القيروان: إزالة توصيلات عشوائية على الشبكة المائية في الشبيكة    بالفيديو: مطار طبرقة الدولي يستعيد حركته ويستقبل أول رحلة سياحية قادمة من بولونيا    عاجل: أمر مفاجئ من ترامب: على الجميع إخلاء طهران فورا    في 5 سنوات.. 11 مليار دولار خسائر غانا من تهريب الذهب    كأس العالم للأندية: التشكيلة الأساسية للترجي الرياضي في مواجهة فلامينغو    كأس العالم للأندية: تعادل مثير بين البوكا وبنفيكا    اسرائيل تتآكل من الداخل وانفجار مجتمعي على الابواب    عاجل : ترامب يدعو إلى الإجلاء الفوري من طهران    كاس العالم للاندية 2025: تشلسي يفوز على لوس انجلس بثنائية نظيفة    بعد تسجيل 121 حريقا في 15 يوما.. بن الشيخ يشدد على ضرورة حماية المحاصيل والغابات    ميناء جرجيس يستقبل أولى رحلات عودة التونسيين بالخارج: 504 مسافرين و292 سيارة    يهم اختصاصات اللغات والرياضيات والكيمياء والفيزياء والفنون التشكيلية والتربية الموسيقية..لجنة من سلطنة عُمان في تونس لانتداب مُدرّسين    المندوبية الجهوية للتربية بمنوبةالمجلة الالكترونية «رواق»... تحتفي بالمتوّجين في الملتقيات الجهوية    في اصدار جديد للكاتب والصحفي محمود حرشاني .. مجموعة من القصص الجديدة الموجهة للاطفال واليافعين    الكوتش وليد زليلة يكتب .. طفلي لا يهدأ... هل هو مفرط الحركة أم عبقري صغير؟    أخبار الحكومة    انطلاق الحملة الانتخابية بدائرة بنزرت الشمالية    المنتخب التونسي للكرة الطائرة يفوز وديا على المنتخب الايطالي الرديف 3 - 1    بورصة: تعليق تداول اسهم الشركة العقارية التونسية السعودية ابتداء من حصّة الإثنين    تونس تحتضن من 16 الى 18 جوان المنتدى الإقليمي لتنظيم الشراء في المجال الصحي بمشاركة خبراء وشركاء من شمال إفريقيا والمنطقة العربية    منظمات تونسية تدعو سلطات الشرق الليبي إلى إطلاق سراح الموقوفين من عناصر "قافلة صمود".. وتطالب السلطات التونسية والجزائرية بالتدخل    طقس الليلة    تونس تعزز جهودها في علاج الإدمان بأدوية داعمة لحماية الشباب واستقرار المجتمع    إسناد العلامة التونسية المميزة للجودة لإنتاج مصبر الهريسة    تجديد انتخاب ممثل تونس بالمجلس الاستشاري لاتفاقية حماية التراث الثقافي المغمور بالمياه لليونسكو    عاجل/ وزير الخارجية يتلقّى إتّصالا من نظيره المصري    "تسنيم": الدفاعات الجوية الإيرانية تدمر مقاتلة إسرائيلية من طراز "إف 35" في تبريز    اتحاد الشغل يدعو النقابيين الليبيين الى التدخل لإطلاق سراح أفراد قافلة "الصمود"    تونس تدعو إلى