إن نظرة سريعة إلى المجتمعات المتقدمة، في الشرق والغرب على السواء، تؤكد أن استيعاب تلك المجتمعات للحضارة وتفاعلهم معها، ما كان له أن يتم أو يسجل، بغير هوية لغوية، تعقد الوشائج والصلات بين فكر تلك الأمم ومنجزاتها على أرض الواقع. فكيف للعرب أن يفخروا أنهم قد أسهموا بنصيب موفور في حلقات المعرفة الإنسانية، لو كانت تلك المساهمات بغير اللسان العربي؟ وربما لا يشفع لهم أن تلك الأعمال قد أردفت بتوقيعات أسلافهم العظام، كابن الهيثم وابن النفيس وابن سينا!! في هذا الإطار، عقدت الجمعية المصرية لتعريب العلوم مؤتمرها الثاني عشر بجامعة عين شمس بالقاهرة في الفترة منن 26: 27 من أبريل الماضي، حول "التعريب وكفاءة العملية التعليمية"، شارك فيه علماء من سوريا والأردن السعودية والكويت وقطر والإمارات والجزائر والسودان، بالإضافة إلى مصر. افتتح المؤتمر الدكتور "محمد يونس الحملاوي" أستاذ هندسة الحاسبات والأمين العام لجمعية تعريب العلوم، ثم جاءت "كلمة" الدكتور عبد الحافظ حلمي محمد رئيس الجمعية المصرية لتعريب العلوم، عرض خلالها للجهد الذي تبذله الجمعية في هذا الصدد، مشيرا إلى مكانة اللغة العربية وتاريخها الطويل في المجال العلمي، وإلى مقدرتها على احتواء العلم بإمكاناتها الاشتقاقية والتركيبية. وفي كلمتها، أشارت الدكتورة "سرى نبع العيش" (الأردن) إلى مكانة وتاريخ اللغة العربية في ميدان العلوم؛ حيث حملت العربية الفصحى لواء العلم واحتضنت أوعية المعرفة لمدة تزيد عن ثمانية قرون، إبان العصور الوسطى، قائلة "إن الأمة العربية قلبت ظهر المجن للغتها؛ فهي الأمة الوحيدة التي اتجهت إلى لغة المستعمر وأهملت لغتها، وهى الأمة الوحيدة التي تدرس العلوم وعلى رأسها الطب بغير لغتها، على الرغم من توصية منظمة الصحة العالمية بتدريس الطب باللغة القومية لكل بلد". كما طالبت الدكتورة "نبع العيش" بإنشاء مجلس عربي للغة العربية يرعاها ويعمل على تقدمها، ورفع الاضطهاد عنها. من جانبه، أشار الدكتور "محمد العربي ولد خليفة"، رئيس المجلس الأعلى للغة العربية بالجزائر إلى الأخطاء الشائعة بشأن استيراد المعرفة باللغات الأجنبية، في الوقت الذي نهمل فيه اللغة العربية، وأضاف "إن اللغة هي الشرط الذي لا غناء عنه لتوطين المعرفة وهى المشكاة التي ننطلق على هدى نورها لتحقيق كل الثروات". كما لفت الدكتور "ولد خليفة" إلى ضرورة توظيف كل الإمكانات العربية للتخلص من التبعية التي عانى العرب منها كثيرا، ولا يزالون، وقال: "إن إبعاد اللغة العربية عن العلوم الطبية والهندسية خطر يهدد وجودنا كأمة لها تراثها وحضارتها الممتدة عبر التاريخ والجغرافيا من المحيط إلى الخليج، فضلا عن العالمية التى علينا أن نعمل من أجلها حق العمل". واعترف "ولد خليفة" بصحة الاعتراض على تعريب العلوم، بدعوى قلة المراجع العربية، قائلا: "إنه صحيح؛ حيث لم يعد العلم يتكلم العربية كما كان في العصور الزاهية، إن الشرط الأول لقبول أي إنتاج علمي للترقية ونحو ذلك، أن يكتب بغير العربية، فكيف لنا بالمراجع؟!" وأوضح أن الثروة المادية لا تثرى ولا تزكوا إلا إذا صح الإنتاج المعرفي، "في ظل لغة قومية مسيطرة تشجع التفوق والامتياز، بعيدا عن التقليد الأعمى لغيرنا والمحاكاة التي لا طائل من ورائها". وفى كلمته، أوضح الدكتور "كمال بشر" نائب رئيس مجمع اللغة العربية بالقاهرة "أن قضية التعريب هي حلقة في سلسلة من مشكلات الوطن العربي؛ حيث لا وحدة متكاملة في أي وجه من وجوه الحياة العربية، فالحياة الاجتماعية العربية مضطربة إلي أقصي حد، والحياة الاقتصادية والسياسية أيضا، واللغة