كاتب آخر، من ضحايا ثقافة الحقد والكراهية، دخل حلبة النقاش اليوم بخطاب "النفخة" والإستهتار والبغض. وعلى ما أذكر، فإنه منقطع عن الكتابة في المواقع التونسية منذ سنوات، ولم يتدخل في مناقشات هذه المواقع إلا اليوم، ومرة سابقة قبل عامين لنفس الغرض، أي للرد على كاتب هذه السطور، وللتنفيس عن بعض ما في نفسه من كره وحقد. يا إخوتي أبناء تونس من كل التيارات السياسية والفكرية: لاحظوا كيف يعمي الكره والحقد والحسد بصيرة هؤلاء الأفراد. ناس لا في العير ولا في النفير. لم يناضلوا بالمعنى الحقيقي للكلمة قديما أو حديثا. بل النضال عندهم نهش في أعراض المناضلين. فقط. لا شيء غير ذلك. يا قراء هذه المقالة: انظروا في كل ساحات النضال الحقيقة، هل ترون لهم أثرا؟ هل تحسون منهم من أحد أو تسمعون لهم ركزا؟ هل تجدون منهم أحدا في ساحة من ساحات العطاء الفكري؟ هل تجدون واحدا منهم في جمعية حقوقية نشطة؟ هل تجدون واحدا منهم واعظا أو فقيها أو داعية؟ هل تجدونهم يسعون في قضاء حاجات التونسيين أو غيرهم؟ هل هم كتاب مداومون في الصحف؟ يتهمون المناضلين الحقيقيين بالتقاعد، وهم ليسوا متقاعدين فقط، بل خارج الدائرة أصلا. لا في العير ولا في النفير. وظيفتهم الوحيدة: الإساءة لمخالفيهم في الرأي بقلة أدب غير مسبوقة في التراث التونسي. لو كانوا أحرارا من ثقافة الحقد والبغض والكراهية، لقالوا: إخوة لنا في الدين أو الوطن دعوا لمشروع سياسي معين، أو وقّعُوا على بيان مشترك، واجتهدوا اجتهادات لا نراها ولا نقبلها، وعندنا بديل خير منها. ولكان من ذلك تعددية محمودة تحتاج إليها بلادنا، ويستفيد منها قراء هذه المقالات من التونسيين وغيرهم. لكن الكره يضيّع العقل ويفسد طوية الإنسان. والحقد كذلك. والحسد كذلك. يظن هذا المسكون بالحقد والحسد والكراهية أن مخالفيه في الرأي مناضلون استقالوا وتقاعدوا طلبا للخلاص الفردي، ليضع نفسه في موقع المناضل الشريف الذي يعطي الدروس الأخلاقية للباحثين عن الخلاص الفردي. إنما أبحثُ عن خلاصك يا مسكين، وخلاص الذين جرهم منطقك إلى نكبة من بعد نكبة، من دون ضوء في نهاية النفق. إنما أبحث عن خلاصك وخلاص الذين جعلهم خطابك المشبع حقدا وكرها، بعيدين عن الوطن، بعيدين عن الحرية، وبعيدين عن تعاليم الدين الذي نذروا أنفسهم له. داعية الصلح والوفاق والحرية لم يطلب خلاصا فرديا في أية لحظة. كل ما قام به شفّاف ومعلوم للناس جميعا، كتب عنه في صحيفة المستقلة، وتحدث عنه في قناة الجزيرة والعديد من وسائل الإعلام، وشرح تفاصيله الكاملة في المنابر الإعلامية التونسية. ومازال يدافع عن نفس الموقف: تسوية شاملة لملف الحركة الإسلامية ووفاق وطني يخدم المشروع الديمقراطي في البلاد. الكراهية تقود للتزييف والتدليس. الحقد والحسد يعميان البصيرة. ولولا الخشية من أن يتحول الأمر لمفاخرة أو مزايدة لا أحبها، لشرحت لك أن ما يفعله داعية الصلح والوفاق يعدل أضعاف أضعاف ما تقوم به هيئات وأحزاب ودول. هل جربت يوما أن تقف وراء برنامج مثل "المغرب الكبير"؟ هل شاركت في إنتاج البرنامج التلفزيوني الذي أعطى الأستاذ علي العريض تسعين دقيقة لعرض آرائه على الناس بعد شهرين من خروجه من السجن، على الهواء مباشرة وبعيدا عن مقص الرقابة؟ هل شاركت في إنتاج برنامج واحد من البرامج التلفزيونية التي تكرم الكفاءات التونسية وتعرف بنشاطها وعطائها في كل أنحاء العالم؟ هل جربت يوما أن تتعاون مع أفضل علماء العصر لشرح رسالة القرآن الكريم الخالدة، رسالة التوحيد والعدل والتسامح والحرية ومكارم الأخلاق، لملايين الناس في كل أرجاء العالم؟ هل جربت التضحية من أجل تأسيس منابر إعلامية تروج للديمقراطية وحقوق الإنسان والحوار بين الثقافات والحضارات، يشارك فيها أشهر وجوه النخبة العربية والإسلامية والعالمية؟ هل جربت مواجهة ثقافة إفساد الذوق الفني الهابط في العالم العربي بإعلاء راية الإبداع الشعري الأصيل وتكريم المواهب الشعرية الأصيلة التي تجاهلتها الفضائيات المعادية للثقافة المبدعة والذوق الجميل؟ هل جربت نجدة محتاج في أي وقت من الأوقات؟ هل جربت يوما أن تقف وحدك، بشجاعة وثقة، في مواجهة فتاوى الكراهية والخرافة والتعصب، تسلط عليها أضواء النقد العلمي، وتكشف فسادها أمام ملايين الناس، صابرا على أذى الهيئات الضخمة الأخطبوطية التي تنفق مليارات الدولارات من أجل أن يبقى العقل العربي حبيس فتاوي الحقد والكراهية، ومن أجل بث الفرقة والفتنة والتطرف في المجتمعات العربية والإسلامية؟ (1) وبعد هذا كله، لك قلم، تفتري به على مخالفيك في الرأي، وتتهمهم بالتقاعد والبحث عن الخلاص الفردي؟ عجبا والله. ولكن: إذا لم تستح، فقل ما شئت. يا بني وطني. يا إخوتي. الحقد والحسد والكراهية أمراض تعمي القلب والبصيرة. الرجل الذي صمت دهرا ونطق منذ يومين، يستهزئ من مشروع تسوية يتم بمقتضاه إطلاق سراح كافة المعتقلين الإسلاميين، ورفع أحكام الرقابة الإدارية عن كل المعتقلين السابقين، وإدماج الجميع في الحياة الإجتماعية، وتطبيع وضع هذا التيار عبر منحه جمعية ثقافية، وإتاحة الفرصة له للتحالف مع الحزب الحاكم أو أحزاب قانوية أخرى، وإلغاء المنشور 108، وإزالة كل ما يمكن أن يعيق ممارسة الحريات الدينية للناس. الصامت دهرا، عاد فقط ليستهزئ من مثل هذه التسوية، ويشهّر بأصحابها، ويدعي بعد ذلك أن قلبه على المعتقلين الإسلاميين. وهذا الملتحق به اليوم أكثر بؤسا منه. يزايد على أناس يعملون بالليل والنهار من أجل إصلاح ما أفسده منطقه الفاسد العقيم، الذي نبت وترعرع ومازال حبيسا في مراتع البغضاء والكراهية والحسد. أيها الإسلاميون: لا تسمحوا لهؤلاء الذين لم يعد للنضال من معنى عندهم إلا التشهير بالمناضلين، لا تسمحوا لهم بأن يفعلوا بكم ما فعلوه من قبل. سلكوا بكم الطرق المسدودة. ضيعوا عليكم فرص الوفاق والتواصل مع إخوانكم في الوطن. وكلما قام في البلاد ناصح أمين يسعى لرأب الصدع وجمع الصف تصدوا له بالمزايدة والإساءة وقلة الأدب. القاعدون همُ، فاحذروهم ولا تنخدعوا لهم مرة أخرى. (1) اللهم اغفر لي بكرمك وعفوك ما وجدت نفسي مضطرا لذكره من آلاء فضلك ونعمك على عبدك الفقير المحتاج إليك في كل طرفة عين. لك الحمد ملء السماوات والأرض وما بينهما إلى يوم الدين. أنت أكرم الأكرمين، وكل ما بي من نعمة فمن فضلك وعطائك. أسألك برحمتك الستر والعفو والمزيد من فضلك يا من بيده خزائن السماوات والأرض ويرزق من يشاء بغير حساب. أشهد أن لا إلاه إلا أنت، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم عبدك ورسولك. أحمدك وأثني عليك، واستغفرك من كل ذنبي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. اللهم أصلح بيني وبين إخوتي منذر عمار ونور الدين الختروشي وعبد الحميد العداسي ومرسل الكسيبي وصابر التونسي وعبد الباقي خليفة، واغفر لي ولهم، وأرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه. واستخدمنا بفضلك يا كريم في الدعوة إلى سبيلك بالحكمة والموعظة الحسنة، وألف بين قلوبنا، ونقها من نزغات الشيطان، واكتب لنا أعواما سعيدة مديدة في بلادنا الحبيبة تونس، تجعلنا فيها بفضلك من الذاكرين الشاكرين، الهداة المهديين، الأحرار الآمنين. اللهم وفق رئيس بلادنا وولي أمرنا لما تحبه وترضاه، وألهمه أن يبادر لعفو شامل يمسح آثار المواجهات بين السلطة وسائر معارضيها، واشرح صدره لأمر وفاق شامل لا يستثني أحدا، وزده عزا بخدمة دينك وتعظيم شعائرك وبسط العدل والحرية لكل التونسيين. آمين. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.