شراكة صحّية إفريقية قائمة على التمويل الذاتي والتصنيع المحلي    نحو إحداث مرصد وطني لإزالة الكربون الصناعي    جندوبة: اجلاء نحو 30 ألف قنطار من الحبوب منذ انطلاق موسم الحصاد    العطل الرسمية المتبقية للتونسيين في النصف الثاني من 2025    عاجل/ باكستان: المصادقة على مشروع قرار يدعم إيران ضد إسرائيل    جندوبة: الادارة الجهوية للحماية المدنية تطلق برنامج العطلة الآمنة    "مذكّرات تُسهم في التعريف بتاريخ تونس منذ سنة 1684": إصدار جديد لمجمع بيت الحكمة    الدورة الأولى من مهرجان الأصالة والإبداع بالقلال من 18 الى 20 جوان    في قضية ارتشاء وتدليس: تأجيل محاكمة الطيب راشد    القيروان: 2619 مترشحا ومترشحة يشرعون في اجتياز مناظرة "السيزيام" ب 15 مركزا    عاجل : عطلة رأس السنة الهجرية 2025 رسميًا للتونسيين (الموعد والتفاصيل)    الكاف: فتح مركزين فرعيين بساقية سيدي يوسف وقلعة سنان لتجميع صابة الحبوب    ابن أحمد السقا يتعرض لأزمة صحية مفاجئة    تأجيل محاكمة المحامية سنية الدهماني    دورة المنستير للتنس: معز الشرقي يفوز على عزيز دوقاز ويحر اللقب    خبر سارّ: تراجع حرارة الطقس مع عودة الامطار في هذا الموعد    10 سنوات سجناً لمروّجي مخدرات تورّطا في استهداف الوسط المدرسي بحلق الوادي    189 حريق خلال الأربع والعشرين ساعة الماضية….    باريس سان جيرمان يقسو على أتليتيكو مدريد برباعية في كأس العالم للأندية    النادي الصفاقسي: الهيئة التسييرية تواصل المشوار .. والإدارة تعول على الجماهير    تعاون تونسي إيطالي لدعم جراحة قلب الأطفال    كأس المغرب 2023-2024: معين الشعباني يقود نهضة بركان الى الدور نصف النهائي    صفاقس : الهيئة الجديدة ل"جمعية حرفيون بلا حدود تعتزم كسب رهان الحرف، وتثمين الحرف الجديدة والمعاصرة (رئيس الجمعية)    لطيفة العرفاوي تردّ على الشائعات بشأن ملابسات وفاة شقيقها    قابس: الاعلان عن جملة من الاجراءات لحماية الأبقار من مرض الجلد العقدي المعدي    تحذير خطير: لماذا قد يكون الأرز المعاد تسخينه قاتلًا لصحتك؟    من قلب إنجلترا: نحلة تقتل مليارديرًا هنديًا وسط دهشة الحاضرين    قافلة الصمود فعل رمزي أربك الاحتلال وكشف هشاشة الأنظمة    ملف الأسبوع .. أحبُّ الناس إلى الله أنفعُهم للناس    طواف الوداع: وداعٌ مهيب للحجيج في ختام مناسك الحج    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من وحي الإنتخابات المصرية أو الإسلاميون وإشكالية تلبس الدين بالسياسة ( 1 )
نشر في الحوار نت يوم 30 - 11 - 2010


