** لا شك أن الدور الألماني في التعامل مع الملف النووي الإيراني يلفت الأنظار؛ فألمانيا باتت تتحرك في المفاوضات والاتصالات وطرح المبادرات على قدم المساواة مع الدول الخمس الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الدولي، دون أن تكون لها هذه العضوية، بل تكاد تكون هي الدولة الأهم على هذا الصعيد باعتبار دورها التوفيقي بين بكينوموسكو من جهة، والعواصم الغربية الثلاث الرئيسية من جهة أخرى، فضلا عن تميز علاقاتها التاريخية وعلاقاتها الاقتصادية المتينة الحالية مع إيران. وقد قامت ألمانيا مؤخرا بإرسال زهاء نصف القوة العسكرية الأوربية التي قرر الاتحاد الأوربي إرسالها لدعم إجراءات الأمن في الكونجو في أثناء الانتخابات النيابية، وشبيه ذلك يسري على الدور الألماني في نطاق مهام أوربية أخرى؛ الأمر الذي يثير تساؤلات عدة، لعل أهمها يأتي من قبيل أين تقف ألمانيا على الساحة الدولية في الوقت الحاضر، وأين تطمح أن يكون موقعها في خارطة نظام دولي جديد لا يزال تحت التشكيل؟. الخبراء من داخل ألمانيا يتحدثون عن الثقة الدولية الكبيرة التي صنعتها استمرارية لم تنقطع في السياسة الخارجية الألمانية (الغربية فالموحدة) منذ نهاية الحرب العالمية الثانية ونشأة الدولتين الألمانيتين حتى الآن، رغم ما شهدته البلاد من تقلب في السلطة، وما شهدته الساحة الدولية من تغيرات وتطورات، أبرز محطاتها نهاية الحرب الباردة، وانطلاق عسكرة الهيمنة الأمريكية رسميا -بعد التخطيط لها نظريا- في أعقاب تفجيرات نيويوركوواشنطن. وتعني الاستمرارية في هذا الإطار ثبات عدد من الركائز الأساسية للسياسة الخارجية والدولية الألمانية، وهي: 1- العلاقة الاندماجية في الغرب بقيادته الأمريكية لعقود عديدة. 2- العلاقة الاندماجية القيادية في مسيرة الوحدة الأوربية اعتمادا على المحور الألماني-الفرنسي، والطاقة الاقتصادية الذاتية. 3- العلاقات المتميزة مع الاتحاد السوفييتي فالروسي ومع الصين الشعبية، سواء في حقبة المواجهة خلال السنوات الساخنة من الحرب الباردة، أو في حقبة الانفراج بمبادرة ألمانية، أو بعد انهيار المعسكر الشرقي وتطلع واشنطن إلى زعامة انفرادية عالمية. 4- العلاقات القائمة على التعاون الاقتصادي والإنمائي والابتعاد عن الميادين السياسية والعسكرية مع البلدان النامية، وهو ما تزال ألمانيا لا تركز عليه، رغم الانتشار العسكري لقواتها خلال السنوات العشر الماضية، وظهورها بذلك أكثر مما مضى جزءا عضويا من المعسكر الغربي. إن هذه الاستمرارية لم تكن خالية من التقلب في تحديد الأولويات والوسائل المتبعة، وإذا كان التأثير الأكبر في ثبات العناصر الرئيسية للاستمرارية في السياسة الخارجية لأكثر من خمسين عاما هو من نتائج مجرى التطورات الدولية ومتطلباتها بعد الانهيار الألماني في الحرب العالمية الثانية، فإن كثيرا من أسباب التقلب المشار إليه يعود إلى عوامل ذاتية لعبت دورها -بتخطيط مسبق في غالب الحالات- لتحقيق الصعود الألماني دوليا، ومن هذه العوامل: 1- حرمان ألمانيا -طوعا أو كرها- من التسلح النووي رغم اندماجها في الغرب، والقيود التي كانت مفروضة عليها في ميدان الصناعات العسكرية عموما، جرى توظيفه إيجابيا، فكان في مقدمة أسباب توفير الإنفاق المالي العسكري الكبير، بالمقارنة مع فرنسا وبريطانيا، لتحقق "معجزة" اقتصادية، ولتتمكن عطفا على ذلك من تثبيت زعامتها أوربيا استنادا إلى تفوّق قوتها الاقتصادية دوليا. 