يمكن القول أن النخبة التونسية تعيش اليوم حالة ترقّب حذر لما قد تتّخذه السلطة من خطوات في الفترة المقبلة. ويؤمل كثيرون بأن تكون في اتِّجاه يساعد على إخراج الوضع السياسي العام من الرّكود والتكلّس وينقله إلى مرحلة الانفراج والإصلاح. يبدو ذلك جليا في بعض المؤشرات (سبق أن ألمحنا إليها في مقال سابق وتفاعل معه سلبا أو إيجابا صحفيون وسياسيون)، ثم جاء خطاب الرئيس بن علي في اختتام أعمال اللجنة المركزية للحزب الحاكم ليُضيف تلميحات ذات دلالة، تمحورت بالخصوص حول إقراره بحاجة البلاد إلى "معارضة قوية". فهل هناك في الأفق ما يضفي شيئا من المصداقية على ما يجري الحديث عنه من توقعات لا تزال تفتقر لسند قوي أم أن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد "مؤشرات زائفة" يحوِّلها "المعتدلون من المحللين إلى خِطاب يسهم في إدامة علاقة غير صحيحة بين سلطة منفردة وشعب يُعامَل معاملة القاصر"، كما يعتقد الأمين العام السابق للحزب الديمقراطي التقدمي السيد نجيب الشابي؟ رغم تظاهر السلطة بأن أحداث مدينة "سليمان" كانت مجرّد قوس أغلِق، إلا أن هذه الأحداث قد ولدت فعلا رجّة قوية داخل أجهزة الحكم وخارجها، ويمكن أن نفترض بأن هناك ثلاث أطراف تفاعلت من داخل السلطة بأشكال متباينة مع أصداء الرّصاص، الذي اخترق أجواء تونس العاصمة لأول مرة. طرف يسعى بقوة نحو إبقاء دار لُقمان على حالها، بحجة أن ما تم ليس سوى حادثة معزولة تندرج ضِمن موجة الإرهاب العالمي، وهي بالتالي ليست لها أي أسبابٍ داخلية تستوجِب مُراجعة أسلوب إدارة الشأن العام، ويعتقد أصحاب هذا الرأي بأن الخيار الأمني يبقى السلاح الوحيد لمواجهة أعداء النظام ومعارضيه. أما الطرف الثاني، فيحاول أصحابه العودة إلى أجواء مطلع التسعينات من خلال التأكيد على حاجة النظام الملِحّة للفكر التقدمي وأصحابه لمقاومة التيارات الظلامية، أي العودة إلى الفرز الأيديولوجي والاصطفاف وراء السلطة لقطع الطريق أمام "التيارات الظلامية". وأخيرا، يعتقد طرف ثالث بأن ما عاشته البلاد، ليس أمرا بسيطا، وهو ما يستوجِب مراجعة السياسات والانفتاح على المعارضة والمجتمع المدني وإعطاء نفَس جديد لنظام الحكم، ويمكن المجازفة بالقول أن أفراد المجموعة الثالثة أكثر عددا، إلا أن تأثيرهم على صاحب القرار السياسي لا يزال، فيما يبدو، محدودا. بقطع النظر عن مدى دقّة هذا الفرز داخل أوساط السلطة والحزب الحاكم في تونس، غير أن الكثيرين يعتقدون بأن هناك من يدفع بقوة واستماتة في اتجاه الحيلولة دون إحداث أي انفراج سياسي حقيقيي في البلاد. فقد كتب المنصف بن مراد، رئيس تحرير صحيفة "أخبار الجمهورية" في عددها الأخير "بعض الأطراف تُحاول فرض الحلول الأمنية، لأنها لا تملك تجربة في الحوار والتسامح ولأنها تريد أن تظل في مناصِبها، حتى أصبحت تعتقد بأن الديمقراطية خطر وأن الحريات تهدد النظام". مع ذلك، تستمر المؤشرات الضعيفة قائمة حول احتمال حصول انفتاح سياسي، ولو كان محدودا خلال المرحلة القريبة. فما كتبه السيد بن مراد في صحيفته، لم يكن ممكنا في وضع سابق، كما أن بعض الملفات التلفزيونية في القناة الرسمية، والتي تعدّدت في الفترة الأخيرة، أخذت تُلفت الانتباه فيما يتعلّق بتزايُد حجم جُرعات النقد، التي أصبح يتغافل عنها الرقيب، رغم الاستمرار