ايداع 9 من عناصرها السجن.. تفكيك شبكة معقدة وخطيرة مختصة في تنظيم عمليات "الحرقة"    الرابطة الثانية (ج 7 ايابا)    قبل نهائي رابطة الأبطال..«كولر» يُحذّر من الترجي والأهلي يحشد الجمهور    أسير الفلسطيني يفوز بالجائزة العالمية للرواية العربية    حادث مرور مروع ينهي حياة شاب وفتاة..    حالة الطقس لهذه الليلة..    أولا وأخيرا: لا تقرأ لا تكتب    افتتاح الدورة السابعة للأيام الرومانية بالجم تيسدروس    إيران تحظر بث مسلسل 'الحشاشين' المصري.. السبب    إنتخابات جامعة كرة القدم: إعادة النظر في قائمتي التلمساني وتقيّة    بسبب القمصان.. اتحاد الجزائر يرفض مواجهة نهضة بركان    البنك التونسي للتضامن يحدث خط تمويل بقيمة 10 مليون دينار لفائدة مربي الماشية [فيديو]    بين قصر هلال وبنّان: براكاج ورشق سيارات بالحجارة والحرس يُحدّد هوية المنحرفين    نابل: إقبال هام على خدمات قافلة صحية متعددة الاختصاصات بمركز الصحة الأساسية بالشريفات[فيديو]    الكشف عن مقترح إسرائيلي جديد لصفقة مع "حماس"    بطولة المانيا : ليفركوزن يتعادل مع شتوتغارت ويحافظ على سجله خاليا من الهزائم    تونس تترأس الجمعية الأفريقية للأمراض الجلدية والتناسلية    المعهد التونسي للقدرة التنافسية: تخصيص الدين لتمويل النمو هو وحده القادر على ضمان استدامة الدين العمومي    2024 اريانة: الدورة الرابعة لمهرجان المناهل التراثية بالمنيهلة من 1 إلى 4 ماي    مشروع المسلخ البلدي العصري بسليانة معطّل ...التفاصيل    عميد المحامين يدعو وزارة العدل إلى تفعيل إجراءات التقاضي الإلكتروني    انطلاق فعاليات الدورة السادسة لمهرجان قابس سينما فن    بودربالة يجدد التأكيد على موقف تونس الثابث من القضية الفلسطينية    الكاف: قاعة الكوفيد ملقاة على الطريق    استغلال منظومة المواعيد عن بعد بين مستشفى قبلي ومستشفى الهادي شاكر بصفاقس    الدورة الثانية من "معرض بنزرت للفلاحة" تستقطب اكثر من 5 الاف زائر    تسجيل طلب كبير على الوجهة التونسية من السائح الأوروبي    بطولة مدريد للتنس : الكشف عن موعد مباراة أنس جابر و أوستابينكو    جمعية "ياسين" تنظم برنامجا ترفيهيا خلال العطلة الصيفية لفائدة 20 شابا من المصابين بطيف التوحد    جدل حول شراء أضحية العيد..منظمة إرشاد المستهلك توضح    تونس تحتل المرتبة الثانية عالميا في إنتاج زيت الزيتون    الأهلي يتقدم بطلب إلى السلطات المصرية بخصوص مباراة الترجي    كلاسيكو النجم والإفريقي: التشكيلتان المحتملتان    عاجل/ الرصد الجوي يحذر في نشرة خاصة..    اليوم.. انقطاع الكهرباء بهذه المناطق من البلاد    فضيحة/ تحقيق يهز صناعة المياه.. قوارير شركة شهيرة ملوثة "بالبراز"..!!    وزير السياحة: 80 رحلة بحرية نحو الوجهة التونسية ووفود 220 ألف سائح..    عاجل/ مذكرات توقيف دولية تطال نتنياهو وقيادات إسرائيلية..نقاش وقلق كبير..    ليبيا ضمن أخطر دول العالم لسنة 2024    بمشاركة ليبية.. افتتاح مهرجان الشعر والفروسية بتطاوين    بن عروس: انتفاع قرابة 200 شخص بالمحمدية بخدمات قافلة طبيّة متعددة الاختصاصات    برنامج الدورة 28 لأيام الابداع الادبي بزغوان    في اليوم العالمي للفلسفة..