نظمت منذ أيام قليلة جمعية ثقافية تونسية ندوة علمية تاريخية تحدث فيها رئيس نقابة الصحفيين الزميل الفاضل لطفي الحجي عن موضوع كتاب جديد صدر له بعنوان(الزعيم بورقيبة و الاسلام: الامامة و الزعامة)، كما صدر كتاب ثان للكاتبة امال موسى حول علاقة بورقيبة بالدين، وهما كتابان هامان جدا لأنهما يتجاوزان القضية التي درسها المؤلفان ليشملا دور الاسلام في حركات التحرير بالبلدان العربية عموما و المغاربية تحديدا، و ليلقيا أضواء كاشفة على واقع الأمة اليوم وهي تشق طريق التنمية و الاستقلال و الهوية في دوامات من الايديولوجيات و اختلاط المعاني و ضبابية العلاقات الدولية بعد أن ظهرت في العالم حركات عنيفة عدمية تروج لثقافة الموت و تصادر الحقيقة الدينية و توظفها كردة فعل ضد المظالم العالمية بغير هدى و بدون بصيرة. صحيح أن بورقيبة مثير للجدل الا أننا يمكن أن نفهم عدم انحيازه لقراءة نصية للاسلام لأن تاريخه يؤكد بأن الذين قاوموا معه الاستعمار هم من ذوي الثقافة الغربية و بورقيبة متأثر بالحركات الاصلاحية الفرنسية القاطعة مع الكنيسة و بحركة كمال أتاترك لكن وطنيته واسلامه كانا من هذا الصنف الخاص، ثم ان العبرة بنتائج عمله حيث نجد اليوم نخبا تونسية قادرة على التفكير و التغيير وهو عنصرايجابي حتى لو رفض البعض تراث بورقيبة، فسنة الحياة هي التغيير و الحياة تتقدم بالقطيعة كما تتقدم بالوفاء. و عندما فتح جيلي عيونه على الحياة السياسية لم تكن هناك لا أحزاب معارضة و لا منظمات لحقوق الانسان و حاولنا التغيير من داخل الحزب، بل شكلنا تيارا تأصيليا نما و ترعرع في مجلة الفكر و أول المصادمات مع التيارات التغريبية القوية كانت لنا حين نشرت صحيفة لوموند مقالة للقس المستشرق(جون لا فونتين) عام 1970 ينفي فيها مبدأ الأصالة العربية الاسلامية عن تونس فتصدينا له بعريضة كنت أنا أحد محرريها ووقع عليها بشجاعة محمد مزالي و كان مقالا من وزارة التربية و مجرد نائب في البرلمان ،كما وقع عليها بجرأة الشيخ محمد الحبيب بلخوجة( الأمين العام الحالي لمنظمة الفقه الاسلامي) و كان عميدا لكلية الشريعة وأصول الدين انذاك ، و رفض كثيرون اخرون خوفا او انحيازا ايديولوجيا لمن يعتقدون أن الحداثة هي الاندماج في فرنسا واستعمال لغتها و التشبه بعاداتها. ولوحقت شخصيا و حجز جواز سفري وحرمت من اتمام دراستي في الخارج الى سنة 1973 حين استرجعت جوازي. وظللت كما أنا دستوريا تأصيليا وفيا لما تربيت عليه من ربط الحزب الدستوري بحماية هوية الأمة، و لكن بالحوار و الاقناع والعمل طويل النفس. فكيف أجد تناقضا بين الحركة الوطنية والحركة القومية و الحركة التأصيلية حين أقرأ كل عمل بشري كاجتهاد يخطأ ويصيب و أتمسك بضوروة الحوار واحترام الرأي المختلف و حتى المخالف. هذه مبادئي و لا أتحول عنها، اليوم و غدا، فأنا لي احترام عميق لنخبة من الدستوريين الذين خدموا و ما زال منهم الكثير يعملون في مختلف هياكل الدولة كما لدي احترام عميق لمن اختار سبيل المعارضة مهما كان انتماؤها بشرط نبذ العنف و عدم