المنوبي بن حميدان اسم يتردد ذكره في أكثر من ملف وقضية. إنه نجم من نجوم القضاء التونسي، لمع بانتهاكه لأبسط حقوق التقاضي وولغ في إناء الاستبداد فشرب منه حتى الثمالة. يؤسفني كثيرا، وهو ابن عمي الذي لم تربطني به شخصيا سوى وشائج قرابة عادية ليس فيها أي فضل أو خصومة، أن أكاتبه على رؤوس الأشهاد قادحا وناصحا لأن الجرم أضحى مشهودا وقد بلغ السيل الزبى. لقد كان نجما خلال ثلاث دورات للاستبداد في بلادنا. فكان الاكتشاف الأول لمهاراته إبان المحاكمات التي تعرضت لها حركة الاتجاه الإسلامي صائفة 1987 أواخر العهد البورقيبي البائد، ثم خلال عقد التسعينات عندما دشن قلمه مسلسل التحقيق والأراجيف والمسرحيات التي أودع المئات بسببها أقبية الجحيم الأرضي وشرد على إثرها آلاف التونسيين، أطفالا ونساء وشيوخا، أصقاع الدنيا وتجرع الباقون منهم في البلاد من العذاب والهوان ألوانا. أما الدورة الأخيرة، والتي لا يبدو أنها الختامية، فتتجلى اليوم أمام أعيننا حيث يتربع الرجل على رأس الدائرة الجنائية 27 لمحكمة الاستئناف بتونس العاصمة، مصادقا بيده ولسانه على أحكام ثقيلة أملاها عليه أسياده الذين سنّوا قانون مكافحة الإرهاب (راجع بيان المجلس الوطني للحريات بتاريخ 3 أفريل 2007). لا زلت أذكر جيدا، وأنا طفل صغير، فرحتنا العائلية بالمنوبي عند تخرجه من كلية الحقوق بتونس وتبادل التهاني عند تعيينه قاضيا في إحدى المحاكم حيث أصبحنا نحظى بمكانة علمية راقية بين عائلات قرية الماي بجزيرة جربة ونحن الذين نتمتع فيها بأعلى نسبة من الخريجين والإطارات العاملين في الدولة أو في القطاع الخاص. كان الجميع يأمل أن يكون قدوة المنوبي هو ابن عمه توفيق بن حميدان، ذلك القاضي المتقاعد، الذي شهر بين الناس بنزاهته وتواضعه ونظافة يده حتى أنه يذكرك في مجلسه وملبسه ومركبه بقضاة الصدر الأول للإسلام حيث القضاء مسؤولية عظيمة ينأى عنها العلماء. كان الجميع يأمل أن يصبح المنوبي نموذجا لجيل جديد من القضاة بعد أن تجرعت العائلة ظلم الأحكام البورقيبية القاسية ضد عمومته من اليوسفيين الأشاوس (المرحومان حميدة وحبيب بن حميدان الذين حكم عليهما بالإعدام وتم تخفيف الحكم إلى المؤبد وقبعا في السجون التونسية لسنوات عديدة). غير أن المنوبي اختار بطولة من نوع آخر، هي مزيج من نفاق وجبن وجشع لنيل المناصب والعلا وكأن الأرزاق ليست بيد الخالق يصرفها بين خلقه كيفما شاء [وفي السماء رزقكم وما توعدون]. ربما تعلل المنوبي بواجباته كموظف، علمه قانون العمل أنها علاقة تبعية بين العامل ورب العمل كما لقنه القانون الإداري أن الطاعة هي مناط الهرمية الإدارية وجوهر العلاقة بين الموظف والإدارة. غير أنه يكون بذلك تلميذا غير نجيب لأن القانون الدولي أقر مبدأ المسؤولية الفردية للموظف أثناء تنفيذه أوامر الإدارة وذلك منذ محكمة نورمبورغ لملاحقة جرائم النازية عقب الحرب العالمية الثانية حيث لا (obéissance raisonnée)تبرر الطاعة العمياء التجاوزات الإنسانية وكان مفهوم الطاعة المعقلنة هو الضمانة القانونية الدولية الجديدة لعلوية حقوق الإنسان. لست هنا بصدد التدريس وإنما أريد فقط تذكيره ببعض المبادئ والقيم الأساسية لأن رغد الدنيا وزخرفها ربما ينسي الإنسان قيمه الأصيلة ومعارفه الجليلة [بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون]. لن أذكره هنا بعدالة السماء التي تمهل ولا تهمل لأن لكل منا مقاربته للإيمان فربما آمن هو يقينا بأن مكافحة الإرهاب هي طريقه إلى جنات النعيم وربما أكون عنده من الإرهابيين، ولكنني أذكره بعذابات الأمهات وزفرات الثكالى ودموع الأطفال الذين لم يقدروا عليه وعلى الطغاة، فوقه ومن حوله ، بغير الدعاء. لقد أردت مصافحته بخير من هذا بعد سنوات طويلة من الفراق ولكنه أبى إلا أن يزيد الجراح غورا والمصيبة أسى ولوعة.