إنها الجبهة الأخرى المفتوحة، في إطار حرب الأعصاب الجارية على قدم و ساق بين الولاياتالمتحدة الأميركية و إيران : الخنق المالي للجمهورية الإسلامية الإيرانية.هذه الحرب غير المعلنة ليست لديها الرؤية عينها للوسائل العسكرية الأخرى المستخدمة- مثل نشر حاملات الطائرات ، و صواريخ باتريوت في الخليج ، و اعتقال دبلوماسيين مزيفين في أربيل – من قبل أميركا في محاولتها تركيع النظام الإيراني سواء في الملف النووي، أو بسبب نشاطه في العراق. إنها حرب أكثر سرية يدور رحاها في الوسط غير المسموع في البنوك و الهيئات المالية الدولية ، و كذلك في مراكز الشركات الكبرى التي تتعامل مع إيران ، لا سيما في مجال النفط.و الهدف من هذه الحرب، هو منع سيل تدفق الاستثمارات ، و القروض نحو إيران. و تعتقد الولاياتالمتحدة الأميركية ، أن ممارسة هذه الضغوطات على النظام الإيراني ،و تطبيق استراتيجية الخنق المالي عليه، ستجبره على تليين موقفه إزاء الغرب. وقد تكثفت استراتيجية الخنق المالي هذه منذ خريف عام 2006، إذ بلورها ووضعها قيد التنفيذ الفعلي مسؤولو الخزانة الأميركية،الذين استوحوها من الإجراءات العقابية المطبقة سابقا ضد كوريا الشمالية.ورغم أن الاقتصاد الإيراني هو أكثر انفتاحا من الاقتصاد الكوري الشمالي ، فإن إيران القوة النفطية التي تعاني من نقص في الاستثمارات ، هي هشة حسب رأيهم. فقد تعاقبت عدة وفود أميركية على زيارة أوروبا ، الشريك التجاري الرئيسي مع إيران ،لثني البنوك و الشركات الكبيرة الأوروبية عن التعامل مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية. ومن الواضح اليوم ، أن الإدارة الأميركية ماضية في تطوير استراتيجية "خنق" ايران. وفي هذا السياق ،قال نيكولا بيرنس الشخص الثالث في وزارة الخارجية المكلف بالملف الايراني مؤخرا "نحن على قناعة انه عاجلا أو آجلا، ان عزل ايران سوف يؤدي الى نتائج، ولذلك سوف تأتي الى طاولة المفاوضات". وأوضح ان "استراتيجية وقف تقدم ايران متعددة الاشكال". واعتبر ان القرار 1737 كانت له آثار كبيرة في ايران، ومن ذلك انه أثار نقاشا ايرانيا داخليا. إن ذلك يمثل في جميع الأحوال تطورا في الموقف الأميركي، فبعد ان امتنعت حوالي ثلاثة اشهر عن نقاش المسألة في الأممالمتحدة، ها هي واشنطن تتحدث عن آثار القرار، وتفكر في المرحلة اللاحقة منه. ويلاحظ المراقبون أن إدارة بوش اكتشفت سلاح العقوبات الاقتصادية، التي لا تمر بالضرورة عبر الأممالمتحدة، لذلك بوسع الولاياتالمتحدة أن تتخذ عقوبات من طرف واحد، تستهدف قطاعات وشخصيات ايرانية، وقد اخذ هذا المنطق مداه بعد قرار الاتحاد الأوروبي مؤخرا تبني صيغة العقوبات ضد ايران. وبات الأميركيون يعتبرون هذه الطريقة بمنزلة الجراحة عن طريق "اللايزر". وعملا بقانون مكافحة الارهاب الأميركي، صارت الهيئات والمؤسسات الاقتصادية الايرانية ممنوعة، من استخدام الدولار في تعاملاتها التجارية مع البنوك الأميركية، بل إن واشنطن تبذل جهودا كبيرة، في إطار إقناع المصارف التجارية لقرابة أربعين بلدا، بالسير في نفس الطريق الذي سلكته. وحسب خبراء اقتصاديين أوروبيين فإن المؤسسات المالية الدولية، باتت تتحسب لردود الفعل الأميركية، إذا لم تتجاوب مع العقوبات ضد إيران. و النتائج تتحدث عن نفسها. فحسب الخبراء الأوروبيين، لا يوجد الآن بنك واحد مستعد لتمويل مشاريع كبيرة في إيران.إنه تطور مهم.لقد نجح الأميركيون في مهمتهم حسب المصادر الدبلوماسية في باريس. و في الواقع اندفعت الولاياتالمتحدة الأميركية في منطق تطبيق قوانينها و تشريعاتها المحلية خارج حدود الدولة الأميركية، من أجل تضييق الخناق على التعامل الاقتصادي و المالي مع إيران ن كما فعلت ذلك في عقد التسعينيات ، عندما أزعجت الأوروبيين.