أثبتت التجارب الانسانية أن تبني مواقف آحادية والانصات بأذن واحدة والسير على قدم واحدة، لن تؤدي بأصحابها سوى الى طريق مسدودة والى وضعيات عرجاء ومفتوحة على النقائص. فلا الاكتفاء بالنصف الفارغة من الكأس أسلوب متوازن وعاقل ولا تركيز كل ما في حوزتنا من بصر وبصيرة على النصف الممتلئ من الكأس، عين الصواب. لذلك فإن صوت الحكمة يقتضي الجمع في صياغة رؤيتنا ومطالبنا بين الموجود والمفقود وهي طريقة تفتح باب الحوار وتقضم مخالب الرافضين للنقد ولكل من يواجههم بالعيوب والنقائص ومواطن التقصير. ويمكن القول إن المجتمعات العربية اليوم، تعيش أصعب حالات التجاذب بين موقفين اثنين هما: الموقف السلفي الأصولي المنغلق، الذي يشدنا الى ظلمات الوراء والموقف الليبرالي الحداثي المنفتح. وهو تجاذب بسبب الطرف الأول، لم نلمس له من أثر ايجابي حقيقي، ذلك أن كل طرف يحمل مشروعا مختلفا جملة وتفصيلا: مشروع يمجد العنف والموت ومشروع يحلم بتحرير الانسان العربي من كافة القيود. لذلك فإن الملاحظ يرى أننا لم ننجح في انتاج طرف ثالث يتسم برؤية توافقية بعيدة عن خطاب العنف ومتجذرة في القيم الكونية أي أنها تجيد الجمع بين ضرورة المحافظة على الثوابت الايجابية والدفاع عنها وبين وجوب هدم تلك الخصائص السلبية التي أعاقت تطورنا. مع العلم أننا لم نصل الى حد اليوم الى خلق أطراف قادرة على تحقيق التجاذب البناء، ذلك أن التجاذب الذي نحتاجه يجب أن يقوده المعتدلون والليبراليون. وحتى اذا كان الموقف التوافقي غير غائب، فإن وسائل الاعلام لا تكترث به ولا تمنحه المساحة اللازمة. فصحيح الى أبعد حدود الصحة أننا نعيش بعد سقوط الاتحاد السوفياتي وخصوصا على اثر تاريخ احداث 11 سبتمبر 2001، حربا ثقافية تحاول المس من الدين الاسلامي ومحو المنظومة الثقافية القيمية العربية والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى أو تعد. بل أن حتى أنصار الغرب كثيرا ما يشعرون بالاحباط بسبب ممارسات الولاياتالمتحدةالامريكية وبريطانيا وغيرهما. تلك الممارسات التي تجعل من موقفهم المناصر ضعيفا ورأينا ذلك بوضوح في فضيحة سجن أبو غريب وفي طريقة غزو العراق وغير ذلك. كما أن حملات التطاول على الدين الاسلامي ورموزه لا نعتقد أنها تمت بالصدفة أو أنها افراز طبيعي لبلدان تعيش حرية التعبير على مصراعيها، خصوصا أن عملية تواتر الحملات واتساعها حول بلدان أوروبية كثيرة، ينزع عنها فرضية الصدفة. ومثل هذه المؤشرات والوقائع يحتمان على المنتمين للثقافة الاسلامية وأيضا العربية الدفاع عن تعاليم دينهم الصحيحة والحقيقية وتخليصها من الأفكار المسبقة والمغالطات ومن خطإ الخلط العشوائي بين تعاليم دينية وأخرى تعاليم ذات علاقة بمنظومة العادات والتقاليد (وهي تعود الى الزمن الجاهلي أساسا). فمن المهم الدفاع عن مكونات ثقافتنا الحية ولكن دون أن يقتصر موقفنا على الدفاع فقط وإلا فسيكون حالنا كحال أصحاب الموقف الأحادي. ذلك أن الدفاع والتمسك لا ينطبقان سوى على ما يستحق ذلك، في حين أن الذات العربية في حاجة ماسة اليوم الى نقد ذاتي أيضا كي تتخلص من أمراضها والأسباب البنيوية ذات العلاقة بالعقل العربي وبضميره كي نستطيع أن ننهض بأكثر صحة. فمن يستطيع أن ينكر الأزمة الأخلاقية العميقة التي نعيشها ومظاهر التخلف الشاملة التي تجتاح كافة الأصعدة؟ لذلك فالمطلوب كي نشرع في ترميم حال هذه الأمة، أن ندافع عن تراكمها الثقافي والديني الصحيحين وألا نتوانى عن هدم معوقات الخروج من عنق الزجاجة التي وضعنا أنفسنا فيها ويسعى الخصم الحضاري لنا الى أن يبقينا في منطقة العنق مزيدا من العصور، مستفيدا من جماعات العقول والعيون والآذان المعصوبة.