من وحي الإنتخابات المصرية
أو الإسلاميون وإشكالية تلبس الدين بالسياسة
( 1 )

ما هو سؤال هذا المقال؟

هو السؤال التقليدي العادي المطروح. جذره هو : لماذا إنحططنا ونحن مؤمنون مسلمون موعودون بالشهادة على الناس وخدمتهم بالهداية والحضارة والثقافة وليس بالتقدم والنهضة فحسب فيما يلينا داخليا.. لماذا إنحططنا وتقدموا. هم لم يتقدموا فحسب بل سلطوا علينا تقدمهم ليأسرنا إليهم أسرا ولمن أبى الأسر الثقافي إستلحاقا بالنموذج الغربي فله ما لغزة اليوم وما يجهز لتركيا لولا أن تركيا غير العربية جهزت بدورها لهم ما تيسر من “ قوة ومن رباط الخيل “ إرهابا لمن تحدثه نفسه قبل أن تعالج جارحته بالعدوان. ذلك هو جذر السؤال ولكن ما يهمنا في هذه المقالة الصغيرة هو جذع السؤال وهو : إذا كانت الأمة من بعد نكبتها في وحدتها السياسية الأخيرة ( الخلافة العثمانية ) قد بادرت بتصور لمعالجة آثار الإنحطاط وآثار الغزو الفكري والإحتلال العسكري من خلال ثلاث محاولات هي : الإخوان المسلمون بزعامة الإمام الشهيد المجدد البنا عليه رحمة الله سبحانه و الجماعة الإسلامية الباكستانية بزعامة الإمام أبي الأعلى المودودي عليه رحمة الله سبحانه والحركة السلفية سواء كانت تحت سقف مشاريع نهضوية فكرية من مثل مشروع الإمام محمد عبده عليه رحمة الله سبحانه أو من خلال المشروع الإصلاحي للإمام الأفغاني عليه رحمة الله سبحانه أو تحت سقف رجال مجددين يغلب عليهم الإجتهاد الحر والممارسة الحرة من مثل وريث المدرسة الخلدونية مالك بن نبي عليه رحمة الله سبحانه فضلا عن محاولات نهضوية أو تحريرية أخرى كثيرة قد لا يأتي عليها حصر.. إذا كانت الأمة قد بادرت بالمقاومة فكرا وعملا أملا في إستعادة مكانها في الأرض منذ ما يقترب من قرن كامل بحسبان أن أشهر تجربة في المشروع النهضوي المعاصر هي تجربة الإمام البنا ( وكذا تجربة الإمام المودودي في العالم الإسلامي غير العربي وكلاهما تحت سقف الإرث السني سيما بعد ما ظهر أن التجربة الإيرانية على يد الخميني لم تكن منذ اليوم الأول ثم تجلى ذلك من بعد ذلك بما لم يعد مجالا لأي ريب خالصة للأمة بسبب أن جزء كبيرا منها بل لعله الجزء الأكبر الذي يكاد ينافس عطاء تلك التجربة منذ اليوم الأول كذلك إنصافا حتى اليوم في إتجاه قضية الأمة المركزية الأولى أي فلسطين مخصص للطائفة والمذهب دينيا وتاريخيا وسياسيا).. ثم لم يقع إستخلاص أي جزء من البلاد العربية ولا الإسلامية ( حوالي 60 بلد إسلامي من جملة حوالي 190 أي : حوالي الثلث كميا) إستخلاصا قويا أمينا لصالح الإسلام ومشروعه السياسي المعاصر( بل إن أمثلة الفشل في ذلك الإستخلاص هي الأشهر حتى اليوم : السودان وأفغانستان فضلا عن القضاء المبرم على بعض الحركات الإسلامية التي كانت قاب قوسين أو أدنى من ذلك الإستخلاص : الجزائر عن طريق الفيس وشيء شبيه في جانب ما في الحالة التونسية وآخر في الحالة الليبية وكذا الحالة السورية فضلا عن إبتلاع العدو الأول للحركة الإسلامية المعاصرة أي أمريكا وإسرائيل لأكثر من بلاد عربية بأسرها عن طريق الإحتلال العسكري المباشر من مثل فلسطين منذ 62 عاما والعراق منذ 7 سنوات ( أو قل هدية أمريكا لغريمتها إيران) .. إلا محاولات إسلامية صغيرة تكاد تكون غير ذات أثر ولا جدوى لأسباب إقليمية وجغرافية وبعضها لأسباب فكرية أصلا ( إسلاميو الكويت إخوانا وسلفيين بموقفهم المتخلف من المرأة أما الحالة اللبنانية ( شيعة وسنة) فهي غير قابلة للقياس بسبب التكوين الطائفي الأصلي للبلد فضلا عن جغرافيا المقاومة الساخنة..)

إذا كانت الأمة قد بادرت لإستعادة مكانها في الأرض الحقيقة أن المبادرة المعاصرة عمرها أزيد من ثلاثة قرون كاملة ولم تنجح إلى اليوم في تنزيل مشروعها السياسي المقصود تحديدا إستخلاص السلطة لتنفيذ مقاصد الإسلام الأساسية العظمى من مثل : المساهمة في تحرير الأرض المحتلة ( سيما فلسطين لطبيعتها الدينية الإسلامية : أرض وقف) + المساهمة في حفظ وحدة الأمة وتجفيف منابع التشقق والتصدع والتمزق والتفرق + بناء قوة عسكرية ترهب أي عدو تحدثه نفسه بالعدوان على الأمة ( فضلا عن المستضعفين عامة في أي مكان)+ إتاحة الحرية والكرامة للناس + فرض العدل الإجتماعي والمساواة في فرص الكسب والتوزيع والإستمتاع + بث الوعي الإسلامي الصحيح الأصيل إبتغاء التجديد والإجتهاد والإبداع الحضاري والعمراني والثقافي (الإنسان + المرأة + التراث + الغرب + الحداثة إلخ..) إذا كانت الأمة قد بادرت إلى ذلك ولم تنجح حتى اليوم ( بل إن الفشل يكاد يكون هو الأبرز بما فيه الفشل الداخلي ( السودان وأفغانستان وغيرهما) فضلا عن الفشل المفروض بعصا الدولة العربية)..فإن سؤالا جديدا هو ( سؤال الجذع) لا بد من طرحه : أليس حريا بنا أن نراجع الأداء والكسب بكل شجاعة وجرأة فلا ندع ثابتا سوى ما هو ثابت في القرآن والسنة وكم هي ثوابتهما قليلة جدا جدا جدا لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ؟

السؤال بالصياغة القرآنية.