هي المرآة العاكسة لكل ذلك". ويري "بشر" أن قضية التعريب تحتاج – أولا – إلي تعريب الفكر العربي؛ فالبناء لابد أن يكون عربيا، وإشكالية تعريب العلوم واقعة بين صعوبات شتي، ترجع إلى الناس في المقام الأول؛ فكثير من الناس غير مقتنعين بتعريب العلوم، ومرد هذا إلي غياب الوعي الاجتماعي وانعدام روح الانتماء. التجربة السورية وبالرغم من عدم إلمام الكثير من الجامعات العربية بالتجربة السورية، فإنه قد مضى خمسة وسبعون عامًا أو نحوها وأساتذتها يدرِّسون أحدث نظريات الطب، ويعملون بأدقِّ الأجهزة، ويتحاورون حول الأمراض بلغة عربية سهلة واضحة لا يتعثر في فهمها المستمع طالبًا كان أم طبيبًا. ويبين الدكتور "هاني مرتضى" رئيس جامعة دمشق السابق، تجربته الشخصية في هذا المجال قائلا: "لقد درستُ الطب باللغة العربية، وتابعتُ اختصاصي في كندا، وحصلت على شهادة "البورد الأمريكي" في طب الأطفال، وعلى شهادة LMCC لممارسة الطب في كندا، وعلى شهادة زمالة الكلية الملكية الكندية FRCP، ولم أَلْقَ أي صعوبة في التدريب أو اجتياز أي امتحان". وقال: "إن هذا مثال واقعي ينطبق على عدد كبير من خريجي جامعة دمشق، الذين يتبوءون مراكز علمية، أو يمارسون الطب بنجاح في أوروبا وأميركا". التعريب في السودان وتحدث الدكتور "عبد العظيم بابكر زيدان" (السودان) عن تجربة جامعة الجزيرة بالسودان قائلا: "منذ أن صدر القرار عام 1992 بتعريب العلوم في السودان، تولت جامعة الجزيرة هذا الأمر، وأنشأت الهيئة العليا للتعريب.. وتم البدء في تعريب العلوم في كل الكليات، وفي مقدمتها كليات: الطب، والصيدلة، والعلوم، والهندسة .. وبعد عشر سنوات، أقامت الجامعة مؤتمرا لتقويم هذه التجربة، وأسفرت النتائج عن أن الطلاب الذين درسوا العلوم ومن بينها الطب بالعربية قد أظهروا تفوقا عن أولئك الذين درسوه باللغة الإنجليزية، فمن حيث الاستيعاب والفهم، حقق الطلاب الدارسون بالعربية النتائج التالية : 29% ممتاز، 57% جيد جدا، 10% متوسط ،4% ضعيف، ومن حيث المشاركة في قاعات الدرس والمختبرات، حقق الدارسون بالعربية ما يزيد عن 60 % ،خلافا للدارسين بالإنجليزية؛ حيث كادت تنعدم نسبة المشاركة بين الطلاب والأساتذة في أثناء المحاضرات. أهم المعوقات في تصريحات خاصة للموقع العربي لإذاعة هولندا العالمية، صرح الدكتور "يعقوب الشراح" ( الكويت ) الأمين العام المساعد لمركز تعريب العلوم الصحية "أن هناك كثيرا من المعوقات التي تحول دون الوصول إلي مستوي مرض في التعريب"،منها:معارضة بعض الأطباء العرب الذين يدرسون في كليات الطب، واعتمادهم علي اللغات الأجنبية، وهذه المشكلة تحتاج إلى قرارا سياسي. وقلة المترجمين والمؤلفين في العلوم الطبية، مقارنة بالعدد الكبير من الأطباء العرب. بالإضافة إلى ضعف التنسيق بين المراكز والهيئات المعنية بالتعريب في مجال العلوم الطبية والصحية، ومشكلة تسويق ونشر الأعمال الطبية العربية علي مستوي العالم العربي. وعن جهود مركز تعريب العلوم الصحية، التابع لجامعة الدول العربية، يقول "الشراح" أن المركز يبذل جهودا كبيرة في لتنشيط عملية تعريب العلوم الصحية، من خلال اختيار عدد كبير من الأطباء العرب القادرين على الترجمة والتأليف وعقد الصلات بينهم وبين المركز. كما يحاول المركز الوصول إلى مزيد من التنسيق بينه وبين الهيئات ذات الاهتمام المشترك، مثل : المكتب الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية،و مركز تعريب العلوم في سوريا، مكتب تنسيق تعريب العلوم بالرباط، هذا بالإضافة إلى المؤسسات الأهلية الأخرى،المنتشرة في كثير من البلدان العربية.