تسونامي اليمين الساركوزي الذي أخاف الناخبين الفرنسيين في الدورة الأولى من الانتخابات التشريعية الفرنسية، اصطدمت أمواجه العاتية بعوائق حقيقية، و لاسيما صمود اليسار الفرنسي ، و في القلب منه الحزب الاشتراكي. فقد حصل حزب ساركوزي "الاتحاد من أجل حركة شعبية" وحلفائه على323 مقعدا ، مقابل 358 مقعدا في المجلس النيابي القديم الذي انتخب في عام 2002. لاشك أن إخفاق اليمين بالحصول على أغلبية مطلقة و ساحقة، تستكمل انتصارساركوزي الرئاسي الواسع،سيكبح دينامكية الساركوزية.و بالمقابل خرج اليسارعامة ، والحزب الاشتراكي خاصة بأقل الخسائرمن الانتخابات ، بل يمكن القول أنه أحرز "هزيمة إيجابية"، إذ حصل الاشتراكيون و من تبناهم الحزب إلى المجلس النيابي على 206 مقعدا بدلا من 149 مقعدا في المجلس المنصرف. وخسر الشيوعيون ثلاثة مقاعد، محتفظين ب18 مقعدا، وسينضم إليهم الخضر الربعة لتشكيل كتلة نيابية مشترطة ب20 نائبا ، للحفاظ على حقوق واسعة في الكلام على منبر البرلمان ، و امتيازات مالية يحتاج إليها الحزب الشيوعي الذي يعاني من مصاعب مالية. و يتساءل المحللون في فرنسا ، لماذا استسلم اليسار لسلسة كاملة من الخسائر ،في حين أن الواقع الاقتصادي و الاجتماعي ، و تطلعات الفرنسيين ، كانا من المفروض أن يُِعاقِبا اليمين الحاكم ، وليبراليته، و يُعِيدانه ثانية إلى المعارضة؟ اليسار لن يستسلم ، لكنه مُطالب أن يفتح صفحة جديدة في تاريخه، و أن يغترف من أعماقه الطاقة الحيوية التي ستسمح له أن يكون وفياً كلياً لمثله، و قادرًا على رسم سيرة جديدة لفرنسا في القرن الحادي و العشرين.و يعلم الجميع ، أنه من أجل تحقيق ذلك، يصبح تجديد اليسار أمرا ضروريا، بل إعادة بنائه ، لاستعادة ثقة الشعب، و بالتالي العودة إلى السلطة. ولايمكن تجديد و إعادة بناء اليسار من دو ن تحقيق ثورة فكرية و ثقافية قائمة على التحليل النقدي و الديمقراطي – كتلك التي تحدث عنها غرامشي – ضد "هيمنة الإيديولوجيا المسيطرة". في كل مكان ، يدعي اليمين الفرنسي أن قيمه التقليدية ، هي حديثة ، ومتجددة، على غرار الليبراليين الأميركيين ، الذين قاموا بنقد قاس لدولة الرفاهة الكينزية ، و تأكيد مفاهيم إيديولجية الليبرالية الجديدة من دون عقد ، في نهاية عقد السبعينيات من القرن الماضي . وقد حان الوقت ، لكي يأخذ اليسار زمام المبادرة، و ينتقل إلى الهجوم ، كي يجسد المستقبل في مشروعه المجتمعي. العالم المثالي الذي تنادي به قيم اليساريحتاج إلى إعادة تعريف في ضوء التطورات التي عرفتها المجتمعات الغربية ، و الرهانات الكونية الجديدة، و التطلعات الجديدة التي ظهرت في عصر العولمة الليبرالية.فالرأسمالية الصناعية تحولت إلى رأسمالية مالية عابرة للقوميات . والكرة الأرضية التي تحولت إلى قرية في ظل ثورة تكنولوجيا الاتصالات ، باتت ترى أن صيروتها تفلت من بين يدي الشعوب. وفق هذه الرؤية ، يصبح من الضروري تحليل أسباب هزيمة اليسار في الانتخابات الرئاسية يوم 6 مايو الماضي ، بدلالة الاهتمام بالمشاكل الجوهرية، لا بصراعات الأشخاص على قيادة الحزب الاشتراكي ،ولاسيما في ضوء إعلان الطلاق العاطفي و السياسي بين سيغولين رويال المرشحة المهزومة في الانتخابات الرئاسية ورفيق دربها الأمين العام الحالي فرنسوا هولاند، الذي أصبح عقبة في طريقها إلى الإستئثار بزعامة الحزب الاشتراكي. وهي خطوةباتت ضرورية لاستكمال الاستعداد لترتيب بيتها الحزبي و خوض غمار المعارضة البرلمانية، في الأعوام الخمسة المقبلة ، وبلوغ المعركة الرئاسية للعام 2012، وقد رسخت زعامتها للحزب و اليسار، كي لا تتكرر تجربة الهزيمة أمام ساركوزي. لكن أولوية سيغولين رويال ، غير أولوية قيادات أخرى داخل الحزب الاشتراكي ، التي باتت تنادي بإعادة تعريف مفهوم الاشتراكية الديمقراطية كنقطة جوهرية في نقاشات "تجديد" اليسار.