعف فاعليتها هو وجود روح المقاومة الفعلية للسيطرة الخارجية، وما كان ينقص المقاومة ويذهب أثرها هو تقدير صائب للترابط العميق بين الإستبدادات الداخلية والإملاءات الخارجية. فكما أن غياب القيم الوطنية يحول المقاومة للسيطرة الأجنبية إلى مقاومات عصبوية وفئوية بالضرورة، يلغي غياب مفهوم السيادة أيضاً أي إمكانية لإصلاح مستمر ومتراكم للدولة. والواقع، لا يعبر وجود برنامجي تغيير متناقضين، أحدهما يركز على التحول الداخلي والآخر على التغيير في العلاقات الخارجية، سوى عن غياب أجندة وطنية واحدة، داخل كل بلد عربي وعلى مستوى البلدان العربية مجتمعة، وهو ما يعكس الأزمة العميقة التي تعاني منها الوطنية العربية نفسها. في نظري، ما يدفع إلى إعادة التفكير في تبني مفهوم المقاومة ومنظورها تجاه القوى الخارجية، هو نفسه الذي ينبغي أن يدفع إلى إعادة النظر في مفهوم المعارضة الداخلية، والتأمل في مفهوم المقاومة بوصفها أسلوباً خاصاً بمواجهة كل قوى أجنبية، أي مفروضة بالقوة، خارجية كانت أم داخلية. وفي هذه الحالة لن يعود هناك فرق بين معارضة داخلية ومقاومة خارجية تماماً كما أن استمرار النظم الاستبدادية لا ينفصل بأي شكل عن استمرار نظم الهيمنة الأجنبية الخارجية. يتعلق الأمر في الواقع، كما بينت الأحداث، بنظام واحد للسيطرة والاستعباد، يتحرك على مستويات مختلفة، وتقوم بخدمته نخب متعددة الأصول والمشارب أيضاً. وليس لأي مجتمع قدرة على مقاومته من دون توحيد جهود قوى التغيير والإصلاح جميعاً فيه، تلك الحساسة لمسألة الحريات الداخلية والإصلاحات الديمقراطية، وتلك المتعلقة بشكل أكبر بقيم الاستقلال والسيادة والهوية. يتطلب دفع قوى التغيير العربية في اتجاه بناء قوة مقاومة واحدة، تجمع بين مواجهة العنف الداخلي الموجه للمجتمع، والعنف الخارجي الموجه للأمة بأكملها، التخلي عن كثير من الأوهام، والانخراط في عملية بناء طويلة، فكرية وعملية، لقوى المجتمعات، على مستوى البلدان ومستوى المنطقة معاً. ومن ضمن ذلك، الكف عن النظر إلى المقاومة كممانعة سلبية تهدف إلى قطع الطريق أمام تحقيق مشاريع الآخرين، أو تقتصر على التصدي أحادي الجانب لمشاريع الهيمنة الخارجية. بالعكس، ينبغي للمقاومة أن تتجاوز شرط السلبية لتكون مصدراً لمشروع خاص بها، يتعلق بإعادة بناء الأوضاع الوطنية، المحلية والعربية. ولا يمكن أن تكون كذلك إلا بقدر ما تكون قادرة على توحيد الشعب بجميع قطاعات رأيه العام ومكوناته الدينية والأقوامية والسياسية. وهو ما لا يتحقق أبداً عن طريق فرض الرأي الواحد أو إلغاء الآخر أو العمل تحت شعارات مذهبية أو طائفية أو دينية. إن مقاومة وطنية بالفعل لا تقوم من دون عقيدة وطنية سياسية جامعة، تتيح لأي فرد إمكانية الانتماء والانخراط فيها من دون تمييز، جاعلة من هذا الانتماء المفتوح على الجميع قاعدة لإعادة لحم الكسور المجتمعية. وبالمثل، فإن مقاومة وطنية ناجعة لا تقوم من دون رؤية واضحة ومنطقية مقبولة ومشروعة بالنسبة للقسم الأكبر من الرأي العام، لإعادة بناء علاقات السلطة ونظم الحكم والإدارة والتنظيمات الاجتماعية، أي من دون رؤية لنمط الدولة المنشودة. من هنا، لا تبني الشعارات الدينية أو الطائفية، مهما كانت، مقاومة وطنية، تشكل مشروعاً لإعادة توحيد الإرادة الجماعية، وإحياء الوطنية وبعثها، ولا لإعادة بناء الدولة، وتعزيز فرص إقامة المؤسسات السياسية والقانونية، التي يقبل الجميع الخضوع لها، والعمل ضمنها. ولا يبنيها أيضاً شعار الحفاظ على الأمن والاستقرار عن طريق كبت الحريات العامة وامتهان حقوق الأفراد والتسلط عليهم، بانتظار تحرير الأرض أو كسر الهيمنة الغربية. فبالإضافة إلى أن مثل هذا الموقف الذي ينظر إلى الأغلبية الشعبية وكأنها بالفطرة جاهلة أمية ولا أخلاقية، لا يمكن الثقة بها، وبالتالي لا يمكن القبول بالانفتاح عليها واحترام حرياتها ومعاملتها معاملة قانونية في وقت المواجهة مع السيطرة الخارجية... يخفي موقفاً عنصرياً واحتقارياً لا يمكن قبوله، فهو يقلب الحقيقة رأساً على عقب. والواقع أن بعض النخب الحاكمة لا تحرم الشعوب من حرياتها الأساسية، ولا توقف العمل بمبدأ حكم القانون خوفاً مما يمكن أن ينجم عن معاملة السكان معاملة قانونية، والاعتراف بحقوقهم والتخلي عن إرهابهم، من جنوح إلى تجاوز المصالح العمومية، والتعلق بمصالح جزئية، طائفية أو طبقية، أو إلى التعامل مع القوى الخارجية... ولكن بالعكس، لأنها تريد أن تظل طليقة اليدين تماماً أمام احتمال التوصل إلى تسويات مجحفة بحق المصالح الوطنية مع الدول الاستعمارية وأن تتفاهم مع هذه الأخيرة على تقاسم المصالح والموارد المحلية. هذا يعني أن الدمج بين برنامج مقاومة الضغوط الخارجية، والعمل على تحرير البلاد من الاستبداد والطائفية والمذهبية، وتعميم رؤية ديمقراطية تؤكد على حقوق الأفراد وحرياتهم وعلى المساواة التامة بينهم... هو محتوى برنامج المقاومة العربية المطلوبة، بقدر ما يشكل هو نفسه أساس بناء الوطنية، وتجاوز النزاعات والانقسامات العصبوية في أي مكان. *أستاذ علم الاجتماع السياسي، ومدير مركز دراسات الشرق المعاصر في جامعة السوربون بفرنسا