القرآن الكريم صاغ السؤال ذاته تعقيبا على عدوان أحد ( العنوان الصحيح لما سمي في التاريخ والتراث غزوة وغزوات هو : عدوان. بسبب أنه عليه الصلاة والسلام لم يؤمر بغزو ولو مرة واحدة لا في القرآن ولا في السنة وهو لم يغز أحدا أبدا إلا دفاعا عن النفس والجماعة والإسلام والأمة والمستضعفين حتى خارج دائرة الأمة ولا شك أنها لوثة من لوثات التاريخ ولوثات التراث التي صنعت العقل الإسلامي المعاصر تفاعلا مع معطيات داخلية وخارجية أخرى كثيرة وكانت ثمرتها أن النبي محمدا عليه الصلاة والسلام غزا الناس في سبع وعشرين مناسبة وجهز ضدهم سرايا في أربع وخمسين مناسبة وبذلك قدمه التراث التاريخي لنا ولغيرنا وغيرنا في أمس الحاجة إلى ذلك غازيا تاريخيا من طراز فريد وعجيب والحقيقة التاريخية المحققة الممحصة هي أنه كان دوما يرد على الغزوات المنظمة ضده بما فيها المؤامرات اليهودية الداخلية أو التحالفات العربية القرشية الغطفانية القبلية أو الرومية ولم يبدأ يوما أحدا بقتال بما فيها خيبر التي تمحل فيها بعض المؤرخين ممن يلتمس له عليه الصلاة والسلام عذرا فيها. أصدق ما قيل في ذلك أن الإسلام لم ينتشر بحد السيف ولكن الإسلام كان دوما ضحية السيف من ذلك اليوم حتى يومنا هذا. أحد إذن ليست غزوة ولكنها عدوان قرشي ثأرا لبدر شأنها شأن كل العداوات المنظمة ضده وضد الإسلام والأمة من فجر الإسلام حتى ضحاه أو ظهوره).. صاغ القرآن الكريم السؤال ذاته تعقيبا على عدوان أحد بقوله : „ قل هو من عند أنفسكم”. وذلك ليعلمنا درسا في الحياة إسمه : مراجعة الذات ونخل كسب التجربة بعدل لا جلد فيه للذات ولا غرور أو عجب.. تلك مراجعة لئن جاءت درسا منه سبحانه إلى من إستأمنه دينه وإستودع أمته كلمته الأخيرة إلى الإنسان كله في الزمان كله والمكان كله .. فإن غيره إليها أحوج وهي له أوكد.

ولكن المشكلة ليست في المراجعة من حيث المبدإ. ليس هناك فوق الأرض من يقول لك : لست بحاجة إلى المراجعة والنقد. ولكنك قد لا تعثر حقيقة دون أدنى مبالغة في حياتك كلها على تجربة أخضعها أهلها للمراجعة العادلة المنصفة فإذا فعلوا ذلك أبقوا خلاصاتهم وحصائلهم في الرفوف يفترسها الزمان أو في أدنى موضع من الذاكرة أو قل في موضع متحفي من الذاكرة فلا تدعى إلا لإثبات أن الجماعة راجعوا أنفسهم ثم يطبق التقليد سدوله المخيفة على كسب يوم جديد وتنشأ التصدعات حينا وينصرف بعضهم عن الأمر بالكلية حينا آخر ثم تموت التجربة عقدا من بعد عقد فإذا نشأت جماعة جديدة يقع إنتاج الشريط ذاته وما بالعهد من قدم كما قالت العرب.

لماذا يسأل الإسلاميون دون غيرهم.

ببساطة شديدة لأنهم مستأمنون على مشروع نهضة الأمة وإستعادتها لمجدها في الأرض والتمكين لها من جديد دحرا للإحتلال والإستبداد أو تنزيلا لمراد الإسلام من الناس أي ( قل أمر ربي بالقسط) و ( إن الله يأمر بالعدل) و ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ) و ( ليقوم الناس بالقسط ) ... أي إقامة العدل والقسط بينهم وبين الناس. لا يعني ذلك أن غيرهم من شركاء النهضة مستثنون من السؤال أو من المشاركة في مشروع النهضة ولكن مشروع نهضة الأمة الإسلامية لا يكون بغير الوفاء لقطعيات الإسلام وثوابت السنة وبقدر الوفاء لذلك يكون المشروع النهضوي المعاصر إسلاميا والعكس دوما صحيح.