ارهاب الفكر المختلف. ان الوطنية و الحداثة و صيانة الهوية ليست حكرا على هؤلاء أو أولئك بل هي حق الجميع في العمل من أجل الوطن، و هنا يجد المخلصون مكانهم مهما قدموا من تضحيات أي بين الذين يريدون التقدم بالبلاد لا يهمهم رفع الشعارات المضللة، فالديمقراطية الحق هي ادارة التنوع و التوفيق بين التعدد. و أحسب و الله أعلم بأن شيخي و أستاذي عبد الرحمن خليف، حين حل محلي في مجلس النواب نائبا عن الحزب الدستوري أيضا كان له نفس التصور و الاعتدال و الرغبة في الاصلاح من داخل المؤسسة لا من خارجها، رحمه الله. ثم ان لدي قناعة أكدها لي كل من عاشر بورقيبة عن قرب وخاصة سكرتيره وصديقه لمدة 40 سنة السيد محمود بلحسين وهي أن بورقيبة مسلم و مؤمن لكنه ينتمي الى جيله الذي تغذى من الفكر العلماني الغربي و رأى في بعض مظاهر التدين المغلوط تعطيلا للعقل، و أعتقد أن التاريخ سيكتب هذه المراحل بعد أن تهدأ العواصف العاطفية و الايديولوجية المتشنجة اليوم لأسباب أخرى. ثم ان لبورقيبة فضائل لا يمكن نكرانها موضوعيا مهما اختلف معه الناس فهو في حياته مثل للاستقامة ، وهو رجل مبادىء و رجل دولة، و رفض الخضوع للقوى المهيمنة مرات عديدة أولها حين قاوم المؤتمر الأفخارستي عام 1931و الذي نظمه غلاة الاستعمار مع الكنيسة الأفخارستية لاحياء الذكرى الخمسين لاحتلال الجزائر و ذلك في كاتدرائية قرطاج، و الحمد لله أن قام الرئيس زين العابدين بن علي بتأسيس جامع العابدين بقرطاج ليؤكد اسلام تونس و عروبة قرطاج. و قاوم الزعيم بورقيبة أيضا مؤامرة التجنيس و رفض ذوبان الشعب في الأمة الفرنسية و قاد معارك مسلحة في المنستير راح ضحيتها شهداء بررة مثل شعبان البحوري عام 1933. كما فتح الرئيس بورقيبة حدود تونس و مدنها للمقاومة الجزائرية البطلة و دفع الثمن بمجزرة ساقية سيدي يوسف في 8 فبراير 1958 ثم عندما أمم الأراضي الزراعية التونسية وأغلق في وجوهنا الجنرال ديجول رئيس فرنسا أبواب التعاون ففضل بورقيبة منذ مايو 1964 الكرامة و الاستقلال على الانحناء للاستعمار الجديد. ثم عندما نهر بشدة سفير أمريكا في أكتوبر 1985 في مكتبه و خاطبه واقفا و لم يدعه للجلوس، مهددا بقطع علاقاتنا مع واشنطن لو استعملت الولاياتالمتحدة حق الفيتو بعد قصف مقر منظمة التحريربحمام الشط، و هذا حكاه لي شخصيا السفير الأمريكي نفسه و أكده لي شخصيا وزيرنا للخارجية أنذاك الباجي قايد السبسي،و سكرتير الرئيس السيد بلحسين الذي كان حاضرا يومئذ. و مواقف أخرى للزعيم عديدة جعلت محبتي له مبررة مع أني و رفاقي بمجلة الفكر اختلفنا معه حول الدعوة للفرنكوفونية لكن بورقيبة مع ما يعرف عنه من محبة للغرب لم يمنعنا من الكتابة ضد الفرنكوفونية حتى في صحيفة الحزب الحاكم، و لم يمنعنا من تعريب التعليم ولم يضطهدنا، و أنا أضع هذه الأعمال الصالحة في فقه المقاصد أي أن بورقيبة اجتهد و أصاب عديد المرات في درأ المفاسد و جلب المصالح و بالطبع فليس معصوما من بعض الانحرافات أو الأخطاء شأن كل من يحكم. و الله أعلم و غفر الله له و لنا.