مدينة الثقافة تحتضن ندوة بعنوان "نحو تفكرٍ فلسفي عربي جديد"    الإتحاد العام لطلبة تونس يدعو مناضليه إلى تنظيم تظاهرات تضامنا مع الشعب الفلسطيني    8 شهداء وعشرات الجرحى في قصف لقوات الاحتلال على النصيرات    مدنين: وزير الصحة يؤكد دعم الوزارة لبرامج التّكوين والعلاج والوقاية من الاعتلالات القلبية    الكاف: إصابة شخصيْن جرّاء انقلاب سيارة    القواعد الخمس التي اعتمدُها …فتحي الجموسي    وزير الخارجية يعلن عن فتح خط جوي مباشر بين تونس و دوالا الكاميرونية    السيناتورة الإيطالية ستيفانيا كراكسي تزور تونس الأسبوع القادم    بنسبة خيالية.. السودان تتصدر الدول العربية من حيث ارتفاع نسبة التصخم !    تألق تونسي جديد في مجال البحث العلمي في اختصاص أمراض وجراحة الأذن والحنجرة والرّقبة    منوبة: تفكيك شبكة دعارة والإحتفاظ ب5 فتيات    مقتل 13 شخصا وإصابة 354 آخرين في حوادث مختلفة خلال ال 24 ساعة الأخيرة    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الكفاءات العربية.. هجرة بالحقائب من دون عودة
نشر في الوسط التونسية يوم 05 - 11 - 2007

بعد مرور قرابة نصف قرن أو ما يزيد، على حصول الدول العربية على الاستقلال ورفع الأعلام مرفرفة وصراخ النخب بأعلى الأصوات وأكثرها ثقة ووعودا بأنها طوت صفحة التخلف لتبدأ في خط صفحات مشرقة من التنمية والتقدم، نجد أنفسنا أمام تفاقم خطير لظاهرة هجرة الأدمغة العربية، التي تعني هجرة رأس المال الأغلى في شكل نزف لا شيء ينبئ بجدية محاولة إيقافه، أو على الأقل التقليل من تدفقه الشبيه بالشلال.
ودليلنا في رسم هذه الصورة المفزعة أن تلك الخسائر التي منيت بها البلدان العربية بسبب هجرة أدمغتها، والتي كانت تقدر في السبعينات من القرن المنصرم ب11 مليار دولار، قد تضاعفت اليوم عشرين مرة لتصل إلى 200 مليار دولار كحجم تقديري للخسائر العربية، وذلك حسب آخر تقديرات منظمة العمل العربية. بل وإمعانا في الفزع نضيف ما أورده الكندي ريفين برينز في كتابه «القرن المالي» عندما قال إنه إذا افترضنا أن تعلم أحد المهاجرين العرب يكلف بلده في المتوسط عشرة آلاف دولار، فإن ذلك يعني تحويل 18 مليار دولار من الأقطار الإسلامية إلى الولايات المتحدة وأوروبا كل عام.
فما الذي انتهى بنا إلى هذه المعاناة الصامتة والمفجعة في آن، والحال أن كل دول الاستقلالات العربية، شنت حملة شعواء ضد الأمية ومظاهر التخلف الاجتماعي والثقافي، وراهنت على خلق أدمغة وطنية تقود مشروع التنمية أو ما عبر عنه الزعيم التونسي الراحل الزعيم بورقيبة بمعركة الجهاد الأكبر ويقصد بها معركة التقدم؟
ثم إلى أي حد يبدو التعبير دقيقا وشفافا، عندما نتبنى مفهوم هجرة الأدمغة. أو ليس الأصدق أن نقول إن ما يحصل في الدول العربية منذ السبعينات إلى اليوم، هو تهجير للأدمغة العربية أكثر منه هجرة، حتى لو كان هذا التهجير من النوع غير المباشر.
وللعلم فإن عبارة هجرة العقول أو الأدمغة، ابتدعها البريطانيون لوصف خسارتهم من العلماء والمهندسين والأطباء بسبب الهجرة من بريطانيا إلى الولايات المتحدة الأمريكية، في حين تعرف منظمة اليونسكو هجرة العقول بأنها «نوع شاذ من أنواع التبادل العلمي بين الدول يتسم بالتدفق في اتجاه واحد، ناحية الدول المتقدمة أو ما يعرف بالنقل العكسي للتكنولوجيا، لأن هجرة العقول هي فعلا نقل مباشر لأحد أهم عناصر الإنتاج وهو العنصر البشري». واستنادا الى لغة الأرقام البليغة نذكر أنه جاء في دراسة لمركز الخليج للدراسات الاستراتيجية صدرت في مايو 2004 أن الدول الغربية الرأسمالية، قد استقطبت ما لا يقل عن 450 ألف من العقول العربية، وأن الوطن العربي يسهم ب31% من هجرة الكفاءات من الدول النامية إلى الغرب الرأسمالي بنحو 50% من الأطباء و23 من المهندسين و5% من العلماء من العالم الثالث.
ولكن ما هي الأسباب الأساسية لهذا النزف المستمر للأدمغة العربية؟ في الحقيقة ان الاطمئنان إلى نظرية المؤامرة في هذه المسألة تحديدا ينضوي على مجانبة الواقع والحقائق، خصوصا أن معظم الأدمغة التي نتحدث عنها ونتحسر لبعدها عن أوطانها واقتصادياتها الضعيفة المحتاجة إلى خبراتها، تغادر الوطن وهي مشاريع أدمغة، أو ما يمكن أن نسميه بالعقول الممكنة، التي اختارت الإقامة في دول الشمال، أين العلم وملتقى العلماء وفرص إشباع الطموحات العلمية.
تعرف منظمة اليونسكو هجرة العقول بأنها «نوع شاذ من أنواع التبادل العلمي بين الدول يتسم بالتدفق في اتجاه واحد، ناحية الدول المتقدمة أو ما يعرف بالنقل العكسي للتكنولوجيا، لأن هجرة العقول هي فعلا نقل مباشر لأحد أهم عناصر الإنتاج وهو العنصر البشري».
لذلك، فإن فهم ظاهرة هجرة العقول العربية، لا يتحقق سوى بالوقوف عند نوعين من الأسباب: الأولى المجبرة على خوض تجربة الهجرة. ويتعلق النوع الثاني من الأسباب بعوامل استقطاب الدول المتقدمة للعقول العربية. ولقد اعتمد أغلب الباحثين الصنفين من الأسباب وكذلك الشأن بالنسبة إلى دراسات مراكز البحث وأمعة الدول العربية ومنظمة العمل العربية وغيرها.
لقد فضلنا استعمال كلمة «المجبرة» عوضا عن «الدافعة» كما هو شأن أغلب الدراسات في هذه المسألة، لأن الإجبار أعظم وطأة من الدفع وأكثر قسوة، خصوصا أننا في بداية هذه المقالة عبرنا عن ميل لتبني معنى «التهجير» ودلالته أكثر من تلك الرموز الأكثر رحابة وأحيانا حياديته التي يقودنا إليها مفهوم «الهجرة» وتراوحه بين دلالات بعضها متناقض.
حدد الاتحاد البرلماني العربي في مؤتمره العاشر بالخرطوم بتاريخ 11 فبراير 2002 خمسة أسباب لظهور وتفاقم ظاهرة هجرة العقول العربية وهي:
ضعف وانعدام القدرة على استيعاب أصحاب الكفاءات الذين يجدون أنفسهم، إما عاطلين عن العمل أو لا يجدون عملا يناسب اختصاصاتهم في بلدانهم (الجراحات الدقيقة، الطب، الهندسة، الالكترونية وعلوم الليزر).
ضعف المردود المادي لأصحاب الكفاءات.
انعدام التوازن في النظام التعليمي، أو فقدان الارتباط بين أنظمة التعليم ومشاريع التنمية.
عدم الاستقرار السياسي أو الاجتماعي والإشكاليات التي تعتري التجارب الديمقراطية العربية والتي تؤدي في بعض الأحيان إلى شعور بعض أصحاب الخبرات بالغربة في أوطانهم، أو تضطرهم إلى الهجرة، سعيا وراء ظروف أكثر حرية وأكثر استقرارا.
والى جانب هذه الأسباب الأساسية، يمكن أن توجد عوامل أخرى موضوعية أو ذاتية تدفع أصحاب الخبرات إلى الهجرة كالبيروقراطية الإدارية وأنظمة الخدمة المدنية، وبعض التشريعات والتعهدات والكفالات المالية التي تربك أصحاب الخبرات، إلى جانب أسباب عائلية أو شخصية فردية.
ويظهر أن هذه الأسباب تغير مواقعها، ذلك أن دراسة مركز الخليج للدراسات الاستراتيجية اختارت أن تكتفي بالتركيز على سبب واحد منتج لظاهرة هجرة العقول العربية وهو ضعف الاهتمام بالبحث العلمي. وهو تركيز تبرره معلومات مفادها بأن الإنفاق السنوي للدول العربية على البحث العلمي لا يتجاوز 0.2% من إجمالي الموازنات العربية. وكي نحدد بدقة ضعف هذا الإنفاق تكفي الإشارة إلى أن ما تنفقه أمريكا على البحث العلمي يساوي 3.6% والسويد 3.8% وسويسرا واليابان 2.7% وفرنسا والدنمارك 2%.
