هل يمكن للاتحاد الأوروبي أن يحقق أهدافه بأن يصبح القوة الاقتصادية الأكبر عالميًّا، والقوة السياسية والأمنية المتميزة المستقلة بنفسها الفاعلة على المسرح الدولي، وأن يتحوّل عبر الاندماج بين دوله الأعضاء إلى ما يشبه ولايات متحدة أوروبية في المستقبل المنظور؟. هذه التساؤلات مطروحة باستمرار أوروبيًّا، ويتكرّر طرحها مع محاولات الإجابة عليها في المناسبات، ومن ذلك يوم أوروبا، وهو في التاسع من مايو، وقد اختير للاحتفال سنويًّا بمشروع ما زال قيد التنفيذ، ويواجه من العقبات بقدر ما يحقّق من التقدم على الأقل، على طريق تحقيق الحلم الذي أطلقه يوم 9/5/1950 وزير الخارجية الفرنسي آنذاك، روبرت شومان، وهو يؤكد بعد الحرب العالمية الثانية المدمرة بسنوات معدودة، أن مستقبل أوروبا مرتبط بتوحيدها، وسبقه إلى ذلك وزير خارجية بريطانيا وينستون تشرشل في حقبة الحرب نفسها، عندما نادى بإقامة الولاياتالمتحدة الأوروبية. صحيح أن ما كان في أجواء ما بعد الحربين العالميتين حلمًا من الأحلام في نظر كثير من الأوروبيين، أصبح في مسيرة الاتحاد الأوروبي جزءًا من الواقع الدولي في هذه الأثناء، ولكن طريق أوروبا إلى الوحدة كان ولا يزال تكتنفه الأزمات، بدءًا بخطواته الأولى التي انطلقت بتشكيل ما سُمّي اتحاد صناعة الصلب والفولاذ من ست دول أصبحت لاحقًا نواة الرابطة الأوروبية، فآنذاك أخفق مشروع "الاتحاد الأوروبي الغربي" الذي تأسس كأول منظمة أمنية غربية قبل تأسيس حلف شمال الأطلسي، فجُمّدت بعد سنوات معدودة، ثم لم يتجدّد طرح قضية الأمن الأوروبي بمعزل عن أمريكا إلا بعد نهاية الحرب الباردة. والآن أيضًا يواجه المشروع الأوروبي أكبر أزمة في تاريخه بسبب العجز حتى الآن عن تمرير الدستور الأوروبي الجديد. يوم 9/5/2006 كان مناسبة لانطلاق العديد من المواقف والتصريحات أمام المجلس النيابي الأوروبي وعلى المستويات الوطنية للحديث عن أوروبا ودستورها ومستقبلها. ولكن سائر هذه التصريحات لم يتضمن طرح تصوّرات عملية للخروج من الأزمة، رغم أن ضغط عامل الزمن يتزايد بوضوح. وفي اليوم نفسه صادقت إستوانيا على الدستور بصيغته الحالية، فبلغ عدد الدول التي وافقت عليه نهائيًّا 15 من أصل 25 دولة عضوًا، ولكن لا يسري مفعوله دون الموافقة بالإجماع. وسبق رفض الدستور في استفتاء شعبي في كل من فرنسا وهولندا، ومع تصديق فنلندا عليه بعد إستوانيا تبقى سبع دول أجّلت عملية التصديق فلا يُنتظر أن يرتفع الرقم المذكور قبل طرح تصوّرات جديدة، وقد انتهت مهلة العام الواحد التي أعطاها الاتحاد الأوروبي لنفسه بعد الصدمة السياسية المزدوجة في فرنسا وهولندا. ورغم أن رئيس المجلس النيابي الحالي، يوزيب بوريل، طالب الدول الأعضاء بتحريك قضية الدستور الجديد فإن الأفق الأوروبي خالٍ من أي مؤشرات في هذا الاتجاه، وهو ما أكده الرئيس الحالي للاتحاد المستشار النمساوي فولفجانج شوسّل، كما أن إنجيلا ميركل، مستشارة ألمانيا التي تستلم رئاسة الاتحاد مع مطلع عام 2007، أعلنت من الآن أنها لا ترى الوقت قد حان بعد لطرح جديد. والواقع أن الجميع ينتظرون الانتخابات المقبلة عام 2007 في فرنسا وهولندا، على أمل إجراء استفتاءين آخرين يسفران عن نتائج أخرى. ولكن ماذا لو تكرر الرفض في البلدين أو أحدهما أو في أحد البلدان السبعة الباقية التي لم تصادق على الدستور بعد؟.. من المفارقات أن هذه الأزمة حول الدستور، المرتبطة باستحالة سريان مفعوله دون الإجماع عليه، أبرزت للعيان أهمية