المؤسسات الدولية المعنية بعالم المال والأعمال والاقتصاد والمؤسسات تقوم اقتصاديات الدول ونموها الاقتصادي والاجتماعي وفق تقويم جملة من المؤشرات المعتمدة من طرف خبراء الاقتصاد الليبرالي. إعداد هذه المؤشرات يخضع لقواعد ومعادلات حسابية أو محاسبية أو إحصائية في غالب الأحيان جافة ولا تعبر تعبيرا حقيقيا عن واقع اجتماعي ويومي لحياة الناس. من ذلك يمكن أن نسجل أرقاما هامة ومحترمة في مستوى النمو وتطورا ملحوظا لكل المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية ومع ذلك لا نلاحظ انعكاس ذلك على مستوى الحياة اليومية للمواطن من الشرائح الوسطى و"السفلى". ذلك لأن بعض هذه المؤشرات مجرد معدلات تجمع طرفي المعادلة وهي في الغالب محل نقد وانتقاد من طرف الحركات النقابية والاجتماعية والقوى التي تتبنى خيار العدالة الاجتماعية والتوزيع العادل للثروة. من ضمن هذه المؤشرات يمكن التركيز على: v الدخل الفردي: وهو مجموع الدخل العام مقسم على مجموع السكان. فهذا المؤشر لا يأخذ في عين الاعتبار مستوى العدالة وتساوي الفرص في التوزيع وبذلك يمكن أن نقع في القاعدة الشهيرة 20/100 من الشعب تتوفر على 80/100 من الدخل. تطور الدخل الفردي وتطور القدرة الشرائية هي أيضا مؤشرات يمكن أن تخضع لنفس الفهم والتقييم أي انه يمكن أن تستفيد الشرائح المترفهة من تطور مؤشر القدرة الشرائية في حين تتراجع هذه القدرة لدى الشرائح السفلى والمتوسطة من المجتمع. هذا الموضوع محل نقاش وجدل واختلاف ليس في تونس وحدها بل في كل الدول بما في ذلك الدول الغنية والتي مكنت الغالبية العظمى من مواطنيها من إشباع الحاجات الأساسية في العيش. v الطبقة الوسطي: لا يوجد تعريف أكاديمي أو موحد حسب علمنا للطبقة الوسطى أو لتصنيف المجتمع إلى طبقات وشرائح اجتماعية ، بل إن الأمر يخضع للاجتهاد داخل كل دولة وحسب كل مجتمع وحسب مستوى العيش في هذا البلد أو ذاك. ففي فرنسا مثلا يعتبر فقيرا كل مواطن يكون دخله الشهري اقل من 1200اوروأي ما يقارب 15000 أورو في السنة وهو ما يعادل 26000 دينارا تونسيا في السنة تقريبا. أما الطبقة الوسطى فتشمل ذوي الدخل الفردي الشهري المتراوح بين 1200 و3000 يورو أي ما يعادل 63000 دينارا تونسيا تقريبا. في تونس، ومن خلال استبيان قام به المعهد الوطني للإحصاء بناءا على معطيات الاستهلاك سنة 2005 ووقع الإعلان عنه في ندوة صحفية عقدها السيد وزير التنمية والتعاون الدولي في شهر جويلية2007، تبين أن 3.8/100 من المجتمع تحت خط الفقر أي ما يساوي ألف مواطن376 كما أن 747 ألف مواطن يعتبرون أغنياء أي بنسبة 7.4/100. أما الطبقة أو الشريحة الوسطى فهي تمثل 81.1/100 من مجموع السكان أي 8135 إلف مواطن أما ما تبقى وتعداده 777 ألف مواطن أي نسبة 7.7/100 فهم من الفقراء. لقد أصبحت هذه المعطيات مرجعا لكل خطابات الحكومة ووسيلة للإقناع لديها بان الخيارات الاقتصادية المتبعة قد مكنت من خلق طبقة وسطى بل ساعدت على توسعها حيث أنها تحولت من 71/100 سنة 1995 إلى 78/100 سنة 2000 حتى وصلت 81/100 من مجموع السكان سنة 2005 . لقد أكدنا أكثر من مرة أن الطبقة الوسطى تمثل ضمانا حقيقيا لتماسك المجتمع وطالبنا بضرورة الحفاظ عليها وتوسيعها من خلال تحسين القدرة الشرائية والتحكم في مديونية الأسرة، غير أننا لم ندخل في عمليات حسابية لتحديد مستوى الاستهلاك وربطه بتقسيم شرائح المجتمع. فما هي المعايير التي اعتمدها خبراء المعهد الوطني للإحصاء للوصول إلى هذه النتيجة 1- اعتبرت الدراسة تحت خط الفقر كل فرد من المجتمع يكون استهلاكه السنوي اقل من 400 دينارا أي أن استهلاكه اليومي اقل من 1.1 دينارا أو ما يعادل لترا من الحليب ورغيفا من الخبز. إذا قمنا بعملية مقارنة بسيطة فسنجد أن خط الفقر قي فرنسا يتجاوز مثيله في تونس ب65 مرة ولا يمكن تصور غلاء المعيشة في فرنسا 65 مقارنة بمثيلها في تونس. الدراسة اعتمدت الاستهلاك الفردي وعدد الحريرات لكل فرد وكأن الإنسان لا يعيش إلا بما يأكله فلا لباس ولا نقل ولا سكن ولا تعليم ولا ثقافة. 