فقد ذهبت مباشرة للتدقيق في الشركات الأجنبية المسجلة في بورصة وول ستريت. فأثارت العقوبات، والغرامات النقدية، أو القرارات الأساسية المحتملة للإيجارات الأميركية التي يمكن أن تتعرض إليها تلك الشركات إذا ما استمرت في تعاملها التجاري مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية. في البداية كان المسؤولو ن الفرنسيون معارضين لحملة الردع الأميرية هذه،باعتبارها تدخلية من دون أخذ إذن من الأوروبيين،و سابقة لأوانها ، وخطيرة أحاديا. بيد أنهم في الأخير ، وضعوا أمام الأمر الواقع ، فضلا عن أن البعض في الكونغرس يتحدث عن التصويت على نصوص جديدة تحد من عقد الصفقات التجارية مع إيران.و ما يثبت فعالية هذه الإجراءات ، النقاش الذي بدأ في طهران ، بين "البراغماتيين " و "الراديكاليين " داخل أروقة السلطة ، حول جدوى استمرار المواجهة مع الغرب. وهناك عدة بنوك أوروبية، لا سيما البنك الألماني للتجارة،و البنوك السويسرية يو.بي .أس، و كريدي سويس، اقتنعت بسرعة بحجج الإدارة الأميركية.و بدأت هذه البنوك بدرجات متفاوية، تتخلى شيئا فشيئا عن إيران، بوصفها بلدا يتعذر التعامل معه، إضافة إلى أن رئيسه أحمدي نجاد ينكر وجود المحرقة ضد اليهود. من جانبها، تتعامل البنوك الفرنسية بحذر، من دون أن تطرح الموضوع أمام الرأي العام.فقد خفض بنك باريباس الفرنسي التزاماته في إيران ،من دون أن يعلنها على الملأ، إذ أنه يخشى أن تتعرض مصالحه في الولاياتالمتحدة الأميركية للخطر.و من الناحية التاريخية ، كان باريباس الفرنسي هو أول بنك أوروبي فتح له فرع في إسرائيل. فهو يريد المحافظة على سمعته بوجه خاص في الضفة الأخرى من الأطلسي، بعد أن تعرض لحملة انتقادات بسبب دوره في فضيحة "النفط مقابل الغذاء"، وبرنامج العقوبات المفروضة على عراق صدام حسين من عام 1996 و لغاية 2003. وحسب التقديرات ، فإن عمل البنوك الفرنسية في إيران انخفض إلى النصف خلال السنة الماضية.فمن دون التعرض إلى الهجوم المالي الأميركي رسميا ، أرسلت وزارة المالية ووزارة الخارجية تعميمات إلى البنوك و الشركات الفرنسية ، تحذرها من مخاطر الاندفاع باتجاه إيران ، و تطالب فيها المستثمرين بتحمل مسؤولياتهم، في ظل أجواء التوتر السائدة في منطقة الشرق الأوسط. وتحاول السلطات الإيرانية أن تحافظ على علاقة شراكة مع شركة طوطال للبترول . وبسبب الضغوطات الأميركية لم تجد الشركة الفرنسية الأموال البنكية لتمويل مشروع تكرير الغازفي الحقل الإيرانيجنوب فارس، وهو أحد حقول الغازالمهمة في منطقة الشرق الأوسط. وهذا المشكل تعترف به طوطال في الخفاء، و إن كان يسوق له على أنه تسريب من قبل دبلوماسيين.ويطرح هذا المشكل على شركة طوطال مسألة التمويل الذاتي و التكاليف في إيران ، اللذين ازدادا بشكل كبير، إلى درجة أنهما أجبرا الشركة على تجميد المشروع.و لم يقل رئيس شركة طوطال كريستوف دي مارجيري شيئا ، إن كانت شركته ستلتزم هذه السنة بالاستثمار في حقل جنوب فارس، كما أعلنت ذلك من قبل.و إذا تحدت طوطال القيود الأميركية المفروضة على إيران ، فإن الشركة ستتعرض للعقوبات الأميركية ، لا سيما القانون الذي أصدره الرئيس السابق كلينتون في عام 1996، و الذي ينص على معاقبة الشركات النفطية التي تتعامل مع كل من ليبيا و إيران. مثلت إيران من وجهة النظر الأميركية دولة "تدعم الإرهاب"، و تبيت طموحات لتطوير أسلحة نووية، و تمتلك بالفعل ترسانة من الأسلحة الكيميائية، إضافة إلى أنها تشكل خطرا دائما على إسرائيل.و الحال هذه ، ما انفكت الولاياتالمتحدة تلجأ إلى استعمال العقوبات الاقتصادية كأداة لتنفيذ أهداف سياستها الخارجية،و توجيه " التهديدات وراء الكواليس" ضد الشركات و البنوك و الهيئات المالية الدولية، على نحو فعال ضد إيران ، بوصفها "دولة منبوذة" في الفضيلة الأميركية. * كاتب في الشؤون الاقتصادية أرسل الى الوسط التونسية بواسطة الكاتب التونسي توفيق المديني.