انتخب خلال الايام القليلة الماضية دومينيك ستروس كان الاشتراكي الفرنسي الإصلاحي، الذي ينتمي إلى اليسار الواقعي، الأوروبي أو “الأمريكي الديمقراطي”، العصريّ، مديراً عاماً لصندوق النقد الدولي. وعلى النقيض من المظاهر، فإن المسائل التي سيحلها لا تختلف كثيرا عن المسائل التي لا يزال الحزب الاشتراكي الفرنسي يتخبط فيها. ففي الجامعة الصيفية التي عقدها الحزب الاشتراكي الفرنسي في مدينة لاروشال، قال فرانسوا هولانداليس الأمين العام للحزب “ان السوق هو الذي يسبب لنا مشكلة”. هذه الجملة يمكن أن يتبناها قادة صندوق النقد الدولي. وتكمن المفارقة على النحو التالي: ففي الوقت الذي يبدو فيه النمو الاقتصادي العالمي قوياً جداً، تبدو معنويات صندوق النقد الدولي ضعيفة جدا. فالصندوق الذي أنشئ في العام 1945 لإخطار الأزمات الاقتصادية التي أسهمت في إحلال الكساد طيلة الثلاثينات من القرن الماضي، ونجمت عنها الحرب العالمية الثانية، يواجه الآن ثلاث مشاكل وجودية. فالسبب الذي وجد من أجله اختفى. وعمله السابق المتعلق بالإصلاحات الهيكلية معترض عليه من غالبية الدول. أما حاكميته فلم تعد شرعية. كان سبب وجوده يتمثل في إقراض الأموال للبلدان الفقيرة والمستدانة. أما في الوقت الحاضر فنجد معظم البلدان تتمتع باحتياطات مهمة من العملة الصعبة. وما هو أسوأ، أن صندوق النقد الدولي وأخاه التوأم البنك الدولي، أصبحا الآن غير مرغوب فيهما، فعندما يكون بلد ما في حاجة إلى الأموال، فهو لا يتوجه إليهما، بل يتوجه إلى بلدان مثل الصين، وفنزويلا، أو السعودية، التي أصبحت سعيدة بتنامي تأثيرها على الصعيد الدولي. أما أساليبه، فصاغ البنك الدولي سياسته وبرامجه وتوصياته انطلاقاً من خدمة مصلحة “توافق واشنطن” هو عبارة عن مذهب اقتصادي ليبرالي يقوم على فلسفة التقشف، والتخصيص، والتحرير، والانضباط في الموازنة، والإصلاح الضريبي، وتخفيض النفقات العامة، وتحرير المبادلات التي توافق واشنطن وهذا الرد على كل المشاكل الاقتصادية التي كانت تواجه معظم بلدان العالم سواء في المراكز الرأسمالية المتقدمة أم في البلدان المتخلفة التي كانت تعاني من عجوزات كبيرة في موازناتها، حيث كانت خسائر المؤسسات العامة غير الفعالة تسهم في هذا العجز. ولذا سوف يسميه خبراء الاقتصاد أيضا ب “التفكير الأحادي”. وكانت “رأسمالية الخلان” هي السبب الكامن وراء الأزمة الآسيوية في العام 1997. وكان لا بد من إيجاد مذنب جديد، بما أن “الأساسيات” (التضخم والبطالة والنمو) جيدة، وبما أن أندونيسيا وكوريا الجنوبية وتايلاند تؤدي دور التلامذة المثاليين لصندوق النقد الدولي. أما حاكميته، على الرغم من أنها متمركزة في واشنطن، فإن الأوروبيين هم الذين يمتلكون السلطة الفعلية. ومنذ العام 1945 كان البنك الدولي، الذي تحدد الولاياتالمتحدةالأمريكية توجهاته، يعمل من أجل هدف استراتيجي هو تعزيز نمو بعض بلدان