في إقصاء رموز المجتمع المدني والمعارضة من المشاركة. لاشك في أن هذه المؤشرات "لا تزال محدودة"، كما تعتقد المحامية النسوية بشرى بلحاج أحميدة، لكنها ترى بأنه لم يعُد أمام النظام إلا خيار الانفراج "للمحافظة على المكاسب التي تحققت"، وهي تطالب النظام باتخاذ إجراءات "قوية وملموسة"، مثل العفو التشريعي العام وحل مشكلة الرابطة، إذا أراد أن يستعيد ثقة النخبة، هذه النخبة التي "لم تعد مستعدّة لتقدِّم كل شيء للسلطة بدون مقابل، مثلما حصل في السابق"، حسب تعبيرها. ومع ذلك، تعتقد السيدة بشرى بن أحميدة بأن على المعارضة أن تُساعد على تحقيق انفراج سياسي، وهي ترى بأن "منهج القطيعة مع النظام لم يحقّق أي نتائج لصالح الديمقراطية ولم يغيِّر موازين القوى"، بل تذهب إلى أكثر من ذلك، فتؤكد على أن المعارضة لن تكون وحدها البديل، وإنما عليها "أن تتحالف مع شق متنوّر من داخل النظام". وبسؤالها عن مدى وجود مثل هذا "الشق" تضيف الناشطة النسوية "قد يكون هذا الشق ضعيفا، لكنه يوجد داخل السلطة من يؤمِن بضرورة تشريك التونسيين"، المهم من وِجهة نظرها أن تملك السلطة الحدّ الأدنى من الشجاعة وتطلب من المعارضة "فتح صفحة جديدة". السيد فتحي التوزري، عضو المكتب السياسي للحزب الديمقراطي التقدمي، لا يختلف كثيرا عمّا طرحته السيدة بلحاج أحميدة. فالمنطق يقود من وِجهة نظره إلى الاعتقاد بأن تونس مقدّمة على موجة جديدة من التحرّر السياسي، لكن الأمر "لا يزال في مرحلة الإرهاصات والبحث عن الصيغة الأفضل"، وهو يرى بأن تحرير الفضاء الإعلامي سيشكِّل المدخل الأساسي لتجاوُز حالة الإحباط، كما أنه يعتقد بدوره بأن المعارضة مدعوّة للمساهمة في تهيئة المناخ لتحقيق الانتقال الهادئ إلى حالة الانفراج السياسي، ويرى أنه بالإمكان التفكير في القيام بمبادرة سياسية "تُعطي انطباعا بأن المعارضة متفهِّمة لطبيعة المرحلة وأنها مستعدة للمساهمة بإيجابية في تسهيل عملية الانفتاح السياسي"، ويفسِّر الحالة السائدة بأنها نتيجة وجود "حاجز نفسي"، لا يزال يَحُول دون الدخول مباشرة في عملية تحرير الحياة السياسية. حاجة للجدل الثقافي والفكري على الصعيد الثقافي، أبرزت أحداث "سليمان" مدى حاجة البلاد لجدل ثقافي وفِكري وأيديولوجي افتقدته منذ سنوات طويلة، وهو ما يفسِّر تراجع دور المثقفين والجامعيين في الحياة العامة. ويبدو أن أوساط الحزب الحاكم شعرت بأهمية ذلك في معركتها السياسية ضد ظاهرة "التطرف الديني"، ولعلها المرة الأولى التي وجد فيها المخرج السينمائي اليساري (النوري بوزيد) نفسه في اجتماع حزبي نظمته "لجنة المرأة والشباب والتونسيين بالخارج"، التابعة لحزب التجمع الدستوري الديمقراطي (الحاكم)، حيث دار النقاش حول شريطه "آخر فيلم"، الذي عالج من وِجهة نظره مسألة "الإرهاب" في تونس، وهو إذ اعتبر أن "جُرأة الطرح التي تميّز بها موضوع الشريط، تُجسِّد الحرية التي تُتاح للمُبدع في تونس بن علي، حسبما ورد في صحيفة "الحرية" (الناطقة باسم التجمع الدستوري)، لكنه دافع عن دور السينما في خلق وَعي مُضاد للتطرف. ولعل المنشور الذي تلقّاه مديرو المعاهد الثانوية، الداعي إلى العودة إلى إنشاء نواد للسينما، يندرج في هذا السياق، كما لوحظ تعدّد المنابر الثقافية والفِكرية، التي تتناول مواضيع يكون الشباب مِحورها