الأخ مرسل، عطفاً على المقال أدناه فإن الأحزاب الاسلامية التي حملت المشروع الإسلامي على عاتقها إنما نشأت نتيجة الظروف الجيوسياسية في كل من منطقة وماهو الا نتيجة انقسام المنطقة الاسلامية الى دول ودويلات عقب انهيار الخلافة العثمانية، فلو بقيت المنطقة متماسكة على دولة واحدة لما نشأ بالضرورة حزب أو جماعة في كل جزء من تلك المنطقة لحمل المشروع الإسلامي، ونظراً للظروف الراهنة فإنني أعتقد أن نشأة جماعة في كل دولة اسلامية على حدة هي بذاتها عامل إيجابي حيث ان تلك الجماعة تعي متطلبات تلك الدولة التي نشأت فيها وتخاطب الجمهور وفقاً لذلك مع إتحاد جميع تلك الجماعات الإسلامية على مبادئ وأساسيات المشروع الإسلامي على المستوى الدولي. وفي الجانب الآخر ان كنت تقصد أن نقوم بحل الجماعات الإسلامية منعاً للإحتكار وأملاً في إشاعة الفكرة فإن ذلك سيؤدي الى فقدان العمل المؤسساتي وعامل الانضباط الذي على أساسه يقوم أي مشروع، والحل يكمن في انفتاح تلك الجماعات الإسلامية على عامة الشعب وعدم اعتبار الآخرين من الحادين على الطريق بحيث لا يمكن معاشرتهم أو التواصل معهم. بمعنى آخر قد تكون هناك عقدة الفوقية عند حملة المشروع الإسلامي مما يتنافى مع مبادئ المشروع الاسلامي نفسه الذي يقتضي التفاني في حمل هذا المشروع الى العامة وتوصيله الى كل فئات المجتمع حتى لو كانت بعيدة المنال. وقد تطغى في بعض الأحيان الجوانب السياسية على الأهداف الدعوية في حزب إسلامي ما، لكن ذلك لا يعني حياد ذلك الحزب عن الطريق لأنه في الغالب يكون هناك جهة رقابية ووازع ديني يمنع ذلك الحزب من الحياد عن الطريق على عكس الأحزاب السياسية الأخرى التي تفتقد تلك الرقابة والوازع، مع أن الأمثل هو إحداث توازن بين المتطلبات السياسية والمتطلبات الدعوية كي يمضي المشروع الإسلامي بمباركة إلهية، وإلى حين توحد الدول الاسلامية فإن على الأحزاب الآسلامية في كل دولة أن تسعى الى توحيد صفوف الجماعات الاسلامية المتفرقة على المستوى الموطني وتوحيد أجندتها لمواجهة التحديات الكامنة، وما مشروع الجماعة الإسلامية في باكستان الى مثال منير على ذلك، حيث نجحت (الجماعة الإسلامية) في تكوين (حزب العمل المتحد) التي تضم كل أطياف الجماعات الدينية السياسية بما فيهم الشيعة، وماهو المطلوب الا المحافظة على ذلك الكيان والتوسع في مخاطبة الجمهور للنهوض بالمشروع الإسلامي حتى بين الأوساط الغير دينية. مع التحية: ثاقب أعوان
صورة الاسلام المشرقة ومصالح الناس وحقوقهم ضاعت بين تسلط رسمي وصنمية مشائخية معارضة. -------------------------------------------------------------------------------- عودة الى موضوع الماضي والحاضر والمستقبل، فان الحديث عن أي مشروع اسلامي لابد أن يخرج عن الأطر التقليدية للطرح، حيث يتوجب على المشروع أن يخرج من الاطار الكلاسيكي الذي رسم مساره الراحل حسن البنا رحمة الله، وهو ما يعني أن حصر اطار المشروع في اطار ما سمي بالحركة الاسلامية المعاصرة يعد ضربا من الاحتكار للمنظومة الفكرية ومصادرة