2- التركيز -تأسيسا على ما سبق- على عنصر المصالح الاقتصادية في ممارسة ألمانيا للعلاقات الدولية، ما كان ينعكس في تسويغ امتناعها عن المشاركة المباشرة في تحركات سياسية وعسكرية غربية عالميا طوال فترة صراع النفوذ بين الشرق والغرب، ذلك أن هذا الامتناع كان يحقق هدف تعزيز العلاقات الألمانية المباشرة مع دول العالم، بما فيها الدول النامية، فيساهم في تعزيز الصعود الدولي الألماني على السلّم الاقتصادي. 3- الوعي الحزبي السياسي الذي مكَّن من إبقاء المصلحة العليا الألمانية دوليا فوق الخصومات الحزبية التقليدية، فلم يحدث أن ألغت حكومة جديدة ما سبق أن تحركت به على الصعيد الدولي حكومة سابقة عليها، وإن اشتدت المعارضة لها من قبل. وقد برز ذلك مثلا عندما عاد الائتلاف اليميني للسلطة بعد أن حقق الائتلاف اليساري في عهد المستشارين الأسبقين فيلي براندت وهلموت شميدت مسيرة الانفراج الدولي ومهدا بها لنهاية الحرب الباردة، وبرز أيضا في نطاق سياسة الائتلاف الحالي، فعلى الرغم من المعارضة الشديدة من جانب المستشارة (الحالية) أنجيلا ميركل لسلفها جيرهارد شرودر في معظم أركان سياسته الخارجية (بدءا بمعارضته حرب العراق، مرورا بتقاربه مع باريس وموسكو فيما يشبه محورا ثلاثيا في مواجهة واشنطن، انتهاء بتبنيه بدء مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد الأوربي مع تركيا) فإن بلوغ ميركل السلطة لم يدفعها للانقلاب على سياسات جيرهارد شرودر. 4- انتهاز الفرص وما تفسحه من مجال للحركة الذاتية على الساحة الدولية بكفاءة، فيما يحقق المصلحة الألمانية أولا، وإن بقيت سياسة ألمانيا على الدوام جزءا من السياسات الأطلسية والأوربية، فعلاوة على انطلاق المستشار الديمقراطي الاشتراكي الأسبق فيلي براندت في حينه -كما سبقت الإشارة- في ممارسة سياسة المصالحة مع الدول الشرقية رغم معارضة واشنطن في البداية للانفراج الدولي الذي استهدفته، سارع المستشار الأسبق هلموت كول، وهو من اليمين المسيحي الديمقراطي، إلى الاستفادة القصوى من انهيار الشيوعية قبل السقوط النهائي للمعسكر الشرقي لتحقيق الوحدة الألمانية، بالتوافق مع جورباتشوف الروسي، والتنسيق مع ريجان الأمريكي، جنبا إلى جنب مع تخفيف قلق الدول الأوربية المجاورة بتعزيز مسيرة الوحدة الأوربية من خلال اتفاقية ماستريخت. وقد تكرر انتهاز الفرص على هذا المنوال لاحقا، ومن ذلك مشاركة ألمانيا عسكريا في سلسلة من التحركات الدولية والأطلسية، بادئة بساحة البلقان، بعد أن أصبح الوضع الإنساني المأساوي فيها سببا في تقلص المعارضة الشعبية الشديدة لمثل تلك المشاركة من جهة، كما أصبح إرسال القوات العسكرية الألمانية في مهام خارج نطاق الحلف الأطلسي مطلبا ملحا من جانب الدول الغربية من جهة أخرى، وكانت تلك الدول من قبل متخوفة من استعادة ألمانيا لقوتها العسكرية. تعزيز موقع ألمانيا لم يكن الوضع الراهن للمكانة الدولية لألمانيا ممكنا دون هذه الخلفية التاريخية، ولا شك أن النقلة الكبرى كانت في عهد حكومة شرودر- فيشر من الديمقراطيين الاشتراكيين والخضر، بعد أن كان الحزبان على امتداد فترة الحرب الباردة في موضع المعارضة الشديدة لكل خطوة في اتجاه التسلح، أو الانتشار العسكري، أو زيادة الاعتماد على حلف شمال الأطلسي. فخلال السنوات السبع لتلك الحكومة، كان نشر القوات العسكرية الألمانية في البلقان، وأفغانستان، والبحر العربي، وإفريقيا، وهو ما عزز موقع ألمانيا أوربيا وأطلسيا. وفى مقابل ذلك كانت المعارضة العلنية والشديدة لحرب العراق أحد الأعمدة الرئيسية التي ساهمت في تعزيز موقع ألمانيا عالميا بعد ازدياد معارضة عسكرة الهيمنة الأمريكية، دون أن تخسر ألمانيا مواقعها في نطاق