يؤدي الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي هذه الأيام زيارات رسمية لكل من الجزائر و تونس، و كان من المقرر أن يزور المملكة المغربية في نفس الاطار و السياق لكن المشاكل التي لم تجد حلولها مغاربيا أدت الى "تأجيل" المرحلة الرباطية الى زمن قادم. و في الحقيقة فان هذا التأجيل المغربي لم تنجح لا باريس و لا الرباط في تبريره بالطرق الدبلوماسية التقليدية التي تعالج بها الدول عادة مشاكلها العميقة بالتسويق الاعلامي الموجه للرأي العام. و أغلب الظن هو أن هذا التأجيل جاء في أوانه ليكشف عن حقائق لا يمكن أن نواصل اخفاءها وراء ستار الكلام الخشبي في باريس والعواصم المغاربية عن العلاقات المتينة و النوايا الحسنة و الثقة المتبادلة والوشائج التاريخية و روح التعاون و المصير المشترك الى اخر قائمة العبارات التشريفاتية العادية التي لم تعد تقنع الناس في عصر انتقال المعلومة و درجة الوعي السياسي العام. لا بد اذن من التفكير في الخلفيات الاستراتيجية لزيارة الرئيس الفرنسي والمراجع الايديولوجية التي أعلنها بصراحة لمشروعه الذي أطلق عليه اسم الاتحاد المتوسطي في خطابه بمدينة طولون في فبراير الماضي و بالتالي قراءة العلاقات الفرنسية-الأوروبية- المغاربية بعيون مفتوحة حتى لا نقع في أزمات لم نتوقعها و في فخاخ لم نحسب لها حسابا لنكتشف بعد فوات الأوان بأن شعوبنا في بلدان المغرب العربي لم تجن من هذا الاتحاد المتوسطي ما يحقق طموحاتها المشروعة و ما يؤهلها لشراكة حقيقية مع جارها الأوروبي. لنبدأ باستعراض أبرز المراجع التاريخية لما سماه ساركوزي حلم الحضارة في انجاز الاتحاد المتوسطي، حين قال أثناء حملته الانتخابية و في خطاب استلام الرئاسة بأن هذا الاتحاد بين بلدان حوض البحر الأبيض المتوسط سوف يعيد استنساخ حملة بونابرت على مصر و يردد فضائل نابليون الثالث في الجزائر ويسترجع أمجاد الماريشال ليوتيه في المغرب! وهذه المراجع التاريخية هي مراجع استعمارية و محاولات فاشلة لتنصير الشعوب العربية المغاربية المسلمة و الحاقها بالامبراطورية الفرنسية كما ألحقت شعوب جزر ماوراء البحار في المحيط الهادى، وهي حملات غزو عسكري صليبي متوحش رفعت شعارات التمدين بمباركة الكنيسة و مشاركة المبشرين و المستشرقين و المستوطنين، قابلتها شعوب المغرب العربي المسلم بالمقاومة و التصدي منذ الأمير عبد القادرعام 1830 الى حرب بنزرت عام 1961. و اليوم حين نفتح أرشيف الدولة الفرنسية و نقرأ كتب الغزاة الأوائل نكتشف الحقائق المناقضة للسيناريوهات الرسمية الباريسية المبررة للاستعمار، و ندرك بأن احتلال الجزائر تم بعد عجز باريس عن تسديد ديونها للدولة الجزائرية و مطالبة والي الجزائر حسين داي باسترداد مئات ملايين الفرنكات التي أقرضها هو للحكومة الفرنسية ( نعم كانت دول المغرب العربي هي المانحة و الدول الأوروبية هي المقترضة أيام السلطان العثماني...! ). و جاء احتلال تونس للقضاء على قوة بحرية و تجارية أصبحت تهدد مصالح المستعمرين الجشعين، و كتب