المشروع الإسلامي المعاصر بين الدين والسياسة.

ليس هناك إشكالية عملية إعترضت سبيل الأمة من بكورها الباكر ( أقل من نصف قرن من بعد موت صاحب الرسالة عليه الصلاة والسلام ) حتى اليوم ولازمتها على طول الأيام مثل ما فعلت ذلك إشكالية تلبس الدين ( أي الإسلام ) بالسياسة ( أي بشؤون الحكم عمليا). الإشكالية بقدر ما هي جلية واضحة نظريا في الكتاب والسنة ( بل وحتى في تطبيق الرسول الأكرم عليه الصلاة والسلام بالرغم من تلبس الدين فيه بالسياسة بسبب جمعه بين النبوة والإمامة وهو ما ليس لغيره لا من الأنبياء والمرسلين من قبله ولا من بعده بطبيعة الحال بإعتباره النبي الخاتم).. الإشكالية بقدر جلائها في النظرية الإسلامية يكون الشغب عليها أو بها عمليا.

كيف كان وضوحها نظريا.

تمثل ذلك في مسائل منها :

1 أن نص الإسلام في مصدريه المسؤولين الأساسيين الناطقين دون سواهما بلسانه أي القرآن والسنة على السياسة ( القصود بها سياسة أمر الناس سواء كانت سياسة إدارية أو مالية أو علاقة بين الحاكم والمحكوم “ أو بين الأمة وخادمها بالتعبير التراثي الأوفى لحكم الإسلام “ أو علاقة خارجية بمن حولها من عدو وصديق وحليف وقوي وضعيف ومستضعف).. نص الإسلام على ذلك بسبيلين هما : أولهما سبيل النص الأمري المباشر الموجه إلى الأمة من مثل ما أنف ذكره ( إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) و قوله ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) وآيات أخرى غير قليلة فضلا عن الحديث النبوي الشريف. وثانيهما هو سبيل الإقتضاء أي أنه سبحانه أمر الأمة ( ليس هناك أمر واحد في القرآن الكريم موجه إلى غير الأمة بصيغة الجمع إلا ما كان موجها إليه هو عليه الصلاة والسلام في حياته سواء بسبب النبوة أو بسبب الإمامة أما دون ذلك فلم يختص سبحانه أي طائفة من الأمة بذلك إلا إختصاص العلم من مثل قوله ( ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم)).. أمر سبحانه الأمة بإقامة بعض مقتضيات الشريعة من مثل الحدود ( التسمية ذاتها ليست وفية للموضوع بسبب أن الحدود في القرآن الكريم لم تتطرق إلى ما نحن فيه اليوم وكان فيه التراث من قبلنا بل إن الحدود في القرآن الكريم أمور تتعلق بالأسرة والمرأة ).. لما أمر بذلك سبحانه علم بسبب الطبيعة والتجربة أن الأمر موكول إلى الأمة وليس إلى الأفراد فكان إرشاد الإسلام إلى الدولة والحكم والسياسة والإجتماع والوحدة من باب الإقتضاء بسبب أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. هما إذن سبيلان جليان واضحان في أن غشيان الأمة للسياسة بكل شؤونها الجماعية داخليا وخارجيا أمر يعتلج فيه الدين بتوجيهاته النصية آنفة الذكر وغيرها مما لم يورد هنا وبمقتضياته مما أنف كذلك .. بالسياسة من جهة كما تعتلج فيه السياسة بالدين من جهة أخرى بسبب مقتضيات الإجتماع البشري. إذ جرت عادة التشريع الإسلامي أنه لا يأمر بما تطلبه الغرائز من أكل وشرب وجماع وتنظيم أمر الدنيا وسياستها ومعالجتها ولكنه يرسم في ذلك توجيهات ومبادئ وكليات ومقاصد وخيارات ويرشد إلى أخلاق كريمة شهمة. وذلك هو معنى أن الإسلام مبناه الفطرة وليس دوره حيال الفطرة سوى دور المحيل إليها وليس دور الإنشاء لأن الفطرة أسبق من الدين واللغة أسبق من الدين والحرية كذلك أسبق من الدين وذلك من معالي الدين الذي شيد نفسه فوق تلال رفيعة من الحاجات البشرية الفطرية أي : الجبلة و اللسان والحرية.