لحق الاخرين في حمل عبئ هذا المشروع الوسطي والمعتدل الذي يلقى تأييدا جماهيريا فطريا في كافة انحاء المنطقة العربية والاسلامية. لم يعد من الممكن في عالم اليوم وكما سبق أن لمحت في جرأة الى ذلك في مقال سابق الى أن هذا المشروع لابد أن ينتقل اليوم من طور الاحتضان الحزبي والحركي الى طور الاحتضان المجتمعي والمدني الأهلي الواسع، بحيث أن الكل يقوم على ثغرة من ثغرات المشروع بعيدا عن منطق احتكار الصفة الاسلامية والمزايدة بها على الاخرين أو الدخول في منطق التفسيق والابتداع أو التوصيف بالارتداد أو غير ذلك من المصطلحات الحكمية الصارمة والتي لابد أن تبقى نصا معرفيا موقرا بيد المتخصصين في الهيئات العلمية والفقهية ذات الصبغة المرجعية على مستوى بلاد العالم الاسلامي. ليس من العيب بمكان أن تستند أحزابنا الى مرجعية فكرية وحضارية اسلامية تراعي ثوابت الشرع وتجدد في اطار المتغيرات وما استجد للناس من أقضية وحاجات، غير أن هذه المرجعية لا تعني سلطة كهنوتية على الناس تقرب الى الله زلفى من تقرب اليها في الدرجات التنظيمية وتبعد عنه عز وجل وعن جناته من ابتعد عن مقاماتها الحزبية أو فارقها بدعوى ما يترتب عن مفارقة الجماعة من مقامات في نار جهنم أعاذنا الله جميعا منها. ان المشروع الاسلامي الوسطي والمعتدل كبير في حجمه وضخم في أعبائه الى الدرجة التي يعجز فيها حاكم بمفرده أو حزب بمختلف طاقاته على القيام به تأصيلا وتجذيرا سمحا وخلاقا ومبدعا وتقدميا وحداثيا بين ظهراني الناس، وهو ما يعني أن هذا المشروع لابد أن يخرج من الدائرة النخبوية الضيقة الى الدائرة الاجتماعية الواسعة، بحيث تنبري له هيئات المجتمع المدني تأطيرا لمشمولاته الواسعة كل بحسب طاقته وتخصصه ومجال تقدميته وابداعه، اذ يتحول بموجب هذه الرؤية من مشروع حزبي تحتكره راية سياسية الى مشروع لا يشكل عبئا أو احراجا للدولة والقائمين عليها، فهو حينئذ كل عمل اصلاحي خلاق يتناسق مع مقاصد الاسلام الحضارية ويتجه الى تجذير قيم الحرية واحترام حقوق الانسان والعدل والشورى والديمقراطية وفعل الخيرات والنهوض بأسباب العلم والمعرفة وتشييد صروح الانتاج الصناعي والاقتصادي، وهو أيضا طاقات ابداعية راقية في مجال الرياضة والفنون الجميلة والقطاع الاعلامي ومجالات الانتاج الاتصالي الحديث في حقول الفعل الرقمي السمعي والبصري وغير ذلك من مجالات الابداع التوليفي والتأليفي في حقول الأدب والتأليف الابداعي والوظيفي، وصولا الى كل زاوية من زوايا النشاط الانساني المطلوب والملح في زمن تنافس الأمم والشعوب على أرضية التعارف والتدافع. ان المراقب لساحة الحركة الاسلامية المعاصرة يقف اليوم أمام ظاهرة احتكار المشروع وشموليته الى الدرجة التي يصبح فيها الدفاع عن قيم الاسلام وعقائده وشرائعه السمحة من قبيل المهمة المحتكرة لهذه الحركات والأحزاب وهو ما يعد في نظري خطأ مركزيا قاتلا وقعت فيه هذه التيارات في ظل ادخالها لعنصر الهوية الاسلامية ومرتكزاتها الدينية الى حلبة المعارك الانتخابية والسياسية والأمنية المتكررة في