في محاولة لرصد اثار الثورة الاتصالية والمعلوماتية على مجتمعاتنا العربية,حاورنا من خلال سلسلة من اللقاءات مجموعات من الشباب التونسي المهاجر الى أوربا قصد معرفة رأيه في جملة من التطورات الاجتماعية والثقافية والسياسية التي تشهدها الساحة التونسية على ضوء ماتعيشه البلاد من تطورات تقنية لامست مجتمعاتنا اثارها من خلال عوالم الانترنيت والفضائيات والهواتف الخلوية وغيرها من أشكال التواصل الحديث. كانت جلساتنا مع مجموعات الشباب التونسي في مقاهي ومطاعم وفضاءات ثقافية عربية بأوربا ,حيث تطرقنا الى موضوعات شتى تناولت الظواهر المجتمعية الناشئة وعلى رأسها قضايا الجنس والمخدرات والجريمة وظواهر الانحراف السلوكي ,كما كانت الأجواء سانحة لمعرفة اراء هؤلاء الشباب في موضوعات الساعة المتعلقة بالشأن الديني والسياسي والأوضاع الأمنية التي عاشتها البلاد مؤخرا... انطلقت حواراتنا الهامة من موضوعات مايتناقله التونسيون عبر زياراتهم المتكررة للبلاد من أخبار تفشي جرائم القتل والاعتداء بالعنف وجرائم الاغتصاب وانتشار ظواهر تعاطي وبيع المخدرات وغير ذلك من ظواهر حديثة بدأت تشق المجتمع منذ أواسط حقبة التسعينات وعلى رأس هذه الظواهر استشراء العلاقات الجنسية خارج اطار الزواج وميل شرائح معتبرة من الشباب وحتى قسم لايستهان به من المتزوجين الى المعاشرة الجنسية غير المشروعة . تطرق حديثنا أيضا الى ظاهرة التدين التي بدأت تبرز كظاهرة اجتماعية وثقافية مع الانتشار الواسع للصحون اللاقطة في تونس مطلع الألفية الجديدة ,وهو ماجعل محدثي يؤكدون على الدور البارز الذي لعبته الفضائيات وعلى رأسها فضائية "اقرأ" في الصحوة الدينية الناشئة ,ثم بعيد ذلك فضائية "الناس" في الأشهر الأخيرة ,حيث أصبحت هذه القناة ذات جمهور عريض يفضلها على ماسواها من القنوات الدينية , وهو ماأفرز بلا شك حالة من التدين الملحوظ في صفوف مايقارب نصف المجتمع ,الا أن هذا التدين بقي في كثير من الأحيان على عتبات الشكلية وعدم التجذر الذي يمكن ملامسته في كثير من النواحي الفكرية والسلوكية ,ولعل من أطرف الظواهر المرصودة في حوارنا المذكور هو وجود عناصر متدينة كثيرا ماعبرت عن هويتها وماضيها السابق من خلال انفلات الكثير من العبارات الفاحشة عند تعبيرها عن حالة الغضب العارم تجاه جملة من الجرائم المتفشية أو عند تعليقها على طبيعة الأوضاع السياسية في تونس أو في عموم المنطقة العربية . شكلت أحداث الحادي عشر من سبتمبر حسب رأي مجموعات الشباب التونسي المهاجر بداية التحول في الرأي العام, حيث اندفع الكثيرون وبطريقة غرائبية الى متابعة القنوات الاخبارية العربية لمعرفة أسرار ماحدث ثم ماترتب عنه من تداعيات دولية كان على رأسها احتلال أفغانستان ثم العراق وماتلى ذلك من أحداث بارزة في لبنان والأراضي المحتلة. كان لاحتلال أفغانستان والعراق أثرا عميقا على المجتمع وخاصة شرائحه الشبابية حيث اعتقد الكثيرون بوجود دوافع صليبية وراء ماحدث لهذين البلدين المسلمين ,ومن ثمة بدأت تبرز في الساحة رؤية سياسية مقرونة برؤية دينية ذات طابع سلفي متأثر بالخطاب الدعوي الفضائي. لم يعرف التونسيون في الأثناء بحسب شهادة الكثيرين فعلا سياسيا معتدلا أفلح في احتضان جموع الشباب الناقم ,بل ان ماكان يتداول من أحاديث في صفوف الموجة الجديدة من المتدينين كان شديد الاحتراز من تجربة النهضة ,حيث اعتبر الجيل الصاعد من الفاعلين الشبان أن تجربتها قد ساهمت في تعميق أزمة المجتمع التونسي نتيجة ماتعرضت له البلاد من حالة فراغ ديني على ضوء فرار بعض القادة البارزين من البلاد , ومن ثمة كانت الفرصة سانحة لدى هؤلاء لادانة أسماء بارزة في هذه الحركة واعتبارها قد تركت الشباب يتحمل مسؤولية خيارات فاشلة وغير مسؤولة قد حرضت عليها انطلاقا من مهاجرها في فترة تاريخية ما. وبالتوازي كانت مجموعات الشباب التونسي المهاجر تحمل