2 ثاني مستوى من مستويات الوضوح النظري لقضية السياسة والحكم والدولة في الإسلام هو ما قتل بحثا فيما مضى من لدن الأصوليين والمقاصديين منهم بصفة خاصة أي : مناسبات النزول التي تطورت أو ساهمت في تطوره إلى جانب عوامل أخرى حتى أنتجت ما سمي قديما ونعم الإسم مقامات المشرع. الصلة حميمية بين الأمرين ولكن في سياق دلالي تكاملي مع اللغة والمقصد والمناسبة وغير ذلك. ما يهمنا هنا هو أن الناس إنتبهوا من قديم جدا بل من عصر الصحابة إذ تجلى ذلك في حادثة تأبير النخل بالمدينة إلى أن محمدا عليه الصلاة والسلام حتى وهو نبي رسول عبد خاتم لدين يميز بين الدين والدنيا أو بين العقيدة والسياسة تمييزا ولكنه لا يفرق بينهما تفريقا ذاته تعتريه حالات مختلفة : أحيانا يكون فيها نبيا مبلغا عن ربه وأحيانا أخرى يكون فيها بشرا يأكل ويشرب ويمشي في الأسواق وفي أحيان ثالثة يكون إماما لأمة إمامة سياسية أو حربية قتالية أو دفاعية مقاومة أو إمامة إقتصادية رغم أن التدخل الإسلامي في عهده وفي عهد الخلافة الراشدة .. في قضايا السوق كانت أقرب إلى التنظيم وليس إلى التشريع أو إلى إحاطة العملية المالية كسبا وتبادلا بأس الحرية المسؤولة أخلاقيا. وأحوال أخرى أو بالأحرى مقامات لم يفصل فيها لحد اليوم رجل أكثر مما فعل الإمام إبن عاشور والحقل بكر طال إنتظاره أو قل أضحى يتيما ضن عليه الناس بالعطاء عندما توجهوا إلى غيره مما تفخم وتهور بأكثر من اللزوم بينما ضمرت حقول أخرى فكان ضمورها سببا من أسباب تأخرنا وتقدمهم.

3 المستوى الثالث ليس مستوى مستقلا ولكنه شبيه بخلاصة مركزة أو حصيلة ثابتة قطعية في علاقة الإسلام بالدنيا والسياسة والدولة والحكم والمال وغير ذلك .. خلاصة حصيلتها كلمة ثمينة جدا للإمام الغزالي صاحب المشروع الإحيائي الكبير المتوفي عام 505 : „ الدين أس والسلطان حارس فما لا أس له فمهدوم وما لا حارس له فضائع”. أي أن علاقة الإسلام بالسياسة وبالدينا عامة ولكن لتغول السياسة وجور الدولة اليوم إختزلت الدنيا في السياسة .. هي علاقة وصل وفصل معا. علاقة تمايز وليست علاقة إفتراق. هي علاقة شبيهة بعلاقة الليل بالنهار والرجل بالمرأة وبعلاقة كل زوج مخلوق. أي علاقة تكامل وإنما يتكامل من كل زوجين ما إشترك في جذر ثم إختلف في جذع أو غصن أو ورق أو ثمر أو ظل. الإسلام والسياسة يشتركان في جذر ويختلفان في ما عدا ذلك الجذر.

4 بتعبير آخر يمكن بيسر أن تقول أن أشد ظلال الوسطية والعدل ( الحقيقة أن الوسطية في الإسلام أو في الأمة هي بين الأمم والشعوب والمجتمعات وليس في داخل الأمة ذاتها بينما يكون العدل داخل الأمة ولكن جرى طغيان الوسطية في الحقلين وغاب أو كاد مفهوم العدل وهو خلل إصطلاحي فإن شئت قلت : لا مشاحة في المصطلح وإن شئت قلت : ضبط المصطلح وفق التعبير الإسلامي الأصيل القرآن والسنة أمر مقصود من الشارع ذاته حتى لو كان قصدا ثانويا وليست الأشكال دوما ثانوية إذ كثيرا ما تلون مائعات العقول وأثقال الأذهان ومحامل القيم والمثل).. أشد ظلال الوسطية أو العدل تحريا في الإسلام تكون في أشد حقل إنقسم فيه الناس إلى حد إشهار الأسياف والقتل أي : الدين والسياسة. حقل ضل فيه كثيرون ذات اليمين وذلك عندما مزقوا العلاقة بينهما ففسقت الدنيا ( سياسة ومالا وعلاقات) عن الدين وبفسوقها عن الدين فسقت عن الأخلاق بينما ضل فيه كثيرون ذات الشمال وذلك عندما أوصدوا أبواب الفصل على مصراعيها وفتحوا أبواب الوصل الشديد المتين بينهما على مصراعيها فكانت التيوقراطية الدينية البغيضة التي عرفتها أروبا قبل ثورة العلماء ضد التحالف الكنسي الإقطاعي.

