اتجه 109 ملايين مواطن روسي إلى صناديق الاقتراع يوم الأحد 2ديسمبر الجاري لانتخاب 450 نائبا في مجلس الدوما لولاية من أربع سنوات، وهي خامس عملية اقتراع منذ انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991 و كما كان متوقعاً، حقق حزب «روسيا الموحدة» الموالي للرئيس فلاديمير بوتين نصراً ساحقاً في هذه الانتخابات البرلمانية ، بحصوله على حوالى 63.9 في المئة من الأصوات، في مقابل 11.5 في المئة للحزب الشيوعي، و1,9 في المئة للحزب الديموقراطي الليبرالي بزعامة فلاديمير جيرنوفسكي، و8,7 في المئة لحزب «روسيا العادلة»، فيما لم تتمكن بقية أحزاب المعارضة من الحصول على نسبة ال7 في المئة التي تؤهلها دخول البرلمان. من أهم المواضيع التي عبأ من خلالها الرئيس بوتين الرأي العام الروسي للتصويت لمصلحة حزبه ، هي النزعة المناهضة للولايات المتحدة الأميركية،ومواصلة التنديد بأعداء روسيا في الخارج، في سبيل إفقاد الثقة بالمعارضة.فتشجيع الشعور المناهض لأميركا، هو تمرين إعلامي و سياسي موروث من عهد الحرب الباردة، و هو أحد المواضيع الحساسة التي يحب سيد الكرملين إثارتها لاستمالة الرأي العام. و كان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين رسم معالم سياسة خارجية لروسيا مرشحة أن تشكل « سياسة المستقبل» التي تتجاوز وجوده «المادي» في الرئاسة. وبغض النظر عن نجاح مشاريعه للعودة، أو لا كرئيس للوزراء، ولاحقا كرئيس للجمهورية من جديد، فإن السياسة التي يرسمها لروسيا تبدو متوافقة مع رؤيتها لمصالحها. إنّ الواقع مرّ ومعبّر: «لقد شكّل انهيار الاتحاد السوفياتي الكارثة الجغراسية الأعظم في هذا القرن. بالنسبة للأمّة الروسية، كان ذلك مأساة فعلية». هذا ما صرّح به الرئيس فلاديمير بوتين في خطابه السنوي في البرلمان، في 25 أبريل 2005. لقد عبّر بهذه الطريقة عن خوف الكرملين بوجه الانهيار الذي لا يقاوم لسلطته وخسارة الأراضي التي احتلّها على مدى ثلاثة قرون. في الوقت الذي شهدنا فيه تقرّباً مذهلاً بين الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي، غداة الحادي عشر من 11سبتمبر، استمرّت عوامل الضغط بالتزايد منذ نهاية العام 2003، ولاسيمابعد «ثورة الورود»في جورجيا و «الثورة البرتقالية» في أوكرانيا، إضافة الى الخلافات حول إيران . وكانت ردّة فعل موسكو على «الثورات الملوّنة» في جورجيا وأوكرانيا، أوضحت غموض التقارب بين روسياوالولاياتالمتحدة وأوروبا. فبالنسبة للكرملين، ليست هذه الأحداث نتيجة لتحرّك المجتمعات المدنية ضدّ الأنظمة الفاسدة وغير المؤهّلة والمُجرمة، إنّما نتيجة مؤامرة حرّكتها واشنطن للحدّ من نفوذ روسيا في نطاق ما بعد السوفياتية ونهب ثرواتها. وفي موسكو، تساءل الخبراء والديبلوماسيون والمسؤولون السياسيون: أيجب على روسيا الاستمرار بالشراكة الاستراتيجية مع الولاياتالمتحدة؟ أو التقرّب من الصين؟ وكيف يمكن وضع حدّ لتراجع سيطرتها في الحيّز ما بعد السوفياتي؟ منذ وصوله إلى السلطة في خريف عام 1999, بواسطة حرب الشيشان الثانية , لم يخف الرئيس الروسي نواياه.