2- الشريحة التي تنفق أكثر من 4000 دينارا سنويا اعتبرت من شريحة الميسورين (حتى لا نستعمل مصطلح أغنياء). وبعملية حسابية بسيطة يعتبر ميسورا كل فرد ينفق في اليوم 11 دينارا. إن أي موظف أو عامل يتقاضى 400 دينارا شهريا مثلا وهو أعزب ولا يعيل أحدا غير نفسه يعتبر في استنتاج الدراسة المذكورة ميسورا أو غنيا. الحقيقة اكتشفت أنني غنيا جدا بدون أن اعلم وهذه نعمة من المولى. ارحمونا يا خبراء المعهد الوطني للإحصاء. 3– الطبقة الوسطى هي الشريحة التي ينفق الفرد فيها ما بين 585 دينارا إلى 4000 دينارا سنويا. أي انه ووفق هذه الأرقام يعتبر من الطبقة الوسطى كل صاحب أسرة متكونة من ثلاث أفراد و يتقاضى الآجر الأدنى الصناعي لان إنفاق كل فرد من هذه الأسرة يتجاوز بكثير مستوى 585 دينارا سنويا. لقد سبق أن بينا في مقالة حول مستوى الفقر نشرناها على صفحات هذه الجريدة ومن خلال دراسة قامت بها جهات مختصة بان تعديل مستوى الفقر بدولار ليصبح دولارين عوضا عن دولار واحد معتمد الآن يحول عدد الفقراء في الوطن العربي إلى حدود 35/100 عوضا عن 10/100 المعتمدة ألان. لو طبقنا ما يشابه هذه الدراسة على استنتاج المعهد الوطني للإحصاء لكان مستوى خط الفقر قي تونس في حدود31/100 لأنه سيشمل الشريحة التي تنفق 955 دينارا سنويا تقريبا. من حق الحكومة أن تقول ما تريد وتستنتج ما تراه صالحا مما قام به الخبراء في معهد الإحصاء ولكن من حقنا أن نقول لها إن هذه الأرقام والتصنيفات بعيدة كل البعد عن واقع الحياة في تونس وهي أرقام تعتني بمعدلات لا تتساوى فيها الناس من المدن الكبرى إلى القرى والأرياف وكل ألاماكن والشرائح في المجتمع. أننا لا نشكك في الأرقام ومدى صحتها ولكنا نناقش الاستنتاجات المستخرجة منها. إذا كان هذا التصنيف معد خصيصا للاستهلاك والاستعمال الخارجي فإننا لا نتصور أن المنظمات والمؤسسات الدولية المعنية ستأخذه على حاله وبدون تدقيق وتمحيص بل أننا على يقين من قدرة البعض منها على إعداد معطياتها الخاصة بالاقتصاد الوطني واقتصاديات كل الدول المتعاملة معها وقد سبق وأن اعتمدت منظمة الشفافية مثلا على وسائلها الخاصة لتقييم مستوى الفساد في العالم. إما إذا كانت هذه المعطيات معدة للاستعمال الداخلي وللخطاب الشعبوي فلتسمح لنا الحكومة بتذكيرها بما جاء في بيان السابع من نوفمبر من أن الشعب التونسي قد بلغ من الوعي والتطور شوطا . ان تحديد الطبقة الوسطى لا بد أن بأخذ في الاعتبار الدخل الفردي والاستهلاك ولكن وفق متطلبات الحياة عامة ولبس جزءا منها متعلق بالأكل وحده. إننا لا نريد أن نصنف المجتمع ولا أن نقوم بمقارنات قد لا تصح ولكنا على يقين أن استهلاك 4000 دينارا في السنة للفرد أمر أكثر من عادي وفق متطلبات الحياة ومستلزمات العيش. سيكون جيدا أن تعاد هذه الدراسة من طرف خبراء وأساتذة جامعيون وأطراف مستقلة عن الإدارة وخارج التأثير المباشر للحكومة وأجندتها وبرامجها وخطابها. يومها ستكون الاستنتاجات مغايرة تماما. إننا في حاجة لطبقة وسطي فعلاقوية ومتماسكة تمثل ضمانة حقيقية للمجتمع ولكن ليس وفق التصنيف الوارد في استبيان المعهد الوطني للإحصاء المذكور .