عندما كنا صغارا كنا نلتقط من على قارعة الطريق قطعة الخبز الملقاة على الأرض، فننفض عنها التراب ونقبلها ثم نبحث لها عن مكان مرتفع، لنضعها فوقه بعيدا عن دوس الأقدام. لم نكن ندرك هذا المعنى الذي استقر في مخيال المجتمع، ولما كبرنا وكبرت عقولنا عرفنا أن هذه الحركة باتجاه رغيف الخبز ما هي إلا تعبير عن احترام للذي انطوت عليه قطعة الخبز من قيم ، هي مراحل الجهد المبذول في صناعة ذاك الرغيف من الخبز، الذي بدأ حبة تحت التراب رعاها الفلاح بماله وعرقه وسهره وتعبه إلى أن أينعت ثم حصدت ثم تحولت إلى المطاحن لتطحن ثم إلى مرحلة الخبز بالماء والملح. فكانت مسؤولية مجتمعنا التاريخية هي الحفاظ على رمزية التعبير بالاحترام في الحفاظ على مستقبل قوتنا الذي تصنعه قوة العمل .. سجناء الحرية في تونس انتم الأمناء على مستقبل الحرية..ونحن المسؤولون تاريخيا في الحفاظ على قيمة ما بنيتموه من قول وعمل.. انتم رغيف الوطن، انتم حياة الحرية لذاك الوطن. تعالوا نقبلكم بين عيونكم كما كنا نقبل رغيف الخبز ونرفعكم فوق رؤوسنا أعلاما خفاقة يحترمها كل الوطن. لقد آمنتم بالمعرفة الحقوقية حين بنيتموها في عقولكم أولا ثم آمنتم بالعمل. انتم ذاك الرغيف الذي يحترمه المخلصون داخل الوطن وخارج الوطن .. لقد عشنا نتصيد أخباركم في كل تقرير وتظاهرة وتحرك ومقالة في أعمدة الصحف كنا ننتزع من كل ذلك شحنات الحركة والعمل كنا نتعلم من أقوالكم وأفعالكم الأمل والشجاعة ونؤمن بالنصر نعم كما آمنا بقيمة الرغيف الذي ألقاه الجهلة على قارعة الطريق بلا احترام لما فيها من قيمة العمل. ونحن نحبر هذا المقال كنا نبحث عن مفهوم المسؤولية التاريخية الكبيرة التي كان يحملها السجناء المسرحون مؤخرا في تونس. وكأننا بهم قد وضعوا على عاتقهم رسالة يحتوي مضمونها مشروع استعادة أسس الثقافة الحقوقية، التي تقوم على المفهوم الشمولي ذات الإطار الحركي النضالي، الذي لا يقتصر على توظيف الخطاب النظري في العهود والمواثيق والصكوك الدولية، التي يحلو للسلطة أن تروج لها من اجل الظهور بمظهر المواكب لاستحقاقات المجتمع المدني في الالتزام بالمصادقة على هذه القوانين والترويج الإعلامي غير المسبوق في المحافل الدولية وسرعة الاستجابة لهذه الاستحقاقات. وهي محاولة يائسة في التنصل من الالتزامات العملية بهذه الحقوق، التي كشفها الجهد النضالي للسجناء. حين دفعوا حريتهم وحرمتهم ثمنا لذلك ليعيدوا تجديد المفهوم الأخلاقي الأساسي في الدفاع عن الحقوق والحريات. والتي تدفع إلى التعبير العملي عنها لتمنحها عنصر المصداقية مضيفة إليها المحتوى الملموس لسلاح الكلمة. لقد كانت سنوات الاعتقال والسجن هي المحتوى الملموس الذي قصدناه لسلاح الكلمة حيث علمنا سجناؤنا كيف ندافع عن أنفسنا في بلدنا وكان بإمكانهم أن يراهنوا على وضع تصور لثقافة حقوقية نظرية تدخل ضمن الترف المعرفي كما هو معمول به في بلدنا المروج في الخطاب الرسمي. حيث يقدم معزولا عن الشمولية الحركية النضالية التي قصدناها آنفا ومتجاهلين للشروط الموضوعية المنتجة للفرد المنخرط في سياق الفعل الذي يشرح ويفسر ويبرر به وجوده ليدفع نفسه ومجتمعه إلى الفعل التاريخي كما فعل سجناؤنا وفرضوا أنفسهم على المدونة التاريخية لمسيرة النضال الحقوقي والسياسي في بلدنا. لقد قاوم هؤلاء الأبطال ما ترعرع من عادات ثقافية سيئة كعادة الخوف والحذر والاستسلام والإحباط ، والتي تمتص نفسيا واجتماعيا غفلة أو نسيانا بقصد وبغير قصد. لقد كان هؤلاء يعيشون في سياقات أخرى هي سياقات الشجاعة والإقدام والأمل بعيدا عن ثقافة الإسفاف المخدرة للمقومات الموضوعية للفرد المؤمن برسالة النضال الميداني العملي. فكان التحرير الداخلي في نفوسهم قد قادهم إلى حقيقة ذواتهم وكشف لهم صدق توجههم طريق النضال الذي عزز ثقتهم بأنفسهم كما سيعزز حتما من وجهة نظرنا ثقتنا في أنفسنا. ومن هنا يأتي الجهد النضالي الذي بذلوه ليعطي المحتوى التغييري لمقولة الحقوق والحريات ويمنحنا بذلك القيمة العملية القادرة على إقناعنا بجدوى الاتجاه إلى أن نراكم الخبرة العملية ونكسب التجربة النضالية اللازمة للدفاع عن مشروع دولة القانون والحريات في بلدنا وهذه مسؤولية المنبر الذي صنعوه للحرية في تونس من وجهة نظرنا.. المكتب الحقوقي والإعلامي جمعية الزيتونة سويسرا