وفي هذا السياق نعتقد أنه من الخطأ الاستهانة بتدهور نظم التعليم في الوطن العربي، فهو الفضاء الذي يبني العقول حسب تعبير بيار بورديو وفضاءاتنا التعليمية، قد نخرها سوس التسييس والدمعجة فكانت النتيجة أن تقريرا نشر في سبتمبر 2005 يضم أفضل 500 جامعة في العالم لم يتضمن ولو جامعة عربية واحدة، علما بأن حظ الولايات الأمريكية من القائمة المذكورة بلغ 190 جامعة.
هذه الأسباب التي تجبر العلماء العرب على الاغتراب وحمل حقيبة السفر من دون عودة ومن دون إهدارهم لعمر واحد قصير يرتضون قضاءه في المختبرات والأبحاث المثابرة بعيدا عن الإحباط والتهميش وهدر مواهبهم بفعل المحسوبية والوساطة والثقافة السائدة، التي تميل إلى محاربة الكفاءة كي لا تكبر، ولا تحلق، ولا تتلألأ نجمة في السماء. أما عوامل الاستقطاب التي تبنتها واستندت عليها معظم الدراسات والأبحاث فتتمثل في: الريادة العلمية والتكنولوجية للبلدان الجاذبة ومناخ الاستقرار والتقدم الذي تتمتع به هذه البلدان. وأيضا توفر الثروات المادية الضخمة التي تمكنها من توفير فرص عمل مهمة ومجزية ماديا تشكل إغراء قويا للاختصاصيين. بالإضافة الى إتاحة الفرص لأصحاب الخبرات في مجال البحث العلمي والتجارب التي تثبت كفاءاتهم وتطورها من جهة أخرى، وتفتح أمامهم آفاقا جديدة أوسع وأكثر عطاء، من جهة أخرى.
ولا ننسى أن توفير تربة بحثية خصبة ووجود منظومة ثقافية قيمية تولي للعلم أعلى مراتب الاهتمام، يمارسان إغراء يصعب على العقول العربية المتحدرة من بيئة بحثية فقيرة، مقاومته. فلا يخفى أن للعلماء طقوسهم الخاصة، وان هناك ما يسمى بلذة البحث، الشيء الذي يشكل نفسية ذات بعد كوني عند كل عالم كبير، فيصبح العلم هو الوطن وكل الجغرافيات المشجعة أرضية خصبة وفضاء احتواء ونفسية أي صاحب كفاءة تبحث عن دور فردي، وفرص تحقيق الذات وإثبات الفاعلية.
نعتقد أنه من الخطأ الاستهانة بتدهور نظم التعليم في الوطن العربي، فهو الفضاء الذي يبني العقول حسب تعبير بيار بورديو وفضاءاتنا التعليمية، قد نخرها سوس التسييس والدمعجة فكانت النتيجة أن تقريرا نشر في سبتمبر 2005 يضم أفضل 500 جامعة في العالم لم يتضمن ولو جامعة عربية واحدة، علما بأن حظ الولايات الأمريكية من القائمة المذكورة بلغ 190 جامعة.
وإذا كانت ماهية الإنسان العادي يعرفها عالم النفس ابراهام ماسلو ب«الكيان الذي يتنامى في اتجاه تحقيق إمكانياته الطبيعية، التي تغلب عليها الإيجابية» فما عسى أن نقول في شأن ماهية إنسان ولد ليكون عالما، خاصة أن اقتصاد العولمة يفرض على الأدمغة العربية، بل وحتى الأوروبية أن تتجه إلى حيث يمكنها أن تكون مفيدة. ومن غرابة الأمور في الدول العربية أنها رغم تحققها من تأثر اقتصادياتها من نزف أدمغتها نحوالخارج، فإنه على المستوى العملي نلحظ استغناء عن خدماتهم ولا مبالاة من حجم الخسائر الناتجة عن ظاهرة الهجرة، لاجئة في إطار مزيد تكبد الخسائر إلى الاعتماد على كوادر غربية في مشاريعها الكبرى. لذلك فإنهم يحملون الحقيبة من دون عودة، وكأن النخب السياسية العربية الحاكمة والعلماء في خصام مسكوت عنه، تدفع فواتيره الشعوب العربية المستنزفة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.