العالم الثالث حليفة الدول الغربية كي تشكل سدا منيعا ضد خطر توسع المشاريع الثورية أو المناهضة للإمبريالية. ويمارس البنك الدولي نفوذا هائلا في الكرة الأرضية، ويبسط نشاطاً إنسانياً ومتعدد الأشكال. أما اليوم، فإن صندوق النقد والبنك الدوليين اللذين أنشئا من أجل تجسيد التضامن بين البلدان الفقيرة والغنية، لم يعد لهما أي مبرر للوجود. ولا سيما بعد سقوط جدار برلين، وانبثاق البلدان الناشئة مثل الصين والهند والبرازيل. ويتساءل خبراء الاقتصاد في هذه الأيام: هل إن إصلاح صندوق النقد الدولي مازال يشكل موضوع اهتمام الآن؟ ومنذ إنشائه تعرض صندوق النقد الدولي إلى انتقادات مختلفة، مع تزايد صعوبات الصندوق في ضوء التغيرات الاقتصادية التي شهدها المجتمع الدولي خلال عقد التسعينات، بدءا من انهيار الاتحاد السوفييتي مروراً بالأزمة المالية العاصفة التي شهدتها البلدان الناشئة في جنوب وشرق آسيا في العام 1997، والبلدان المتحولة من التخطيط المركزي إلى اعتناق اقتصاد السوق. وفي غضون ذلك تعالت الأصوات المنادية بإصلاح صندوق النقد الدولي لتلافي حدوث أزمات مالية في المستقبل أو تحجيمها على أقل تقدير. كيف يمكن شرعنة مجلس إدارة صندوق النقد الدولي الذي يحافظ على حصص بلدان تعود إلى خمسين مضت، فوزن بلجيكا أكبر من وزن الهند، وهولندا تزن مرتين أكثر من البرازيل. ومن أصل 24 عضوا في مجلس إدارة صندوق النقد الدولي، هناك سبعة ينتمون إلى بلد واحد عضو في الاتحاد الأوروبي. أما المدير العام فهو تلقائياً يجب أن يكون أوروبياً. فدومينيك ستروس كاهن سيخلف الإسباني رودريغو دو راتو. وسيكون الفرنسي الرابع الذي يحتل هذا المنصب الرفيع. ومهما كانت كفاءات هؤلاء الرجال، فإن هذه الاستمرارية تطرح مشكلة حقيقية. إذ أصبح صندوق النقد الدولي عاجزاً عن التكيف مع التطورات التي يشهدها عالمنا المعاصر، الذي أسهم في قولبته على طريقته. من هنا ارتفعت الأصوات المطالبة بإصلاح صندوق النقد الدولي، ولاسيما على صعيد رئاسته، إذ طالب الرئيس فلاديمير بوتين باختيار مرشح من خارج الثنائي الأمريكي الأوروبي. في الواقع، الرئيس ليس إلا رمز. والمسألة الجوهرية لا تكمن في جنسيته، وإنما في تركيب مجلس إدارة صندوق النقد الدولي. فلكي تتمتع الصين، والبلدان الناشئة الأخرى، بمزيد من السلطة، يترتب على أوروبا أن تخفف من سلطتها الحالية. إن مستقبل صندوق النقد الدولي مرهون بموقف الأوروبيين. ولكن إصلاح صندوق النقد الدولي، من دون فتح ملف البنك الدولي، يصبح عملا من دون أي معنى. والحقيقة أن واقع الأسواق العالمية الآن يفرض ضرورة إصلاح المؤسسات المالية الدولية، وعلى رأسها صندوق النقد الدولي. ويظل الإصلاح الجوهري الذي تركز عليه مختلف الأطراف هو استقلال الصندوق عن الضغوط السياسية التي تمارسها واشنطن عليه، حيث أصبح هذا الإصلاح ملحاً حتى لمصلحة الاقتصادات الكبرى. * باحث اقتصادي