: في القرن الثاني أو الثالث للهجرة وبينما كانت بلاد العرب تعيش حقبتها الذهبية نهوضا علميا وطفرة في علوم الترجمة والنقل عن حضارة فارس واليونان , برز على الساحة الأدبية العربية ابن المقفع الذي خط كتابه الشهير كليلة ودمنة مضمنا اياه قصصا وحكايات كان أبطالها ورموزها من الحيوانات الناطقة التي روت على لسان الكاتب روايات تعج بالدلالات السياسية المحكمة ... لجأ ابن المقفع الى هذا الأسلوب المرمز بعدما عجز على مايبدو عن ايصال نقده اللاذع لأداء سلاطين وأمراء الدولة العباسية بالطريق المباشر الذي عرف به رجال الصحافة والاعلام أو فرسان القانون أو رجالات السياسية في الدولة الحديثة أو الدولة المعاصرة ... واذا كان من الثابت تاريخيا أن طريق أوربا الحديثة نحو الاعلام الحر قد بدأ مع مناهضة ملوك ال ستيوارت في القرن السادس عشر حين أخذ الى المقصلة أربع صحفيين قالوا في الظلم مالم يقله على الملأ أحد من ذي قبل .., فان ذلك يعني أن قاطرة الاصلاح السياسي والمأسسة والدمقرطة لم تبدأ أوربيا كما هو مشاع مع اندلاع الثورة الفرنسية بل انها كانت أعرق من ذلك بمايناهز القرنين .. أما عربيا فان قصص ابن المقفع تشير الى أن التململ الأدبي والسياسي والنقد المكتوب أو النقد الشفهي في بلاطات الطبقة الحاكمة أو محيطها الجغرافي هي أرسخ زمانا وأوسع مكانا , غير أن أكلها كان محدودا ولم نجن من ورائه الى حد هذا اليوم غير قصص من الألم أو اصلاحات سياسية محدودة تحتاج الى كثير عناء عند الرصد العلمي والأكاديمي المتخصص . واذا كان المقام لايتسع في مثل هذا المقال لتوصيف جدوى النقد الاعلامي والسياسي والأدبي فوق الخارطة العربية , الا أنه تكفي الاشارة الى أن نهايات ابن المقفع كانت دليلا قاطعا على أثر الكلمة في الجمهور المضطهد أو في الرعاع المهمش , وهو ماجعل البعض من المؤرخين يرجح نهاية غير سعيدة لواضع كتاب كليلة ودمنة ... أما في التاريخ العربي المعاصر فلدينا مثال ناجي العلي الذي استطاع بريشته الكاريكاتيرية أن يخلد ملحمة حنظلة الذي وقف على الدوام ساخرا وصامدا في وجه ألوان عدة من الحيف والظلم والجبروت , وهو ماجعل نهاية صاحبه المبدع والفنان والماسك بهموم الوطن لاتختلف عن نهايات صاحب كليلة ودمنة ... في قطر عربي شقيق ليس له من الرصيد الحقوقي والسياسي مايجعله يمارس حسابات على طرائق الدول الغربية المتحضرة , رأينا نهاية مأساوية للصحفي ضيف الغزال الذي بترت أصابعه ومثل به بعد أن قتل على أيادي قيل أنها مجهولة ... وفي خضم الفوضى الأهلية والطائفية رأينا مصيرا شبه مماثل لمراسلة قناتي الجزيرة والعربية السيدة أطوار بهجت , حين امتدت لها أيادي الغدر بطريقة متوحشة عبرت عن هوية القاتلين ... لو قدر لنا اليوم في مثل هذه الأجواء الأعرابية الباعثة على القلق والمتصدية لصدق وعدالة الكلمة في الدفاع عن المظلومين , لو قدر لنا من جديد أن نطلب من ابن المقفع الكتابة بروح رمزية عن مصير سياسي مجهول ينتظر بعض بلداننا أمام تفشي اساليب القمع لأصحاب الرأي المخالف أو لاصحاب