تجاوز عقبة الإجماع ليصبح الاتحاد الأوروبي قادرًا على التصرف بعد توسعته إلى 25 عضوًا، مع احتمال أن يصبح عدد الدول الأعضاء فيه 27 عام 2007 أو 2008 بانضمام رومانيا وبلغاريا؛ إذ لا يمكن تصور المحافظة على نظام الإجماع في التصويت في تمرير أكثر من 60% من القوانين الأوروبية المشتركة بعد هذه التوسعة، والدستور الجديد يتضمن تعزيز موقع المجلس النيابي، والمفوضية الأوروبية، فضلاً عن تعديل نظام التصويت في مجلس الوزراء ومجلس رؤساء الحكومات إلى الغالبية المزدوجة (55% من الدول الأعضاء و65% من السكان) في معظم القوانين الاقتصادية والمالية والاجتماعية، فلا يبقى لنظام الإجماع سوى شئون الدفاع والخارجية. وهنا يمكن التساؤل ما إذا كانت المسيرة الأوروبية ستحقّق أهدافها في دعم وضع الاتحاد الأوروبي عالميًّا، إذا بقي الإجماع عقبة في إيجاد سياسات خارجية وأمنية مشتركة، رغم إضافة منصب وزير خارجية أوروبي، وتمديد فترة الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي إلى عامين ونصف العام بدلاً من ستة شهور كما هو الوضع حاليًّا. أزمة الدستور تنطوي واقعيًّا على سلسلة من الأزمات أو سلسلة من العقبات في طريق الوحدة الأوروبية، منها ما هو معروف كالموازنة بين المصلحة القومية الوطنية من جهة والمصلحة الأوروبية المشتركة من جهة أخرى، أو كالمخاوف الشعبية -المنعكسة في المجالس النيابية الوطنية أيضًا- بشأن قيام سلطة مركزية أوروبية قوية على حساب السلطات الراهنة داخل حدود كل دولة على حدة، ومن تلك العقبات ما لا يدور الحديث عنه إلا نادرًا، من ذلك أن الدستور الجديد ينقل قسطًا لا بأس به من الصلاحيات الوطنية إلى الاتحاد، ولكن كثيرًا من هذه الصلاحيات التشريعية لا ينتقل من المجالس النيابية إلى المجلس النيابي الأوروبي، فهو وفق مواد الدستور الجديد لا يحقّ له المبادرة إلى سن القوانين، وإن حق له رفض كثير منها مع إبقاء تشريعها في نطاق المفوضية ومجلسي الوزراء ورؤساء الحكومات، كما أن السياسة الخارجية والأمنية تبقى خارج نطاق صلاحيات المجلس النيابي الأوروبي، ويسري هذا على السياسة الزراعية أيضًا، رغم أنها تستهلك القسط الأعظم من الميزانية الأوروبية المشتركة. على أن في مقدمة العقبات التي يندر الحديث عنها ما يتعلق بمستقبل الجانب الاقتصادي الأوروبي في عصر العولمة. فرغم أن الاندماج الاقتصادي بين دول الاتحاد الأوروبي قطع أشواطًا أكبر بكثير من الاندماج السياسي والأمني فإن عملية توحيد أوروبا التي انطلقت من معاهدة ماستريخت عام 1991، تزامنت مع تطوّرات جديدة واسعة النطاق في الساحة الاقتصادية الدولية، كان تسارع مسيرة ظاهرة العولمة أبرز معالمها، كما أن التوسعة الأوروبية السريعة نسبيًّا في السنوات الماضية ضاعفت حجم الهوّة الاقتصادية على أكثر من صعيد بين دول الاتحاد، سواء على صعيد متوسط الدخل الفردي المتفاوت بما يعادل عشرة أضعاف، أو على صعيد نسبة البطالة وتكاليف اليد العاملة بمعدلات كبيرة أيضًا. هنا تنقلب الميزة الرئيسية التي رافقت مسيرة الوحدة الاقتصادية الأوروبية منذ عام 1957 إلى مصدر مخاوف كبيرة على صعيد العامة من السكان، ففتح الحدود بصورة مطلقة أمام الاستثمارات والتجارة يعود بالفائدة الأكبر على الشركات الكبرى والمصارف المالية الضخمة التي باتت أقدر على اختيار مواطن إنتاجها، حيث تتحقّق لها أرباح أكبر بغضّ النظر عن نتائج ذلك في سوق اليد العاملة أو في قطاع التأمينات الاجتماعية، والحكومات تلجأ إلى إغراء الشركات بتسهيلات ضرائبية كبيرة لا يمكن التعويض عنها إلا عن طريق مزيد من الضغوط على الفئات السكانية الأقل دخلاً، وهو ما جعل ظاهرة ارتفاع النسب المتزايدة للفقر تنتشر جنبًا إلى جنب، مع ارتفاع النسب المحدودة من أصحاب المليارات. وواضح من نصوص الدستور الجديد أن الاتحاد الأوروبي يلزم الدول الأعضاء بحرية المنافسة التي تعني حرية الاستثمارات والتجارة، ولكنه يكتفي بمهمة التنسيق غير الملزم من جانب الاتحاد للتأمينات الاجتماعية التي تبقى من صلاحيات الحكومات الوطنية، وبالتالي عرضة لاضطرار تلك الحكومات إلى الحد منها تحت الضغوط المتزايدة للشركات فيما يعرف بالليبرالية الجديدة. أمام هذه المعطيات، بدءًا بما يوصف بالأنانيات الوطنية، مرورًا بالمخاوف من مركزية التشريعات القانونية، انتهاء بازدياد ضعف الحكومات وسياساتها الاجتماعية أمام اقتصاد العولمة والليبرالية الجديدة، لا يمكن التنبؤ بسهولة فيما إذا كان الاتحاد الأوروبي قادرًا على تحقيق أهدافه في المستقبل المنظور، أن يكون القوة الدولية الأولى في العالم اقتصاديّا، والهدف المعلن أن يتحقق ذلك عام 2010 -وأصبح في هذه الأثناء أقرب إلى الأوهام- أو أن يتمكن في مسيرة تميّزه على صعيد السياسة الخارجية والأمنية أن يلعب دورًا فاعلاً وحاسمًا على خريطة النظام العالمي مستقبلاً. يبدو أن القوة الدافعة التي يمكن -على وجه الاحتمال- أن تجعل الأوروبيين يتجاوزون الأنانيات الوطنية، وربما المخاوف الشعبية، هي من خارج الاتحاد ومتعددة المصادر، فمسيرة الهيمنة الأمريكية من جهة، وتزايد مظاهر رفضها ومواجهتها في الاتحاد الروسي والصين الشعبية من جهة أخرى، إلى جانب الغليان في المنطقة الإسلامية المجاورة لأوروبا وما يمكن أن ينبني عليه ما لم يتم العثور على حلول للأزمات العديدة فيها من جهة ثالثة، جميع ذلك يجعل الأوروبيين أمام متغيرات دولية حافلة بالضغوط، ولا يزال الاتحاد الأوروبي يواجه تلك المتغيرات بمسيرة متعرّجة، فمن جهة لا يستطيع الإفلات بين ليلة وضحاها من الالتزامات والعلاقات المتشابكة مع الدولة الأمريكية كما خلّفتها حقبة الحرب الباردة، وإن كانت الرغبة في عدم الانسياق وراء "مغامرات عسكرية" أمريكية ظاهرة للعيان، ولها انعكاساتها على أرض الواقع، ومن جهة ثانية لا يمكن تطوير العلاقات مع الدولتين الكبريين في الشرق إلا في إطار تجنب ظهور ذلك التطوير بمظهر تحالف يولّد مواجهة مبكّرة مع الأمريكيين، ومن جهة ثالثة لا يجد الأوروبيون في المنطقة الإسلامية من التطورات ما يمكن أن يتحوّل إلى مرتكزات لتعاون إقليمي يحدّ من الأزمات وما تنطوي عليه من مخاطر بدءًا بشبه الجزيرة الهندية، مرورًا بمنطقة الخليج وقضية فلسطين انتهاء بالشمال المغربي في إفريقيا. ولا تزال المخاوف سائدة من أن تتخذ التطورات في المنطقة الإسلامية منحى يحوّل ما يسمّى صراع الحضارات إلى نهج متبع مع ما يعنيه من مواجهة، أو يجعل من نهوض حضاري محتمل خطرًا على الحضارة الغربية عمومًا وليس على مسيرة الهيمنة الأمريكية تحديدًا. القوة الدافعة الخارجية المتعدّدة المصادر والأشكال يمكن أن تعجّل في مسيرة توحيد أوروبا، ولكن المسيرة بحدّ ذاتها لا يمكن أن تقوم إلا على تجاوز الأوروبيين فيما بينهم لمشكلاتهم الذاتية، وسيبقى إقرار الدستور الجديد، خلال السنوات المقبلة، بميزاته ومساوئه وفق الرؤية -أو الرؤى- الأوروبية له، بمثابة المفصل الحاسم بين مرحلتين كُبريين في تاريخ مسيرة الوحدة الأوروبية.