هل عرف تاريخنا شيئا من ذلك؟ الحقيقة أن المناخ لم يتسمم إلى حد الفصل الكامل بينهما ولم يتسمم كذلك إلى حد الوصل الكامل بينهما فكانت علاقة الفصل الموصول أو الوصل المفصول هي العلاقة السائدة حتى لو لم يكن ذلك هو الغالب دوما. ولكن المؤكد أن الإسلام من حيث هو تاريخ وأمة وتراث وتجربة وكسب وليس من حيث هو دين لم يتلوث لا بلوثات أوربا الكافرة بالدين المؤمنة بالدنيا ولا بلوثات مسيحية تقليدية قديمة أو بلوثات غنوصية فارسية أو باطنية صوفية شائنة أي إيمانا بالدين وكفرا بالدنيا.

خلاصة أولى ثابتة.

بسبب وضوح العلاقة بين الإسلام وبين السياسة ( الكلمة الأوفى هنا هي الدين بدل الإسلام بسبب أن الإسلام هو كمال الدين والدين هو جوهر الإسلام ولكن ربما يؤثر إستخدام كلمة الإسلام حتى للدلالة على الدين لنفي التأثير الكنسي والظلال العالمانية العربية المخيفة) نظريا وضوحا كافيا ليس فيه لمستزيد من مزيد ( وهي علاقة مخها : الإسلام مجموعة جزر متشابكة متعاقدة متكافلة الدين فيه جزيرة تحكمها معادلة ( الكفر والإيمان) والمعاملة فيه جزيرة تحكمها معادلة ( المصلحة والمفسدة ) وسياسة الدنيا في كل الحقول جزيرة تحكمها معادلة ( العدل والجور) والعبادة فيه جزيرة تحكمها معادلة ( السنة والبدعة ) والبحث العلمي والإجتهاد الذهني جزيرة فيه تحكمها معادلة ( الحق والباطل ) وأكثر ما يتعلق بالأحوال الشخصية من مآكل ومشارب ومناكح وغير ذلك جزيرة فيه تحكمها معادلة ( الحلال والحرام) إلخ .... وبذلك يتوافر الإسلام على أكثر من ميزان ومعيار بحيث يستخدم كل ميزان في حقله المناسب. ولا شك أن حقل السياسة والدنيا تابع لجزيرة المعاملة حينا بحيث تستخدم الآلية السياسية الأوفر على المنافع والمصالح والفوائد حتى لو كانت فيها مفاسد وحينا آخر إلى جزيرة التعاطي مع الناس سيما المختلفين منهم عنا بحيث يشهر الإسلام معادلة العدل والجور ويكون تعاطيه على قدر ذلك المعيار فما كان عدلا أو أقرب إلى العدل يكون إسلاميا مطلوبا حتى لو إحتوى على قدر أو أقدار من الظلم وما كانت أقدار الظلم فيه أكثر يستبعد حتى لو كانت فيه أقدار من العدل وهو ما يتيح له الإقتباس والإبتداع وإنفتاح الأذهان والعقول على التجارب البشرية كلها على أن يظل كل ذلك مشدودا إلى خيار الإسلام الخلقي إذ هو رسالة أخلاقية أو لا يكون بمثل ما يكون ذلك مشدودا إلى توجيهاته ومبادئه ومقاصده وعزائمه العظمى المنشورة فيه من مثل : العدل والحرية والكرامة والوحدة والتنوع والقوة والحق والخير والتعاون والتسامح والعفو والفضل والإحسان والمعروف والقسط والرحمة. ليس للإسلام إذن ميزان واحد يزن به العقائد ويزن به هو نفسه المعاملات. هي إزدواجية تخدم إختلاف الحقول من جهة وتمكن لقيم الحرية البشرية من جهة أخرى إذ في الدنيا مؤمن وكافر والله هو “ خلقكم فمنكم مؤمن ومنكم كافر “ وفيها العادل والجائر وفيها العالم والجاهل. كل ذلك يؤدي بالضرورة إلى أن الدين والسياسة في الإسلام زوجان حنوان رؤوفان لا يفترقان رغم تميز كل واحد منهما على الأخر في شيء وإشتراكهما في شيء آخر. إنما جاءت السياسة في الإسلام لتعطي الدين الخاتم نكهته الخاصة به بعد قصر الدين القديم على علاقة روحية بين العبد وربه وهي نكهة يراد منها بناء حضارة إسلامية جديدة رسم عنوانها بلسان عربي مبين أحد تلاميذ محمد عليه الصلاة والسلام ( ربعي إبن عامر عليه الرضوان ) في حضرة إمبراطور الفرس لما قال له : „ جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة”. هي علاقة ود رغم التمايز وإختلاف الحقول فإذا تداخلت الحقول فكانت السياسة في الدين معناها ترجرج الحق ليختلط بالباطل أو كان الدين في السياسة ليكون كل شيء موقوف من السماء فلا حرية ولا إجتهاد ولا تعدد .. عندها لا ترقب غير النكير عليك من كل صوب وحدب.)..