أقدارا كبيرة من الحنق على السلطة نتيجة ماوصفوه بانعدام الافاق حيث قال بعضهم بأن مصير المتدين الفاعل في تونس هو السجن ومصير المنحرفين الفاعلين هو أيضا السجن , كما أن مصير المتعاطين في الشأن السياسي بشكل جريء من خارج منظور السلطة هو بلاشك السجن... التطرف ظاهرة انبثقت من سوء الادارة السياسية للأزمات الاجتماعية والثقافية بالبلاد : بالقدر الذي أجمع فيه المحاورون على ادانة ظاهرة التطرف والارهاب وارهاصاتها الأخيرة في تونس والمنطقة والعالم بوجه عام ,بالقدر الذي كان الكثير منهم متألما لما الت اليه الأوضاع من انغلاق أمني وانسداد سياسي ,حيث بدى المحاورون معتزين بالتجربة الغربية في ادارة الخلافات السياسية ومتباهين باقاماتهم أو حملهم للجنسيات الأوروبية برغم مايشعر به هؤلاء من مخاطر تربوية وأخلاقية تتهدد أبناءهم ومستقبل عائلاتهم في الغرب نتيجة ضعف الوازع الديني وغياب الدور الفاعل للمؤسسة الاسلامية التأطيرية. تحدث الشبان التونسيون عما أسموه ب"الغباء السياسي" وسوء الادارة وحالة الاستخفاف بعقل المواطن في زمن ثورة الاتصالات ,حيث أكد جميعهم على أن مايحدث في العالم من ثورة اتصالية كان يفترض في الجهات الرسمية الاستجابة للحد الأدنى من التطلعات الشبابية والشعبية العامة ,وعلى رأسها جملة من التحديات الحقيقية كمشكلات البطالة وتدهور مستوى التعليم وتردي القدرة الشرائية وطموحات المشاركة السياسية الحرة وضرورات الاعلام الحر والمعاصر كما جملة من القضايا الأخرى التي باتت تؤرقهم وعلى رأسها مشكلات تفشي الجريمة وأثرها الخطير على أمن الشارع والمواطن هذا علاوة على القلق العام نتيجة تغول الدور الأمني في الحياة الخاصة للمواطنين على خلفية الهواجس السياسية والامنية المبالغ فيها على حد تعبير الكثير من التونسيين والتونسيات... التغيير مطلوب من داخل السلطة أو خارجها في رؤية الشباب التونسي : اذا كان الشبان المهاجرون لايعتقدون في قدرة المعارضة التونسية على اقناعهم بمشروع تغييري نتيجة تشرذم الطيف المعارض ودورانه حول مصالح الزعامات كما يرى ذلك الكثير من التونسيين والتونسيات المقيمين بالغرب ,فان محاوري من الشبان الذين غادروا تونس في مغامرات الهجرة السرية أو قصص زواج طريف من سائحات أوروبيات أو غير ذلك من قصص التحصيل العلمي بالجامعات الغربية ..,فان هؤلاء أبدوا قلقهم العميق من الأوضاع الحالية كما عبروا عن رفضهم للعودة في ظل الوضع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الحالي ,مذكرين بأن حلم الهجرة السرية بات يراود أغلب الشباب في ظل سيطرة ظواهر الرشوة والعطالة والفوارق الاجتماعية الحادة كما بروز ظاهرة النفوذ المالي والسياسي لدى شرائح اعتبروها نافذة في اكثر من قطاع اقتصادي ومالي. البعض من هؤلاء الشباب التونسي الطامح تمنى حدوث اصلاحات من داخل الدوائر الرسمية وذلك بعد أن بات الجميع في مأزق ضاغط, والبعض الاخر ارتأى أن بعض الجهات المستفيدة من الأوضاع سوف لن تقبل بالاصلاح ومن ثمة سوف تدفع باتجاه مزيد من تعميق الأزمة ,في حين تمنى اخرون وقوع عملية انقاذ مشابهة لأخرى وقعت قبل حوالي عقدين معتبرا أن دخول الجماعات المسلحة على الخط سوف يعمق من هذه الفرضية ولاسيما في ظل تداخل العامل الدولي مع العامل المحلي ... وبين كل هؤلاء وأولئك من الشباب التونسي الطامح والذكي والمتذمر في نفس الوقت ذكر بعضهم بالاية القرانية الكريمة والتي طالما رددها الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة " ان الله لايغير مابقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " . -تم النشر على صحيفة الوطن الأمريكية-17 -18فبراير 2007+ صحيفة الحقائق الدولية بتاريخ 20 فبراير 07+مواقع وصحف عربية أخرى. **حرر بتاريخ 30 محرم 1428 ه-17 فبراير 2007 *كاتب من أسرة الحقائق الدولية/ رئيس تحرير صحيفة الوسط التونسية