الأقلام الحرة أو لدعاة التطوير والاصلاح والتنمية السياسية والاجتماعية العادلة , فاننا لن نجد خيرا من قصة الحصان الذي قتل صاحبه قبل أيام بجهة سيدي بوزيدالتونسية احتجاجا على مالقيه من تعذيب وجلد هيستيري ... لنتأمل فيما كتبت وكالة الأنباء الألمانية عن قصة هذا الحصان التونسي الذي خرج عن طور التحكم في مشاعر الاعتدال وتحمل الظلم ففعل فعلة ابن ادم الأولى : "في حادثة تهم مربي الخيول قتل حصان غاضب مزارعا تونسيا بمحافظة سيدي بوزيد /350 كلم وسط غرب العاصمة تونس انتقاما من إمعان الأخير في جلده خلال استخدامه في أعمال فلاحية. وذكرت صحف محلية أمس أن الحصان الذي نفد صبره بعد أن تعرض لجلد مبرح أصيب بحالة من الهستيريا وهاجم المزارع ورفسه بحوافره إلى أن أزهق روحه. ولم تفلح مساعي مزارعين لتخليص زميلهم من حوافر الحصان الهائج الذي احتجزته المصالح البيطرية بالمدينة تحسبا من بطشه بآخرين " الخبر الانف لايحتاج الى كثير من التفسير وهو في تقديرنا البسيط يصور مايولده أسلوب العنف الأهوج والقمع من ردات فعل غير محسوبة تصدر عن الضحية , ولنا أن نقول عندما نتأمل في مضمون هذا الخبر بأنه "كفى لنا بالدواب واعظا وبحصان سيدي بوزيد رادعا وعبرة ..." لنتفق جميعا كما كتبنا مرارا وتكرارا ونعيد ذلك للمرة الألف بأن العنف مهما كان مصدره ليس وسيلة مثالية أو أخلاقية في فض النزاعات أو الخلافات أو في فرض الواجبات أو المطالبة بالحقوق , وهو مايعني أن مخالفة هذا القانون الأخلاقي والتعاقدي بين البشر المتحضرين قد تؤدي لاسمح الله الى ردات فعل تخرج عن طور التحمل الانساني وهو مايفسر على مدار التاريخ جملة من الثورات البشرية لعل أشهرها الفرنسية ونظيرتها البلشفية وليس اخرها الثورة البرتقالية ... نقول هذا الكلام من باب التأمل في مصائر الظلم والقهر والتسلط الذي قد تتحمله الشعوب لردح زمني ما أمام كبح قوى الاعتدال والتوسط والعقلنة , غير أن زمام المبادرة قد يخرج من تحت سيطرة هذه القوى في ظل تعنت مراكز الظلم واستخفاف مدبري عوامل الجور , وهو مايتيح الفرصة واسعة لتبني أطروحات الراديكاليين والابحار في بريقية مايروجون له من شعارات ومن ثمة افلات الأمور من لوحات السيطرة والتحكم العقلاني . أكتب هذه الكلمات بكثير من المرارة وأنا أتابع بصفتي كاتبا واعلاميا تونسيا الأخبار والبيانات والمواقف الصادرة عن مكونات المجتمع المدني في بلدي , حيث أن تتالي قصص الاعتقالات والمحاكمات على خلفية الموقف الفكري أو السياسي أو النشاط الاعلامي لن يكون له من أثر غير تعميق حالة الاحتقان وتوسيع دائرة الغضب الاجتماعي , وهو مايعني أن ردود الأفعال التي يحتمل انبثاقها لاقدر الله من بين ظهراني المجتمع قد تخرج عن دوائر الاعتدال والتوسط الذين طالما نادينا بهما حتى وصل الأمر ببعض المعارضين الى اتهامنا بالسذاجة والتواطئ !!! أترك للقارئ في النهاية فرصة التأمل في أبعاد ونتائج الظلم من خلال التمعن في قصة حصان سيدي بوزيد ليحكم على مسيرتنا بعدها ان كان فيها مثقال ذرة من سذاجة أو تواطؤ !