أحد الضباط الذين شاركوا في احتلال تونس عام 1881 كتابا نشر في باريس عام 1896 و أملك أنا نسخة نادرة جدا منه بعنوان: مشاهد من الحياة العسكرية بتونس، واسم الضابط هو جورج شوفييه،و قد كتب هذا الشاهد و رسم كذلك ما راه من معالم الحضارة و الرقي في تونس مالم يكن موجودا في بعض الأحيان في فرنسا ذاتها مثل الانارة البلدية للشوارع أو تنظيم الوقف للتعليم أو معمار المدن أو التعاون بين المزارعينأو أمناء الأسواق، كما نقل بأمانة جرائم القتل و التعذيب ضد المقاومين من الثوار الذين هبوا لمحاربة الدخلاء. و نجد في الجزائر و المغرب شهادات مشابهة تنطق بحقيقة الاستعمار الفرنسي البشعة. و هذا يجعلنا نتساءل عن المراجع الفكرية التي ذكرها الرئيس ساركوزي، فهي مراجع لا تخدم المصير المشترك الذي نسعى اليه بين بلدان الجنوب و بلدان الشمال حول البحر المتوسط. و اذا افترضنا بأن هذه المراجع مجرد سوء تقدير من مستشارين للرئيس الفرنسي لا تتوفر لديهم الثقافة التاريخية الضرورية و نتجاوز عنها، فنحن نصطدم بالاختلاف في التقييم و الممارسة ما بين باريس و برلين. فألمانيا لديها منذ انهيار جدار برلين استراتيجية أكثر ذكاء و بعد نظر في استيعاب بلدان أوروبا الشرقية الفقيرة و التي كانت ترزح تحت نير الشيوعية، فقامت ألمانيا بشجاعة بفتح افاق التعاون و الشراكة مع تلك الشعوب عملا بمبادىء اتفاق هلسنكي و أدمجتها تدريجيا في الاتحاد الأوروبي و انتقلت تلك البلدان من حالة العوز الى حالة الكفاف ثم المناعة. أما باريس فأدارت ظهرها للمغرب العربي مكتفية باعتبار شعوبنا مجرد درع واق لأوروبا من الارهاب و الهجرة السرية دون تصور أي شكل من أشكال التعاون الاقتصادي و الشراكة الحضارية بيننا و بينهم! فالذي نجحت فيه ألمانيا مع المجر و بلغاريا و تشيكيا و رومانيا وبولونيا أخفقت فيه باريس مع تونس و الجزائر و المغرب و موريتانيا. و ثالثا لا بد هنا من طرح الرؤية الفرنسية الجديدة مع ساركوزي الى ملف تركيا وملف اسرائيل. فالرئيس الفرنسي الجديد أصبح ينفرد دون كل قادة الاتحاد الأوروبي بنظرية ايصاد باب الاتحاد الأوروبي في وجه تركيا و استعمال الاتحاد المتوسطي لدمج تركيا فيه كتعويض عن الضرر! كما أن الرئيس الفرنسي ربما يلتحق بالرأي المحافظ الجديد في واشنطن بشأن الأولوية للتفوق العسكري و التكنولوجي لاسرائيل على حساب الحل العادل و الشامل للقضية الفلسطينية! مما سيورط باريس في معضلة الجور العالمي ضد حقوق شعب عربي وعده المجتمع الدولي بدولة في اتفاق أوسلو و لم يجن سوى الخيبات و الغدر و الابادة. فنحن في المغرب العربي لا بد أن ننظر للمصير العربي المشترك نظرة اعتبار حين نقرر مواقفنا من الاتحاد المتوسطي. و أنا أعتقد بأن القادة المغاربيين واعون تماما بهذه الخلفيات حين يستقبلون الرئيس الفرنسي هذه الأيام، وهو يعبرون عن ضمائر و مصالح شعوبهم في لحظة تاريخية يقررون فيها نوعية العلاقة و الشراكة بين جنوب و شمال البحر الأبيض المتوسط الذي يحمل منذ فجر التاريخ اسم بحيرة السلام.