يبدو أن حركة حماس قرّرت حسم الموقف الميداني في غزة، ويبدو أن فتح والرئاسة الفلسطينية في موقف العجز عن ردّ الفعل المناسب، اللّهم وصف ما يجري بأنه "انقلاب على الشرعية"، حسب قول المتحدث باسم الرئاسة الفلسطينية نبيل أبو ردينة.. .. الذي ردّ عليه متحدث من حماس متسائلا "أي انقلاب، وحماس أساسا هي الشرعية المنتخبة، وأن ما يجري هو رد على الفاسدين والعملاء، والذين يريدون بيع القضية"، فيما رد فتحاوى، بأن "الدّم بالدّم والبيت بالبيت" أو بعبارة أخرى، أن الثأر السياسي والقبلي صار هو سيد الموقف وأن العقل قد غاب إلى حين. هذا الحوار البائس، الذي يمزج بين التصريحات وطلقات الرّصاص وقذائف الصواريخ وأعمال القتل والتخريب للمنشآت التي تعود إلى الشعب الفلسطيني قبل أي شيء آخر، يعني أن الوضع الفلسطيني على أعتاب مرحلة خطيرة بكل المقاييس، بانت بعض ملامحها، فيما يتسرب عبر مصادر إسرائيلية بالأساس، من طلبات منسوبة لفتح وللرئاسة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية المختلفة قُدّمت لإسرائيل، لكي تسمح بدخول أسلحة أكثر ومجنزرات لقطاع غزة لتُساعد فتح على حسم الوضع ميدانيا، وهو الطلب، الذي إن صحّ، يعني أن فتح والرئاسة الفلسطينية تُدركان تماما حجم الخلل في توازن القوة بينها وبين حماس في قطاع غزة، والذي يعترف مسؤولون فتحاويون في حوارات غير مُعلنة بأنه أصبح "حماس لاند" وأن الوضع الميداني أفضل نسبيا لفتح في الضفة الغربية، رغم محاولات حماس التَّمركز المنهجي في الضفة وبناء قواعد وخلايا فيها. حين يصل الحوار المستتر إلى هذا الحدّ من تقسيم المناطق والنفوذ والاعتراف بالفشل هنا والنجاح النسبي هناك، نصبح أمام واقع فلسطيني جديد ستكون له تبِعاته على مصير القضية الفلسطينية ككل، وليس فقط على مصير تقاسم النفوذ السياسي أو الميداني بين الحركات والفصائل المختلفة. في تفسير هذا التغيّر في موازين القوى الداخلية، يمكن أن نُشير إلى عناوين كبرى يتداولها الفلسطينيون بين أنفسهم، أهمّها وأبرزها، ضياع هيبة المؤسسات الفلسطينية وغياب القائد الكاريزمي ذو السطوة المعنوية والسياسية على الجميع، والتدخلات الإسرائيلية المستمرة لإشعال الموقف الفلسطيني وفقدان الأمل في أي تسويات قريبة والتناقض الصارخ في برامج الحركات الفلسطينية إزاء الحاضر والمستقبل، وغياب الانضباط الداخلي في كثير من الحركات الفلسطينية والصراعات الجيلية، لاسيما داخل فتح، وغموض آلية اتخاذ القرار في حركة حماس وضعف التأثيرات العربية، التي كانت يوما قادرة على ضبط التصرفات الفلسطينية بقدر أو بآخر، وبروز لاعبين إقليميين جُدد وفاعلين ومؤثرين على التفاعلات الفلسطينية، ناهيك عن حصار دولي ظالم لا يهمّه مَن يجوع ومن يُقتل وبأي رصاص. هذه العوامل مجتمعة تصبّ في مرحلة التشظي والتشرذم والتقاتل الداخلي وغياب الهدف الجامع، ولعل ترحّم الفلسطينيين العاديين على أيام الرئيس عرفات، وبالرغم مما كان فيها من ضغوط وحصار وأوقات عصيبة، فإنها تبدو جنة مقارنة بما يعيشه الفلسطينيون الآن من جحيم انفلات أمني والضعف المؤسساتي وفقدان لهيبة القيادات السياسية لصالح قيادات ميدانية لا تفصح عن وجهها، ولكنها تستأسد على الضعفاء بأسلحتها وصواريخها، التي للأسف باتت تخطئ الهدف من عدو يحتل الأرض إلى أخ في الوطن والقضية. كل هذا جعل أي محاولات لفرض هدوء أو تشكيل حكومة وحدة وطنية، بمثابة نقش على الرمال أو تلوين في الهواء ونوع من الاستجداء السياسي لتوافق برنامجي مصطنع، لم يعد يحُول دون الحديث بلُغة والتصرّف بلُغة أخرى، وهو وضع ربما دفع حماس، حسب المؤشرات الظاهرة والمؤكّدة، إلى اتخاذ قرار بالحسم الميداني في غزة. هذا الحسم الذي قررته حماس، يبدو في أكثر من خطوة، كالاستيلاء على المقرات الأمنية المختلفة، التي كانت تمثل مواقع نفوذ لفتح وللرئاسة الفلسطينية والأجهزة الأمنية التابعة لها، وتخريب وحَرق بعض منازل كِبار المسؤولين والرموز الفتحاويين، وإغلاق مناطق معيّنة، كشمال قطاع غزة، في وجه تحركات مسؤولي فتح وقياداتها الأمنية، ناهيك عن تخريب الوسائل الإعلامية المختلفة