بسبب وضوح تلك العلاقة نظريا إذن فإنه يسير عليك أن تحيل كل معركة وهمية جدت بينهما إلى أحد العوامل التالية : إما الجهل أو الهوى أو غلبة الدنيا على الدين في الإنسان.هناك عامل آخر قد يطرأ طارئه وهو ما يجر بعض الناس من موقع رد الفعل بسبب ظلم سلط عليه إلى رد الصاع بصاعين أو بعشرة صيعان. كل علاقة متهارشة بين الدين والسياسة في الإسلام في التاريخ حتى اليوم لا تكون وفيه للإسلام في علاقته مع الدنيا والسياسة لا تخرج عن تلك الإحتمالات.

وبذلك يكون قول بعضهم اليوم : كل الإختلافات التاريخية والمعاصرة التي إشتبك ظاهرها بعلاقة الدين بالسياسة والدولة والمال والدنيا إنما هي إختلافات سياسية ولكن لما كان سلطان الدين من قديم في النفوس قويا حتى عند غير المتدينين أو ضعاف التدين بل حتى عند المنافقين ( أنظر أول قصة في التاريخ أوفي الأرض أي قصة قتل أحد إبني آدم لأخيه وما بعدها).. لما كان ذلك السلطان قويا مؤثرا فطرة مفطورة فإن المختلفين عندما ينهزمون في الحجة والبرهان أو في الغلبة الظاهرة في الميدان يلجؤون إلى الدين يلبسونه ثوبا قشيبا لأختلافاتهم وتأويلاتهم وبذلك يأمنون كما يزعمون وعندها يتلبس الدين بالسياسة خدمة للهوى أو للجهل أو لإيثار العاجلة على الآجلة... بذلك يكون قول أولئك صحيحا مائة بالمائة. صحيح حتى لو سحبته على أول خلاف سياسي بين المبشرين بالجنة بعضهم ضد بعض ( الجمل وصفين) إذ الخلاف سياسي قح ولكن ألبس من بعد ذلك لباسا دينيا سيما من الخوارج أول ناشئة تأويل غير سليم في الدين عندما يشتبك بمصالح الدنيا. الشيء الوحيد الذي يميز ذلك الخلاف الأول هو أن أهله أو على الأقل المبشرين منهم بالجنة أو مجموع الصحابة الكرام عليهم جمعيا رضوان الله سبحانه كانوا متأولين يطلبون الحق من الزاوية التي أدى إليه الإجتهاد. إذا لم يكونوا متأولين طالبين للحق سواء أصابوه أم أخطؤوه لما بشروا من قبل ذلك بالجنة وهي علامة سعة في الإسلام إذ قد يختلف صفوة الصفوة إبتلاء بالحرية والإجتهاد والتعدد ولكن لتظل الأسياف والألسنة والأقلام مغمودة لأنها أدوات الشيطان والنفس والهوى عندما تعمل ضد أهل الإسلام إلا فئة باغية ورد فيها الذكر في الحجرات حتى تفيء إلى أمر الله وليس إلى أمر الجماعة أو الزعيم أو متأول من المتأولة.

أسئلة الحلقة الموالية.

1 كيف تلبس الدين بالسياسة في الحركات الإسلامية المعاصرة؟
2 أين الخلط وأين المشكل وما هي المناخات التي سممت المشكل بأكثر من اللزوم.
3 هل من سبيل لمراجعة في هذا الموضوع في إتجاه تثبيت الوجود ومعانقة التجديد.

الهادي بريك المانيا


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.