كثر اللَغَظُ مؤخرا حول ضعف المعارضة الوطنية وعزا الكثيرون في السلطة وخارجها هذا الأمر إلى فقدان المعارضة لبدائل مجتمعية شاملة ومقنعة للناس. وهو حكم لو صحّ لتحملت المعارضة وحدها ما ينسب إليها من ضعف وهشاشة من جهة أما من جهة أخرى فهو استنتاج مبني على مقدمات لو صدقت وجب إعفاء السلطة من واجباتها المنوطة بعهدتها تجاه المعارضة وهي كثيرة وتجاه الديمقراطية والتحول الديمقراطي وهي أكثر وبرر - في نفس السياق- هيمنة الحزب الحاكم على الشأن العام وتحكمه في جميع مفاصله في غياب المنافس المحترم والجدير بالتشريك الفعلي في إدارة شؤون المجتمع وقيادته إلى آفاق أرحب من التطوير والترقي والتقدم. وبقدر ما يعفى مثل هذا الحكم السلطة والمستقلين عن النضال الديمقراطي التقدمي من واجباتهم فهو يفقد المعارضة أي مشروعية ويجعلها لفيفا من الحمقى والسذج بل والانتهازيين لا يعنيهم ما هو موكول إليهم من أدوار على غاية من الأهمية في تأطير الناس وتوعيتهم بدورهم في تكريس الديمقراطية وتوسيع مجالات الحرية والحريات والتقدم المطرد في سبيل الوحدة الوطنية والقومية على أساس تكافؤ الفرص والكفاية والعدل الخ... بقدر عنايتهم بمصالحهم الخاصة وقبولهم بانخرام قواعد العلاقة بين حزب حاكم مهيمن مانح ومعارضة ضعيفة مهمشة مثمنة !! والأمر كله متوقف على مدى صدقية الاستنتاج/الحكم المتمثل في أن ضعف المعارضة نتيجة لسبب واضح وهم غياب البدائل المناسبة. إن مثل هذا الحكم يدعونا إلى تدبّر مسوغاته وإن مثل هذا الاستنتاج يحضنا على تفحص مقدماته. هل حقا تشكو أحزاب المعارضة التونسية من غياب جزئي أو كلي لبدائل مجتمعية مناسبة لواقعنا؟ وبالعودة إلى الأحزاب المعارضة وما تطرحه من أفكار وتدبجه من بيانات وتحبره من أدبيات وما تتبناه من إيديولوجيات يمكن الحكم لصالح المعارضة الوطنية أو عليها. وأول ما ينبغي لنا ذكره أن الأحزاب القانونية المعارضة الثمانية (الاتحاد الديمقراطي الوحدوي والوحدة الشعبية وحزب الخضر من أجل التقدم والحزب الاجتماعي التحرري وحزب التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات وحزب الديمقراطيين الاشتراكيين وحزب التجديد والحزب الديمقراطي التقدمي). ما كان لأي منها ليحصل على التأشيرة لولا تقديمه برنامجا سياسيا وبديلا مجتمعيا محترما ومتميزا. أما ثاني الأمور وبدون أن أنصّب نفسي مدافعا عن بدائل المعارضة فيكفي أن نذكر اللاغطين والمشككين بأن أغلب الأحزاب الثمانية المذكورة أعلاه سليلة تيارات سياسية عريقة وإيديولوجيات عالمية وعربية كبرى أثبتت جدارتها الفكرية والأيديولوجية عقودا طويلة ومارست السياسة طويلا حتى خبرتها وبرزت في وضع البرامج ورسم البدائل المجتمعية. أما ثالث الأمور فإن الاطلاع على برامج أغلب هذه الأحزاب كفيل بإقناعها بمدى تجذرها في حقل السياسة والاجتماع. غير أن البعض قد يستدرك ويخفف من حدة نبرته إزاء المعارضة فيحصر ضعف بدائل الأحزاب في رفعها لشعارات عفّى عليها الزمن ولم تعد صالحة لعصرنا. ونحن نجيب هؤلاء: هل اطلعتم حقا على برامج المعارضة وبدائلها؟ إن قراءة متأنية لبدائل المعارضة عامة والمعارضة التونسية خاصة تفضي بنا إلى إقرار حقيقة ناصعة ألا وهي تدشين الأحزاب المعارضة التونسية القانونية منذ عقود نهج إعادة بناء الذات ومراجعة أفكارها وشعاراتها بل عقائدها في ضوء التحولات الإنسانية والمطالب المجتمعية ودون الدفاع عن الأحزاب الأخرى فإن الاتحاد الديمقراطي الوحدوي يعد نفسه في مقدمة الأحزاب المجددة للفكر والإيديولوجيا القومية وما يتطلبه الواقع السياسي القطري والقومي (انظر برنامج الحزب المنشور مؤخرا تحت شعار استقلال... ديمقراطية، الوفاء لتونس... وفاء للأمة العربية). ولئن كان الاتحاد الديمقراطي الوحدوي امتدادا للحركة القومية العربية وطنيا وقوميا فإنه يتميز بتفتحه على مطالب العصر في نبذ العنف ورفض الاستبداد ولو كان عادلا في سبيل الحرية والديمقراطية ولو كانت منقوصة وعلى مراحل (التحول الديمقراطي). ولا أظن الحركة الشيوعية التي يمثل إحدى امتداداتها حركة التجديد بعيدة عن هذا التوجه أي رفض الدكتاتورية عامة ودكتاتورية البلوريتاريا خاصة والإلحاح على الديمقراطية وقيمها والأمر نفسه بالنسبة إلى بقية الأحزاب. لذلك كله نحن لا نوافق من يزعم أن ضعف المعارضة عائد إلى غياب بدائلها وإنما المسؤول عن هذا الضعف حقا هو غياب الوسائل القانونية والمادية والمالية والأدوات والأجهزة أو على الأدق عدم تكافئ إمكانات الحزب الحاكم وإمكانات المعارضة. فبالله عليك كيف يمكن لأحزاب ضعيفة الإمكانات والوسائل تتحرك في هامش قانوني ضيق (قانون الصحافة، قانون الأحزاب...) أن تنافس حزبا حاكما يستأثر بأجهزة الدولة من إدارة ووسائل إعلام واتصال ويهيمن على كافة مفاصل الإنتاج والتشغيل والتوظيف والترقية.. وكيف لأحزاب اختارت المعارضة نشاطا وعنوانا أن تستقطب الألوف والملايين من الأنصار في واقع سياسي ومجتمعي كرس هيمنة الحزب الواحد واللون الواحد والرأي الواحد وجرّم أحيانا علنا وغالبا سرا العمل المعارض وعاقبه بصفة مباشرة (التضييقات المختلفة) وبصفة غير مباشرة (عدم الانتداب، عدم الترسيم للممنتدبين، عدم الترقية للمعارضين، عدم مساعدة المعارضين على بعث مشاريع مربحة..الخ) بل بمعاقبة مواطن أو عائلته أو قبيلته لمجرد أن أحد أقاربه معارض ولكن البعض الآخر يحتج بتوصية رئيس الدولة بمضاعفة تشريك المعارضة في الملفات التلفزية، ونحن نعتقد أن مثل هذه التوصيات لن تفلح في الحد من نفوذ الحزب الحاكم إذ إنه سرعان ما يلتف على هذه التوصيات ويوظفها لصالحه وأكبر دليل على ذلك تكثيف حضور الحزب الحاكم بالملف الواحد تحت مسميات توحي بالحياد وتكليف منشطين تجمعيين أي غير محايدين بإدارة الحوارات فينقصون على ممثل المعارضة فيحاصرونه حتى يهمشوا مداخلته. والأفظع أن يتطاول منشط دون وعي منه (اللاشعور الجمعي للتجمعيين) بالإشارة إلى ممثل الاتحاد الديمقراطي الوحدوي المناضل في المعارضة ما يساوي عمر هذا المنشط بعبارة "الهذا" ! فالمعارض عنده شيء وليس بشرا؟؟ إن الخروج من الضعف السياسي لن يتحقق إلا بالمساواة بين الحزب الحاكم وأحزاب المعارضة أمام القانون وفي الوسائل والإمكانات حتى يصبح المعارض والحاكم متساويي الحظوظ والحقوق والواجبات في ظل إدارة محايدة تخدم الحاكم خدمتها لغيره وتجازيه كما تعاقبه تماما مثلما تجازي غيره وتعاقبه. إذا توفرت هذه الأرضية الدنيا من الحريات والوسائل والإمكانات أمكن حينئذ الحديث عن بدائل المعارضة عن وجودها وعن عدمها عن جدارتها وعن عدم جدارتها.