المحسوبة على فتح، من صحف ومحطات تليفزيونية وإذاعية وغيرها. وفى ظل هذا القرار بالحسم الميداني، لا تبدي حماس أي استجابة لدعوات الرئيس محمود عباس بالتهدئة والعودة إلى الثكنات، كما لا تتفاعل بإيجابية مع دعوة رئيس الوفد المنى المصري، الذي بذل كل ما يستطيع للسيطرة على الموقف الأمني، ولكن النتائج جاءت أكثر من مخيِّبة للآمال، ومن ثمّ وصف ما يجري، بأنه من صُنع أيادي شيطانية لا تريد الخير للفلسطينيين. حين قررت حماس مثل هذا الحسم، علينا أن نلاحظ أنه محصور في قطاع غزة، الذي يُعد المعقل الرئيسي للحركة، وحين نقول حماس، فلا يعني ذلك أننا أمام قضية واضحة المعالم، فلا يدري المرء من هي حماس المقصودة، هل هي الحركة أم حكومة حماس أم قيادة الداخل أو قيادة الخارج أم هؤلاء القادة الميدانيون المُسيطرون على حركة الشارع بالسلاح والصواريخ أم كل هؤلاء جميعا؟ ومثل هذا الالتباس يعني أن قرار حماس بالحسم، هو نتيجة عدم انضباط الحركة، وليس نتيجة تماسُكها وانضباطها التام، فبعض مسؤوليها في الحكومة يشاركون في جهود التهدئة المختلفة، وفي الوقت ذاته، هناك من يتّخذ قرارا بالقتال والسيطرة على الشوارع. الافتراض الآخر ولكن من جانب آخر، ومع افتراض أن ثمّة انضباطا داخليا، وأن قرار الحسم هو قرار الحركة بكل أجهزتها ومؤسساتها المعلنة وغير المعلنة، فهذا يعني أن مستقبل غزة بات بيد حماس وأن على فتح أن تقبل الهزيمة الثانية في ميدان القتال، بعد هزيمتها الأولى في ميدان الانتخابات التشريعية قبل عام ونصف تقريبا. وإذا كانت فتح، بعد هزيمتها الانتخابية، قررت الرد ميدانيا وإفشال حماس حكوميا، وهو ما تحقّق جزئيا ولكنه لم يتحقق ميدانيا، فكيف سيكون ردّها على انقلاب حماس النّاجح حتى الآن؟ خاصة في ضوء تعثر كل محاولاتها لإعادة الهيكلة الذاتية لمواجهة التحديات الجديدة، التي برزت نتيجة صعود حماس بهذا الشكل. افتراضات كثيرة وتساؤلات أكثر تعكِس جميعها التعقد الذي وصل إليه الوضع الفلسطيني من ناحية، وتبدل المواقع من ناحية أخرى، وتشكل خريطة معادلات سياسية وميدانية جديدة وخطيرة من ناحية ثالثة. نتائج منتظرة وفي ظل المؤشرات الظاهرة، يمكن القول أن معركة غزة، وبافتراض أن الوضع الميداني قد يستقر نِسبيا لصالح حماس، لكنه لن يستقر سياسيا لها، فحكومة الوحدة الوطنية المُشكلة بناءً على تفاهُمات مكة بين فتح وحماس، ليست محصنة من السقوط، بل المرجّح أن تكون ضحية الحسم الميداني، والمرجّح أيضا أن يمتد السقوط إلى المجلس التشريعي، الذي يهدِّد أعضاء فتح بالانسحاب منه، وبذلك، تكون نتيجة الصراع على السلطة هي غياب مؤسسات السلطة ذاتها ويتحول الأمر إلى فراغ خطير بكل المعاني. الحسم الحمساوي لن يخلو من نتائج إسرائيلية، معروف معالمها مقدما، فمِن جانب، سيكون الوضع الجديد مُفيدا من زاوية أنه يؤكِّد مقولات إسرائيل والولايات المتحدة بأن لا شريك فلسطيني يمكن التفاوض معه، وسيُفيد أيضا في استمرار الحصار الدولي، باعتبار أن حماس مصنّفة كمنظمة إرهابية في العُرف الأمريكي والأوروبي، وسيُفيد ثالثا في تغييب أية ضغوط على تل أبيب من أجل العودة إلى مائدة المفاوضات، سواء تَبعا لما تراه اللجنة الرباعية الدولية أو كما تأمل الدول العربية وِفقا لبنود المبادرة العربية. مخاطر محتملة هذه الفوائد الإسرائيلية ليست مطلقة، ففي الجانب الآخر مَخاطر مؤكّدة، فتفوق حماس في غزة يعني أن جهود السيطرة على إطلاق الصواريخ على المستوطنات الإسرائيلية لن تنجح، بل ربما يتطور الأمر إلى مغامرة عسكرية إسرائيلية كبيرة، والمرجّح أن السياسة الإسرائيلية في تعقب عناصر حماس سوف تتّسع إلى مدى أكبر مما كان في السابق، وفي المقابل، ستزداد العمليات الميدانية ضدّ قوات الاحتلال، ومن ثم ترتفع السخونة ولا تبقى إلا لغة السلاح. المرجّح أيضا أن تمتد السخونة إلى الضفة الغربية، سواء من ناحية الضربات الاستباقية أو من ناحية الشد والجذب بين فتح وحماس. حين ينظر المرء إلى هذه التفاعلات المؤكدة أو المرجّحة بقوة، يرى في الأفق سُحبا سوداء لا ضوء فيها، فهل هذا ما ناضل الفلسطينيون من أجله، أشك في هذا!