التحالف الغربي، رغم التوتر الشديد في العلاقات الأمريكية-الألمانية، فغلبة المصالح المشتركة، والاعتماد على ألمانيا ومكانتها الاقتصادية الدولية من جهة، وعلاقاتها المتميزة مع موسكووبكين من جهة أخرى. بالإضافة إلى الدور الذي لم تنقطع ألمانيا عن القيام به فيما يسمى الحرب على الإرهاب، جميع ذلك كانت عوامل جعلت الاستغناء أمريكيا عن ألمانيا في غير مصلحة واشنطن نفسها، لا سيما بعد ما شهدته المغامرات العسكرية الأمريكية عالميا من نكسات أقرب إلى الهزيمة. تكهنات مستقبلية صحيح أن ألمانيا لا تستطيع المحافظة في إطار تحركاتها الدولية عسكريا وسياسيا واقتصاديا، على قدر كاف من التوازن لإقناع سائر الأطراف المعنيين -سيان كان الإقناع مع الاطمئنان داخليا أو تحت تأثير المصالح وحدها- لتحصل على تأييدهم في وقت واحد، وبالتالي لتتمكن من تحقيق هدفها قريبا بالحصول على عضوية دائمة في مجلس الأمن الدولي، ولكن الدور الذي تلعبه حاليا على الساحة العالمية، وأبرز أمثلته التعامل مع الملف النووي الإيراني يؤكد أنه دور لا يرتبط بتلك العضوية بالضرورة؛ بل يمكن التكهن بوجود مؤشرات عديدة لتعزيز دور ألمانيا دوليا، سواء حققت هدف الانضمام أم لا، لأكثر من سبب، ومن ذلك: 1- التطورات المنتظرة على الساحة الدولية في اتجاه نظام دولي متعدد الأقطاب على ضوء الحصيلة المنتظرة من أزمة واشنطن المتعددة الوجوه، في العراق وأفغانستان وفيما يسمى الحرب على الإرهاب، أو في الحملة "المزعومة" لتزعّم نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان عالميا. 2- ضعف موقع بريطانيا أوربيا ودوليا بسبب أزمة العراق، لا سيما بعد تبدل الحكومة الإيطالية ومن قبل الأسبانية، واقتران ذلك بتغير تعاملهما مع قضية العراق. 3- ضعف موقع فرنسا أوربيا بعد رفض الدستور الأوربي عبر الاستفتاء الشعبي، وتفاقم الأزمات الداخلية الشديدة على أكثر من صعيد. 4- ازدياد مؤشرات استعادة مسيرة الازدهار الاقتصادي في ألمانيا، جنبا إلى جنب مع ارتفاع مستوى علاقاتها الاقتصادية الدولية مع قوى اقتصادية صاعدة عالميا كالصين والهند. ولا تبدل هذه العوامل شيئا من جوهر العناصر الأساسية الثابتة لاستمرارية السياسة الخارجية والدولية، فالذي يتبدل واقعيا هو الظروف الدولية والأوربية، أي الأرضية التي تتحرك عليها السياسات الألمانية، وما دامت ألمانيا قادرة على التحرك بثوابت استمراريتها تلك دون التخلي عن العامل الحاسم في صعودها دوليا، أي إعطاء الأولوية لما يخدم المصلحة الذاتية على هذا الصعيد، فلا يبدو أن هذه المسيرة ستتعرض لنكسة مؤثرة في المستقبل المنظور على الأقل. المشكلة الحقيقية التي قد تعترض هذه المسيرة وتؤثر عليها في المدى المتوسط مشكلة داخلية؛ فالدولة الأوربية الأكبر سكانا تحتل المرتبة الثانية بين الدول الأوربية التي تعاني جميعا من مشكلات سكانية، لا تقتصر على تناقص العدد الإجمالي لذوي الأصول الأوربية من سكان البلاد فقط، بل تشمل التبدل الخطير في هرم الأعمار السكاني في اتجاه يخفض نسبة طاقات الإنجاز الشابة ويرفع نسبة المستهلكة من المتقاعدين باطراد. وما لم تجد ألمانيا حلولا عملية لهذه المشكلة، يمكن أن تجد نفسها في مواجهة أزمة مستقبلية على صعيد قوتها الاقتصادية التي كانت -ولا تزال- هي المحرك الأول والرئيسي لصعود مكانتها دوليا من مرحلة الدمار شبه المطلق بعد الحرب العالمية الثانية إلى مستوى من التقدم التقني والمادي تنافس به كلا من الولاياتالمتحدةالأمريكية واليابان في مختلف الميادين. --------------------- ** كاتب سوري مقيم في ألمانيا.