ويُفترض أن يكونوا هم جمهورها. فبعد سنوات وجهود بُذِلَت من أجل إبعاد الشباب عن الشأن السياسي، خاصة بالجامعات والثانويات، مما تسبب في إفقار الحركة الاجتماعية والسياسية، يعود البحث بقوة هذه الأيام وبدعم من السلطة نفسها عن كيفية ترغيب الشبان في الالتحاق بالأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، حتى لا تستقطبهم تيارات العنف والتشدد. أجواء ترقب وخطأ في المعالجة في هذه الأجواء التي تتسم بالترقّب، تتواصل إحالة المئات من الشبان على المحاكم بتُهم لها علاقة بقانون مكافحة الإرهاب، الذي صدر في 10 ديسمبر 2003، ومع كل مجموعة تتِم إحالتها، يزداد شعور المحامين بأن "هناك خطأ ما في معالجة هذا الملف"، حسب تعبير أحدهم. فعدد المتّهمين في ازدياد متسارع، وِفق لائحة إدانة موحّدة في اتهاماتها والوقائع المُستندة عليها، وذلك دون توفّر أدلة مُقنعة يمكِن أن تُبرر حجم الأحكام، التي تصِل أحيانا إلى الثلاثين عاما. وقد عرضت مؤخرا على محكمة الناحية بتونس العاصمة قضية "مجموعة قابس"، التي تضم عددا من الشبان، قيل بأنهم قاموا بتدريبات رياضية بأحد شواطئ المدينة، وهو ما اعتُبر بأنه يندرِج ضِمن "التهيئة النفسية لمُمارسة الجهاد"، كما وُجِد لدى أحدهم "عصا كهربائية"، اعتبرها قلم التحقيق أداة لمواجهة رجال الأمن، إلى جانب 31 دينار تمّ جمعها. وبناء عليه، وجِّهت إليهم تُهم عديدة لها صلة بالعمل على تغيير نظام الحكم، ويبدو، حسب اعتقاد البعض، بأن هناك خلط بين التديُّن السَّلفي، الذي يمارسه البعض دون وعي أو عِلم بمصادره ومرتكزاته الفقهية والأصولية، وبين ما أصبح معروفا باسم "السلفية الجهادية"، التي يتبنّاها البعض عن وعي، وانتقلوا فعلا إلى مرحلة الممارسة. هذا النقاش الفكري والفِقهي والقانوني، الذي لم يُطرح بعمق في تونس، جعل البعض يتساءل: ما الجدوى من تضخيم عدد المُحالين على قانون الإرهاب، الذين يكادون ينحدِرون من جميع جِهات الجمهورية وقد يناهز عددهم حوالي 1500 شخص، حسب بعض التقديرات غير المؤكدة؟ الدكتور مصطفى بن جعفر، الأمين العام للتكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات اعتبر من جهته أن تقويم "مؤشرات الانفتاح"، التي تمّت الإشارة إليها في عدد من التحاليل المتداولة على الساحة التونسية، مُرتبط بمدى "الوعي بخطورة الوضع وبضرورة تشريك كل القوى"، كما لاحظ بأن "السلطة سبق لها أن أعطت إشارات انفراج في ظرف دقيق، سرعان ما تخلّت عنها حالما تغيّرت الظرف، وهو ما خلَّف أزمة ثِقة لن يقع تجاوزها إلا إذا تركت السلطة سياسة المسكِّنات وقامت بمُبادرات علنية وواضحة"، حسب قوله. ولعل الحكم القضائي الذي صدر مؤخرا ضدّ الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، ليس سوى أحد المؤشرات المُضادة، التي تفسِّر حالة الترقب والتوجُّس وتدعم ما يردِّده البعض، بأن المأزق السياسي "مرشّح للاستمرار". مع ذلك، دفع تأكيد الرئيس بن علي في اختتامه لاجتماع اللجنة المركزية للحزب الحاكم على أن البلاد في حاجة إلى "معارضة قوية"، إلى عدم استبعاد البعض أن يحمل خطابه، الذي يُفترض أن يلقيه بمناسبة عيد الاستقلال (20 مارس)، ملامح إضافية عن الشروط الموضوعية، التي من شأنها أن تمكِّن هذه المعارضة من اكتِساب عوامل القوة، لكي يُصبح لوجودها معنى.