فمفهوم الاشتراكية الديمقراطية غامض و غير متوافق مع شروط النقاش الفرنسي، إذ ينقصه هنا عنصرا جوهريا ، ألا وهو العنصر النقابي القوي، كما هو سائد في الاشتراكية الديمقراطية الأوروبية. من الناحية التاريخية، الاشتراكية الديمقراطية تهدف إلى تحويل النظام الرأسمالي من الداخل أكثر منه تفجيره بوساطة الثورة العنيفة.و الحال هذه، من الواضح أن الحزب الاشتراكي الحالي يلبي بعض شروط معايير حزب اشتراكي – ديمقراطي : مرجعية القيم الإنسانية، احترام الديمقراطية،و اقتصاد السوق،على أن تكون "اجتماعية" كما يشير إلى ذلك هنري ويبير أحد أركان لوران فابيوس. منذ الخيار الاستراتيجي الذي اعتمده الرئيس الراحل فرانسوا ميتران بتوحيد اليسار الفرنسي في المؤتمر التاريخي للحزب الاشتراكي بمدينة إيبيناي عام 1971، ما انفك الحزب الاشتراكي يتعرض لضغوطات على فترات منتظمة، من داخله و من خارجه، من أجل التخلي عن هذا الخيار، انطلاقا من تقارب منطقين: الأول سياسي – رفض التحالف مع الشيوعيين- والثاني سوسيولوجي. كان المنطق الثاني المتاسس على فكرة تحديث الاقتصاد و المجتمع سيقود حتمًا إلى تخفيض أوزوال الطبقة العاملة، و على نشوء طبقة وسطى كبيرة، حريصة على تحسين مستوى معيشتها ، و إدماجها الاجتماعي، الأمر الذي سيجعل سلوكها السياسي أكثر اعتدالا، و بالتالي قريبا من الوسط.غير أن سنوات حكم الاشتراكي أطاحت بهذا الصرح الفكري –الثقافي المتمحور حول فكرةهيمنة إيديولوجية لا مفرمنها لطبقة وسطى"مركزية". في الواقع المجتمعي الفرنسي ، لايزال السكان العاملون يتكونون دائما ، وفي أكثر من نصفهم، من العمال، و الآن من الموظفين وفق شروط المكافأة على العمل، بل على الحياة، والذين أصبحوا قريبين من العمال.وتؤكد هذه الحالة الاجتماعية أن الجسم الانتخابي الشعبي لا يزال موجودا بقوة، بل إن الطبقات الوسطى بدلا من أن تنسلخ عنه، يبدو أنها تقترب منه أكثر فأكثر. فالخوف و القلق اللذين سيطرا على الفئات الشعبية، انتقلا تدريجيا أيضا إلى الطبقات الوسطى التي بدأت تتضخم بسبب تزايد أعداد السكان المطرودين من مراكز المدن الرئيسة، جراء الارتفاع الفاحش في أسعار العقارات .و أخيرا، فإن نمط العولمة الليبرالية، الذي أفرز الكادر المتعلق روحا و جسدا بشركته قد رسخ فكرة القطيعة بين النخبة المالية العالية المستوى وبقية عالم العمل. وقد أكدت الاستحقاقات الانتخابية الفرنسية المتتالية:21 أبريل 2002، و6 مايو 2007، أنه من دون مساندة شعبية، لا يمكن تحقيق الفوز في الانتخابات الكبيرة.وهذا مافهمه نيكولا ساركوزي، حين سحب البساط من أرجل اليمين المتطرف باستعادة ناخبيه للتصويت لمصلحته عبر تلطيف خطابه الليبرالي حول "القطيعة" لإعادة حقن العمل الحمائي و المنظم للدولة، إلى درجة أنه جسد في المحصلة النهائية، خطا أقل ليبرالية من فرانسوا بايرو زعيم تيار الوسط. الاشتراكيون الفرنسيون يجدون أنفسهم- بعد ثلاثين سنة ، و في شروط تاريخية مغايرة-يواجهون النقاش عينه الذي كان قائما في نهاية السبعينيات بين الرئيس الراحل فرانسوا ميتران و نجم الحزب الصاعد آنذاك ميشال روكار: هل يجب أولا" تجميع معسكره"من أجل خلق ديناميكية قوية و مسحب هواء انتخابي؟ أو يجب تجسيد الانفتاح بطريقة إرادوية على العائلات السياسية المقيّدة حتى ذلك الحين؟ أرسل الى الوسط التونسية بواسطة الكاتب التونسي توفيق المديني.