لم يكن حكام دول المغرب العربي وحدهم من وضعوا أيديهم علي قلوبهم بعد تفجيرات المغرب والجزائر بل كذلك شعوب تلك الدول وقواها السياسية والثقافية بكل تلويناتها السياسية دون استثناء، فلا أحد سويا في موريتانيا أو تونس أو ليبيا، ناهيك عمن اكتوي فعلا بأعمال عنف أعمي في الجزائر والمغرب، يرغب أن تصل الأمور في بلاده إلي هذا الحد المدمر حتي وإن كان يكره نظام الحكم في بلاده كره العمي ويتمني زواله اليوم قبل الغد متهما إياه بكل تهم الفساد والاستبداد وتخريب العباد والبلاد. لقد استقر في وعي أغلبنا أن أعمالا انتحارية، أو استشهادية كما يفضل وصفها البعض، سواء بأحزمة ناسفة يلبسها الفاعل أو سيارات مفخخة إنما هي أعمال مشروعة طالما تعلق الأمر بمقاومة احتلال جاثم علي صدور الشعب، ومع ذلك فهناك من يجادل في شرعيتها الأخلاقية وجدواها النضالية حتي في العراق وقبلها في فلسطين مع حجم الضجة والغضب اللذين تثيرهما بالأخص إذا ما سقط من جرائها مدنيون عزل صادف أن قادهم حظهم العاثر إلي هذا السوق أو محطة الحافلات أو مجمع تجاري أو حتي مجرد مرور عابر في أحد الشوارع. فإذا كان الأمر كذلك في حالات احتلال غاشم بيّن فما بالك إذا ما كان في بلد آخر لا تجيز معارضة نظامه بأي حال من الأحوال أن يتم سلوك طريق مدمر كهذا أضراره واضحة جلية علي الجميع ولا أحد يقدر أو يتجرأ أن يذكر له حسنة واحدة، مع مراعاة ألا يقودنا ذلك في المقابل إلي مصادرة حق الناس والمحللين في التساؤل ومحاولة البحث عن أجوبة، فما كل تفسير بتبرير وما كل تبرير بتفسير. إننا اليوم في أمس الحاجة إلي البحث الجاد والعلمي إلي أن نقف علي الأسباب التي تدعو شبابا في عمر الزهور إلي اختيار هذا النهج المدمر، علينا أن نسارع بذلك اليوم قبل الغد بعيدا عن المنطقين المتصارعين مباشرة: منطق من قام بالفعلة وانبري ممجدا لها بألفاظ من قبيل نزف لكم و غزوة بدر والشهيد فلان وعلان وغير ذلك من صيغ التمجيد والافتخار (علي ماذا؟!) ومنطق الحكومة الذي أدمن استسهال وصف المجرمين والطائشين والفئة الضالة ولا يهمها في واقع الأمر من كل ما جري سوي أمن النظام واستمراره أكثر من أمن البلاد ومستقبلها. من جهة أخري، لا بد ونحن نتوق إلي هذا البحث الجاد أن نبتعد عن ذلك التشخيص الجاهز المسبق للمشكلة، الأحادي التصور في الغالب، والذي لا يركز إلا علي نقطة واحدة يظل يكررها باستمرار بما يشبه الهذيان. أسهل تلك التشخيصات طبعا هي تلك التي لا تري في الموضوع برمته إلا الجانب الأمني فيه فلا تتحدث بالتالي إلا عن ضرورة الضرب بيد من حديد لقطع دابر هؤلاء المنحرفين ، آخرون لا يفعلون سوي تكرار أن الفقر هو من يقود إلي أعمال كهذه متناسين أن هناك في السعودية أو غيرها من هو ميسور الحال ومع ذلك يفعلها، آخرون يركزون أن الكبت والاستبداد يقودان إلي هذا النوع من التصرفات العنيفة اليائسة ومع ذلك فبلد كالمغرب أو الجزائر توجد بهما حريات تعبير وصحافة وتنظيم لا يستهان بها، علي الأقل كمتنفس يمنع الانفجار، آخرون يركزون علي أن انسداد الآفاق أمام الشباب بالتوازي مع استفحال الفساد والحيف الاجتماعي وضياع القانون كلها عوامل مذكية للإحباط والتطرف، آخرون لا يرون الأمر إلا من زاوية أن الطبيعة الإسلامية لفكر هؤلاء الشباب هي أصل الداء لأنه يحمل التشدد والإرهاب في ثناياه. لنسرع إلي هذا البحث الجاد بروح منفتحة وقدرة علي الخوص في قاع المجتمع بعيدا عن تنظيرات الصالونات الفكرية ومكاتب المخبرين والمخابرات فقد يسعفنا هذا التشخيص الرصين والمتعدد في مقاربته والباحث عن التفاصيل والفروقات والاستثناءات لننقذ أرواحا بريئة قد تسقط قريبا لا قدر الله فيما كل طرف فرح بما لديه من تحليل يظنه الوحيد، ومعه يتوهم طبعا أنه يمتلك حق احتكار طوق النجاة.