لا شك أن أطرافا كثيرة مستفيدة من غياب بوتو عن الساحة السياسية الباكستانية. ولكن بمد النظر قليلا، ولو لعدة سنتيمترات، وبدون مبالغة، فجميع الأطراف تقريبا مستفيدة من القضاء عليها، وإنهاء أسطورة أسرة بوتو ليس فقط من باكستان، بل ومن المنطقة كلها. وبكلمات أخرى يمكن أن نتأكد من أن مقتل السيدة الباكستانية ضاع بين "إعلان" براءة الجميع بأكليشيهات الاستنكار السياسي، وتبرير الأوهام الأمنية-السياسية ببقاء برويز مشرف في السلطة. السيدة بوتو عادت من منفاها في الإمارات على معادلة توازن ترضي جميع الأطراف، سواء الأطراف الواضحة والمشاركة في العملية السياسية المحلية، أو الأطراف المحركة لخيوط اللعبة من وراء المحيط، ومن وراء الحدود القريبة من باكستان أيضا. وتصريحاتها بتنظيف البلاد من الإسلاميين تمثل وجها آخر لتصريحات مشابهة بإمكانية التعاون المباشر مع الولاياتالمتحدة-رائدة مكافحة الإرهاب في العالم. والتعاون المباشر هنا مع واشنطن يعني كل شيء، بما في ذلك إمكانية التواجد الفعلي لقوات أمريكية في باكستان، وهو ما خففت منه بعد ذلك في تصريحاتها. "الجنرال" مشرف قبل بعودة المنافسة السياسية القوية بوتو، وبدا الأمر وكأنه ضغوط سياسية من الحليف الاستراتيجي الأمريكي، ومن الغرب عموما. وبعد ذلك خلع السترة العسكرية لنفس الأسباب، مع الاحتفاظ بمفاتيح الحقيبة النووية التي تقض مضاجع الجميع بلا استثناء. السترة (قميص عثمان) حلت مشكلة مشرف السياسية-الدستورية، ومنحته شرعية كاملة مثل الانتخابات الرئاسية بالضبط. هذا في الوقت الذي بدأت فيه بوتو تغازل نواز شريف، أو العكس. ويبدو أن العامل الإسلامي هو العنصر المشترك بين مشرف وبوتو وشريف. فالأول، يناضل ضد الإرهاب وسط احتجاجات أمريكية-غربية بعدم كفاية هذا النضال. والثانية، عادت بوعيد وتهديد للإسلاميين وخلفها ملايين من حزبها ومن البسطاء الذين يرغبون في الحصول على قوت أولادهم اليومي بالكاد في دولة نووية فقيرة فعلا. والثالث، مركز معادلة تجري صياغتها لإعادته إلى باكستان على خلفية (وهم) بإمكانية تحالف مع الثانية للإطاحة بمشرف. غير أن الأهم من كل ذلك، والعنصر الإضافي المكمل للمعادلة السياسية-الأمنية الداخلية في باكستان، هو الوضع الاجتماعي والمعيشي المتدني للشعب الباكستاني الذي دفعه للتعاطف مع الإسلاميين بكل ألوان أطيافهم ليس عشقا في ما يدعون إليه بقدر رغبتهم في الآلة السياسية التي تقودهم إلى حيث لا يدرون. والأمر هنا ينسحب على الجميع. أقصد على جميع أعضاء الأحزاب التي تناصر أو تعارض برويز مشرف، وعلى المواطنين غير الحزبيين أيضا. التساؤلات التي تبدو ساذجة قد تلقي بصيصا من الضوء على تلك المعادلة التي تبدو بدورها بسيطة. لماذا تزايدت في الفترة الأخيرة الاتهامات الأمريكية لمشرف بأنه لا يكافح الإرهاب في باكستان بما فيه الكفاية؟ ولماذا انشغل الغرب بسترة مشرف بعد أحداث الجامع الأحمر مباشرة؟ لماذا عادت بوتو في هذا التوقيت بالذات، بين الأحداث وبين خلع السترة؟ ولماذا أسرفت كثيرا في تصريحاتها ضد الإسلاميين؟ من أجل سحب البساط من تحت أقدام مشرف، ومغازلة الأمريكيين من جهة أخرى؟ هل كانت بوتو تتصور أنها ستكون بديلا لمشرف، ليس طبعا في باكستان، وإنما لدى الباب العالي في واشنطن؟ الاغتيالات السياسية تستوجب عادة الاستنكار والشجب والمطالبة بالقصاص. هذا ما حصل بالضبط. ولكن يبدو أن الاحتفالات بأعياد رأس السنة في الغرب ستكون شبيهة بخلع سترة مشرف العسكرية بعد أحداث الجامع الأحمر. وقد يعود نواز شريف إلى الساحة السياسية الباكستانية قريبا بقوة وفق معادلة "ترضي الجميع"، وإن كانت بمتغيرات مختلفة قليلا لينشغل الجميع بمستجدات الأوضاع. من المدهش أن حدة الكلام خفتت، في الفترة الأخيرة، عن أسامة بن لادن وتنظيم "القاعدة" وطالبان. وبمقتل السيدة بوتو ستظهر بيانات وشرائط وإعلانات سياسية. قد تعلن مجموعات مجهولة إعلاميا مسؤوليتها عن الاغتيال، ومن الممكن أن تتجه أصابع الاتهام إلى مجموعات استخباراتية داخل أجهزة استخبارات، وليس أجهزة استخبارات بالكامل، داخل دول بعينها. وليس من المستبعد أن يلقى القبض على عناصر مشتبه بها داخل أو خارج باكستان، أو في أفغانستان المجاورة. سيتم تجريب جميع التكنولوجيات الأمنية والسياسية لانتشال مشرف من أزمته، بما في ذلك طرح كل الفرضيات التي تدينه وفقا للمنطق المعكوس. الرئيس الباكستاني الجنرال برويز مشرف يمثل الضمانة الحقيقية لا لتوافق الشعب الباكستاني، بل للحفاظ على أمن جميع من يخشون من أسلحة باكستان النووية. كل المؤشرات تتجه نحو دعم هذه الشخصية، وفقا لكل تكنولوجيات الدعاية السياسية، للبقاء في السلطة والاحتفاظ بمفاتيح الحقيبة التي تثير الرعب لدى أطراف عديدة، وخاصة بعد شائعة ما يسمى ب "القنبلة النووية الإسلامية". ومع ذلك فالرجل أصبح هدف الاتهام الأول، ما يحوله-شئنا أم لم نشأ- إلى شخصية مطيعة تبحث عن تحالفات مع أي طرف. ولكن إذا توخينا الدقة، فمصير برويز مشرف السياسي ارتبط تلقائيا بوجود السيدة بوتو على قيد الحياة، سواء في المنفى أو بعد عودتها. قد لا تكون الأطراف الدولية التي صاغت المعادلة راغبة في ذلك، ولكنها ساهمت بدرجة أو بأخرى في ربط المصيرين أحدهما بالآخر: المصير السياسي، وحياة الاثنين أيضا.