زرت في مطلع هذا الشهر وطني الثاني الجزائر، و حين أقول وطني الثاني فليس ذلك من باب الأدب أو اتباع السنة المعروفة في حسن تقاليد اللغة العربية، بل لأسباب أعمق و أصدق. منها سبب عائلي فجدتي للأم رحمها الله مولودة في قرية سيدي عقبة بالجزائرو تحمل اسم العقبي، و أخوها أي خالي للأم هو الجراح الشهير المرحوم دكتور علي العقبي الذي تفضلت الحكومة الجزائرية فأطلقت اسمه على جناح الجراحة في مستشفى مصطفى بالجزائر، و كان قبل عودته للجزائر الطبيب الخاص للرئيس بورقيبة. والسبب الثاني فكري لأن شعور جيلي الوطني تشكل أثناء الحرب التحريرية التي خاضها شعب الجزائر البطل من 1954 الى النصر و الاستقلال عام 1961، و كانت والدتي طيب الله ثراها اشترت لي جهاز ترانزيستور أحمر عام 1959 أول ما وصل هذا الاختراع السحري العجيب الى تونس، فأدمنت كل ليلة على سماع اذاعة صوت الحزائر التي تبث من اذاعة تونس بفضل تضامن الشعب التونسي الطبيعي مع شقيقه الجزائري و شجاعة الرئيس بورقيبة على تحدي الاستعمار. و كنت أتابع بعقلي الطفولي بطولات جيش التحرير و أتلهف على سماع قصائد الشاعر المبدع رحمة الله عليه مفدي زكريا كاتب النشيد الرسمي للثورة : قسما بالصاعقات النازلات... و عقدنا العزم أن تحيا الجزائر..فاشهدوا فاشهدوا، الذي كان يدوي في أعماقنا مجدا و أملا و صبرا وكفاحا. و السبب الثالث هو الحدث الكبير و بعيد المغازي الذي عشناه نحن و الاخوة الجزائريون يوم الثامن من فبراير 1958 حين قصفت طائرات الاستعمار الفرنسي قرية ساقية سيدي يوسف التونسية على الحدود و قتلت الأطفال الأبرياء الذين كانوا في المدرسة و معلميهم لتسليط عقاب على تونس و شعبها من أجل مساندتها للثوار الجزائريين، و كنا أطفالا في المدارس نتلقى صور الشهداء البررة من أبناء الشعبين تأتينا عبر الصحف مع ادانة المجتمع الدولي لهذا الاجرام الوحشي، و كان ضباط الجيش التونسي يواصلون القيام برسالة ايصال السلاح والمؤونة لاخوانهم المجاهدين الجزائريين من مسارب الحدود في ملحمة نضالية شكلت التلاحم الخالد بين تونس و الجزائر. و السبب الرابع هو الحلم المشترك بين الشعبين لبناء المغرب العربي بعد استقلال الجزائر حيث بدأت مسيرته موفقة وجمعت بين الجزائروتونس في مجالات التعاون المختلفة، وهو ما سعدت بتسجيل تواصله و اتساعه و تعزيزه هذا الشهر حينما زرت الجزائر. فقد رأيت منتوجات كثير من المصانع و الشركات المشتركة مما يدل على اتباع سبيل التكامل الاقتصادي بدون ضجيج اعلامي، ومنها شركة تونسية تصنع البطاريات للسيارات اسمها (الأسد) لها فروع في تونس و الجزائر و تزود أسواق البلدين و تصدر للبلدان المغاربية و حتى لبعض بلدان أوروبا، بتقنيات عالية و ادارة حديثة و عزم مشترك على تحدي العراقيل. وهو نموذج لما يجب أن يتكاثر بين البلدين بفضل التكامل الطبيعي في الكوادر و المواد الأولية و اكتساح الأسواق للتصدير. ثم أسعدني أن أقرأ على الصحيفة اليومية الجزائرية ( ليبرتي) ليوم الأحد 1 أبريل تحقيقا عنوانه: لماذا يسافر الجزائريون للعلاج في تونس و لماذا يرتادون المنتجعات التونسية للتداوي بمياه البحر؟ و التحقيق بقلم مراسل الصحيفة الى تونس فريد بلقاسم، مع حديث أجراه الصحفي الشقيق مع مدير المؤسسة الاستشفائية التونسية( نهرواس) للعلاج الطبيعي السيد الحبيب بوسلامة يحمل عناونا لطيفا هو : نستقبل بالأحضان اخوتنا الجزائريين. و في التحقيق نقرأ اشادة المواطنين الجزائريين بهذا الاستقبال بالفعل وسعادتهم بحسن المعاملة و المستوى الراقي الذي يجدونه في هذه المؤسسات، مع العلم بأن الافا من الاخوة الجزائريين يزورون بلادنا أيضا للسياحة البحرية و الجبلية أو لتنمية التجارة واقامة المؤسسات المشتركة و كذلك يفعل التونسيون عند زيارة الجزائر، لأن لا حدود طبيعية بين البلدين و لا حدود نفسية فالمحبة الخالصة تجمع بين شعبين وحدتهما عوامل التاريخ منذ الدراسة المشتركة في جامع الزيتونة المعمور وصهرتهما أيام و ليالي الجهاد المشترك ضد الاستعمار، و تحدوهما ارادة موحدة لصنع المصير الفاضل، للسعي نحو البناء المغاربي اذا ما انزاحت العراقيل الراهنة التي تعطل الاتحاد الكامل بين الشعوب الخمسة: تونس و الجزائر و المغرب و ليبيا وموريتانيا. لقد لمست بصراحة أثناء اقامتي القصيرة في الجزائر هذا الاصرار من الجانبين التونسي و الجزائري على تجاوز الصعوبات و تحدي العراقيل لتحقيق التعاون الثنائي في كل مجالات الاقتصاد و التجارة و الثقافة و التعليم دون انتظار انشاء الاتحاد المغربي، بل ان ما تقوم به الحكومتان بحرص الرئيسين التونسيوالجزائري يوميا يقرب ساعة الاتحاد المغاربي و يقلص الصعوبات و يصنع المستقبل. ثم ان اللطف الذي لقيته شخصيا في المعاملة منذ حلولي بمطار هواري بومدين الدولي و في كل مراحل الزيارة و تحديدا في المجمع السياحي سيدي فرج على ساحل العاصمة جعلني بالفعل أعتز بهذه النخوة و ذلك الفرح التلقائي الذي يرتسم فوق الابتسامة الصادقة على وجوه الاخوة الجزائريين وهم يقدمون لك خدمة أو يدلونك على طريق أو يدعونك الى شرب قهوة. كل هذه العواطف النبيلة و المعاملة الشهمة زادت من شعوري بأني في بلاد الأمير عبد القادر سيد السيف و القلم الذي كان يصر في سنوات جهاده على أن يكون سيفه مصنوعا في تونس و جواده قادما من المغرب في رمز عجيب من رموز المغرب العربي الواحد. و كذلك ازددت يقينا بأن الارهاب الاستثنائي و الاجرامي الذي يهدد مغربنا العربي سيقبر حين يولد و ينتهي حين يطل، فالجزائر و تونس بتلك الروح من التلاحم و من وشائج القربى لن تفتح سوى أبواب الحياة و الأمل و التقدم و الحرية والتسامح و الاخاء.