خلال أقل من ثلاثة أسابيع تشهد العاصمة تونس ثاني فيضان لها في المرة الأولى يوم 24 سبتمبر الماضي و في أوج شهر رمضان فوجئ سكان العاصمة بشوارعها تتحول إلى أودية زاحفة عطلت حركة المرور وحكمت عليهم بالسير تائهين حفاة جياعا مبتلين لا يعرفون كيف يدركون منازلهم و لا يجدون ما ينهون به يوم صيامهم. هذا عدا من داهمتهم المياه في منازلهم أو نكبتهم في بضائعهم و عطلت وسائل نقلهم بعدما اختفت وسائل النقل العمومي و انقطعت مسالك المرور. و كادت تحصل الكارثة لولا تضامن المواطنين و إسراعهم لإغاثة المحاصرين بالمياه في نفق باب سويقة داخل الحافلات و السيارات التي غمرتها المياه و الذي تحول إلى مصيدة عند كل نزول أمطار منذ عديد السنوات. و لكن ما لم يكن في الحسبان تكرر يوم أمس الجمعة ثاني أيام عيد الفطر و المخصص عادة لفرح ونزهة الأطفال و تحول ذلك العيد إلى نكبة لأكثر من ثمانية عشر فردا جرفتهم المياه على حين غفلة و حولت فرحة العيد إلى نكبة و لا يزال التعتيم الإعلامي مستمرا حاجبا الحصيلة النهائية الحقيقية لعدد الضحايا و هو الشيء الوحيد الذي برع فيه هذا النظام في مواجهة الكوارث و الأزمات. الأمطار التي نزلت أمس على العاصمة لم تكن استثنائية و لا غير معهودة و لا مفاجئة. و تبين صور الأقمار الصناعية أن كتلة السحب المتسببة في الكارثة بدأت في التشكل في عرض البحر شرقي الجزائر منذ الفجر و مرت على الشمال الغربي صباحا و لم تبلغ العاصمة إلا في حدود الساعة الثالثة بعد الزوال و غادرت سمائها نهائيا في حدود الساعة السادسة بمعنى أن نزول الأمطار لم يتجاوز الثلاث ساعات بلغ أعلى نسبتها السبعين مليمترا حسب تصريح مسئول الرصد الجوي ليلة أمس و بمعدل 40 مليمترا حسب ما ورد بالصحف صباح هذا اليوم. و هكذا يصبح الحديث على ضوء هذه المعطيات عن أمطار طوفانية و سيول جارفة من قبيل تلك المغالطات الماكرة التي ترمي إلى التخلص من المسئولية على حساب القضاء و القدر و القوة القاهرة. لتخفي حقيقة جريمة ألائك الفاسدين الذين استغلوا وضعهم من السلطة للإستبداد بهذا القطاع دون حسيب أو رقيب على مدى عشرات السنوات بعد أن حولوه إلى وسيلة للجباية و ابتزاز أموال المواطنين بصورة فاحشة بشتى العناوين تحت ستار ديوان التطهير و استهلاك الماء قبل أن يتركوا ورائهم الكارثة و ينصرفوا لتشييد القصور. و لعل ما يضفي على المأساة مسحة الكوميديا ما وقع الرد به على الصحافة بعد أن حاصرتهم الإتهامات بعد أمطار سبتمبر عندما قالوا أن مجاري ديوان التطهير لا دخل لها في مياه الأمطار لعلهم يقصدون أن الدمية "لبيب" التي ضحكوا بها على ذقوننا هي المسئول. و لعل هذه الأمطار تأتي لتذكرنا بالحال الذي تردت له حال بلادنا على نحو ما علق به أحد المدونين ليلة أمس على الفاجعة " كان صبّت اندبي و كان ما صبّتش اندبي " حيث أغلق هذا العهد كل شيء و حكم بالعطالة و الصمت على أهلها و خيرة رجالها عدى من شردهم و حبسهم متماديا في غيه لا يرى غير استمرار الحكم في يده هدفا لسياسته مغلقا كل شيء و لم تسلم منه حتى المطر حتى أصبحنا نغرق في باب بحر. و هكذا تتنزل هذه الكارثة و ما رافقها من ضحايا و معاناة ضمن سلسلة من المؤشرات المتضافرة على قرب انقضاء أجل الصبر و المدارات ليهب لتونس أهلها لأنها فعلا في حاجة لمن ينقذها و يعيد البسمة لكل أطفالها بعد أن تحولت في نظر العالم إلى البلد الذي يخشى على رعاياه من بطش نظامها. و المجد لشهدائنا الذين تقترن هذه المأساة مع إقدام هذا النظام على إلغاء الإحتفال بذكرى استشهادهم حتى يذكرنا أن المقصود بالجلاء ليس الاستعمار فحسب و إنما التحرر من كل الطغاة. و حتى ندرك أن الكارثة الحقيقية هي الإستبداد و ما يلازمه من فساد و غياب للحرية. مدونات / تونس – 14 10 2007