أكثر من ساحة عربية، ومن ثمة تيسير الخلط بين الدين كمقدس جامع لشعوب المنطقة وحكوماتها في أغلب الأحيان وبين الطموحات السياسية الواضحة لقادة هذه التيارات في طرح نفسها كبديل سياسي غير ناضج أو مشائخي كهنوتي كثيرا ما يثير مخاوف المصالح الداخلية والنخبوية النافذة قبل اثارة القوى والمصالح الأجنبية الأنفذ والأكثر تجذرا سياسيا وأمنيا في بلادنا. ان المشروع الاسلامي في بعده الحضاري والمقاصدي والتحرري وحتى في بعده التشريعي المتعلق بإقامة العدل والشورى بين الناس برز بشكل قوي ونافذ في طروحات الحزب الحر الدستوري في تونس وفي طروحات جبهة التحرير الوطني الجزائرية في مؤتمر نوفمبر وفي الحركة السنوسية في ليبيا وفي الحركة المهدية في السودان وفي الدعوة الاصلاحية المتحالفة مع السلطة في مشروع الامام محمد بن عبد الوهاب بالمملكة العربية السعودية وفي تحالف المؤسسة الملكية في المغرب مع قادة التحرير الوطني من امثال المرحوم علالة الفاسي والشيخ الخطابي، وهو ما يعني أن المشروع يجد جذوره الراسخة والعميقة في مشروع دولة الاستقلال وماقبلها حين حكمت الدولة العثمانية بباياتها وداياتها وباشاواتها المنطقة العربية والاسلامية في سهولة ودون امتناع، غير أن ماعرفه تاريخ هذه الدولة من نزوع نحو التسلط والقهر في ظل اسناد الحكم الى العنصر القومي التركي الخاضع للأستانة-عاصمة الدولة العثمانية انذاك، ساهم في تفرق الناس وابتعادهم الذي وصل الى حد الكراهية والتمرد المسلح على سلاطين ال عثمان في أكثر من قطر عربي واسلامي. وحينئذ فان المشروع الاسلامي ليس مشروع الحركة الاسلامية التي يؤرخ لها الاسلاميون مع ظهور دعوة الاخوان رسميا في سنة 1928، بل هو مشروع يتجذر في مهد الدعوة المحمدية التي ابتعثت بالرحمة والخير والعدل مع صدع الرسول صلى الله عليه وسلم بأولى رسائل الانقاذ والتصحيح والاصلاح العقدي والديني والاجتماعي والثقافي...مع الفجر الأول للاسلام. ان المشروع انطلق حيا بين ظهراني الناس – مساحته المجتمع- ولم يكن مشروعا حزبيا ضيقا يحمل لافتة سياسية تقتصر على نخبة تتحرك في صفوف المثقفين أو المناضلين المعنيين بالشأن العام فقط، بل انه شأن مجتمعي اصلاحي واسع، فهو دعوة خيرية انسانية تهدف الى اشاعة الحب والتعاون ومعاني الشفقة والرحمة وحسن الخلق والاصلاح العام وليس مشروعا هدف الى القضاء على أبي لهب وأبي جهل وأبي سفيان والوليد بن المغيرة...، وانما هو دعوة أوسع الى كل الناس دخلها من عشقها رحمة وعدلا من الناس وأعرض عنها من أبى من عامة الناس أو ممن هو من علية القوم وأكابرهم. أما اليوم وقد أصبح أمر الاسلام مستقرا عقيدة وعرفانا بالهداية الى الرحمات وعالم النور والخير، فقد طرأت على مجتمعاتنا كثير من الانحرافات الاجتماعية والتربوية والخلقية..