بل إنه يتفاخربطرح مفهومه للسياسة الخارجية بشكل صريح, و فكرته عن روسيا, و رؤيته للعلاقات الدولية.وقد طبعت فلسفته السياسية بتكوينه زمن الإتحاد السوفياتي ومن خلال مهنته الأولى: ضابط مخابرات في جهازالكي جي بي في ألمانياالشرقية. والحال هذه فهو يشير في أحاديثه إلى مرجعية الإتحاد السوفياتي دائما . و هذه المرجعية لا تتعلق بالحنين إلى نظام يعي بوتين ضرورات تطوره الحديث, بقدر ما التحليل لموازين القوى:الإتحاد السوفياتي كان قوة عظمى محترمة مكن روسيا من لعب دور ينوط بمكانتها التاريخية.و قد أدى إنهيار النظام السيوفياتي , لا كنموذج من التنظيم للمجتمع فقط, و لكن كعامل تنظيم و إستقرار للنظام الدولي بشكل خاص, إلى إعادة توزيع الأوراق لمصلحة الغرب عامة و الولاياتالمتحدةالأمريكية خاصة. إن إحدى أهداف فلاديمير بوتين المعبر عنها في إطار المقارنات الدائمة مع أمريكا, تكمن في جعل روسيا قوة تحتل بها المركز الشاغربعد زوال الإتحاد السوفياتي. ومن هنا كان تركيز بوتين في الحملة الانتخابية الأخيرة على موضوع السياسة الخارجية ، إذ يندر أن يوجد ملف أساسي في السياسة الخارجية اليوم من دون موقف روسي معترض. العامل الثاني الذي ساعد بوتين على تحقيق الفوز في هذه الانتخابات،هو شعبية الرئيس الروسي الذي يحظى بها منذ وصوله إلى الكرملين.إذ تتجمع في أيدي بوتين كل أجهزة السلطة: المخابرات،والقضاءو الجيش، و أجهز الإعلام، و الشركات التي يرعاها الكرملين على غرار «غازبروم» و«روسنفت» و«ترانسنفت» وشركة «سوتشي» الأولمبية المكلفة تنظيم الألعاب الشتوية الأولمبية.و ماتنفقه هذه الشركات هو أموال عامة، و ماتجنيه هو أباح خاصة.و هذا المبدأ هو جوهر دولة بوتين. فقد ألغى بوتين تعيين المواطنين حكام الأقاليم ومحافظي المدن الكبيرة، وسن قوانين تضمن فوز حزبه باغلبية مريحة في مجلس الدوما(البرلمان) و تقصي التشكيرلات السياسية الليبرالية التي ظهرت بعد سقوطالشيوعية.و فضلا عن ذلك، فإن المعارضة ضعيفة و منقسمة، ومحرومة من وسائط التعبير، وهي خارج إطار التهديد الجدي للأجنحة القائجدة، التي وجدت في شخص بوتين أفضل ضمانة لاستمرارها في السلطة. ومع ذلك، لا يستطيع الرئيس بوتين الترشح في الانتخابات الرئاسية مارس 2008، لأن الدستور الروسي يقضي بتولي بوتين فترتي رئاسة متعقبتين فقط.غير أن أمام بوتين خيارات عدة للبقاء في السلطةأو الاحتفاظ بنفوذ سياسي في مرحله ما بعد الاقتراع الرئاسي المقبل الذي لا يمكن الترشح خلاله. و فيما يلي السيناريوهات الأساسية:إعاده انتخابه رئيساً: ثمة ثلاثة احتمالات: 1-يمكنه الترشح عام 2012 بما أن ترشحه لولاية ثالثة مباشرة عقب ولايتهة الثانية غير ممكن دستوريًا. 2- يستقيل الرئيس المنتخب في شهر مارس المقبل لأسباب صحية، فتتم الدعوة لانتخابات جديدة تتيح لبوتين الترشح. 3- يستقيل بوتين قبل مارس المقبل و يعين رئيساً آخر بالوكالة و يترشح من جديد، وفي هذا مخالفة لروح ا لدستور. في نطاق المحافظة على صورته أمام الغرب الذي يتهم نظامه بالتسلط، اختلق بوتين مصطلحات مثل «السلطة الشاغورية»و «ديكتاتورية القانون»أو «الديمقراطية السيادية».