وحتى السياسية نتيجة شيوع الظلم وغياب العدل، فان تصحيح هذه الانحرافات لابد أن يصبح مسؤولية جماعية ومجتمعية شاملة يقوم فيها الحاكم على الواجب منها والممكن، ويقوم فيها المحكوم على ما هو من وظائفه ومسؤولياته بحسب دائرة المسؤولية والتخصص، بحيث تصبح للعالم وظيفة ملحة في اخراج الناس من الجهل وللعلماء المتخصصين في الفقه مسؤوليات ارشاد الناس الى مجامع الخير وللباحثين والخبراء المتخصصين في مختلف مجالات المعرفة مهمات الابداع في حقولهم المعرفية وللقادة والسياسيين مهمات قيادة وتوجيه مجتمعاتنا الى أقوم السبل في التصحيح والاصلاح بعيدا عن منطق السجن والسجان ومشتقاته ومنطق الصراع السياسي المدمر الذي زج بأجيال متتالية في ما وراء القضبان وشرد أجيالا أخرى في المنافي وابتعث اخرين الى عالم البرزخ تحت سياط التعذيب. ان المشروع الاسلامي المنشود لابد أن يقطع مع حركات بعينها وأحزاب تحمل على عاتقها الصفة الاسلامية، وتحول البعض منها بعد مرور عقود الى شكل من اشكال الكهنوتية بحيث تنحرف الدعوة من اقامة العدل بين الناس وشيوع الاصلاح بين الأمم الى حركات سرية لا يدخلها الا المؤمنون "الخلص" الذين يبايعون قيادات تخوض بهم غمار المغامرات السياسية والأمنية المتتالية دون اقتدار على المحاسبة أو التقويم الهادف والجاد والمسؤول الذي تخضع له كل الأحزاب السياسية الغربية المعاصرة دون قلق أو اضطراب في الصف القيادي نتيجة خسران منافسة انتخابية أو فشل في ادارة أزمة، لتتجدد بعد ذلك الدماء وتذهب أجيال وتأتي أخرى وتستمر الحياة دون رموز قيادية مؤسسة أو اباء روحيين لا نجدهم عندنا الا في العالم العربي حيث تغيب الأفكار والنخب المجددة والمؤمنة بالتداول نتيجة ما صنعته بعض حركاتنا الاسلامية من خلل أصيل رفعت بموجبه بشرا الى مرتبة القديسين تارة باسم المشائخ الذين لا يشق لهم غبار وتارة باسم المفكرين الذين لا يضاهيهم أحد في التفكير وتارة باسم المنظرين الذين لا ينافسهم بقية السياسيين في التنظير. وفي ختام تشخيصنا لواقع الأمة وبلاد العرب والمسلمين، فان المطلوب اليوم هو اخراج الحركات الاسلامية من واقع التقديس والتوقير "الصوفي" الذي يتحول احيانا الى ضرب من الدروشة السياسية والفكرية نتيجة غياب العقل النقدي الناجع، وكذلكم النظر الى تجربة هذه الحركات والأحزاب بعين بشرية مدنية تقبل فيها ما توافق مع مصالح الاسلام الحضارية ومصالح الناس والأمم والدول والأوطان وترد منها ما ثبت فشله وخطأه في ادارة الأزمات ومعالجة مساحات التدافع بينهم، هذا بعد الالحاح على عنصر تجريد القادة في هذه التجربة من العنصر المقدس وصفات المشيخية القاتلة أحيانا وصفات الالهام والتأييد الرباني التي نحسب أن الله تعالى وحده الكفيل بكشف أسرارها ومكنوناتها ان وجدت، ومن ثمة تسويتهم –أي هؤلاء القادة- في الحقوق والمتوجبات مع بقية الأعضاء والمناضلين والا فانها دعوة صريحة مني للتمرد على هذه الرهبانية والكهنوتية التي ما أنزل الله تعالى بها من سلطان لأن المتضرر في ذلك هو صورة الاسلام المشرقة ومصالح الناس وحقوقهم التي ضيعت بين جور وتسلط "رسمي" وصنمية مشائخية "معارضة" نخشى أن يقارنها الناس يوما بصنمية رهابنة بعض أساقفة وكرادلة القرون الوسطى. :كاتب واعلامي تونسي – رئيس تحرير صحيفة الوسط التونسية[email protected]