اختار اليوم، السيد عبد العزيز القطاري مستشار خبير ، عمليات التجارة الدولية ، والتقاضي الجمركي أن يكتب لكم مقالا حول مسألة مكانة النهضة كحامل لواء للإسلام السياسي في تونس. وفي ما يلي نسوق لكم المقال الذي كتبه كما ورد علينا: ما سأسرده فيما يلي من أحداث لا يمثل تأريخا للحركة، وحاشى أن أدّعي ذلك لغياب المؤهلات العلمية لديّ لتعاطي علم التاريخ ولعدم اطّلاعي على كثير من أدبيات الحركة الدّاخلية بالنّظر لطبيعتها التي غلبت عليها السّرية، بقدر ما هو شهادة ذاتيّة مني على وقائع وأحداث عشتها من داخل الحياة التلمذية والجامعية والمهنية والإجتماعية اليومية منذ بداية السبعينات إلى اليوم بالتّوازي مع نشأة الحركة ونموّها بتشجيع من بعض رموز النظام في السبعينات، مرورا إلى منعها واضطهاد قياداتها ومناضليها منذ الثمانينات، انتهاء بوصولها للسلطة بعد الثورة واستبدادها بها، وهي أحداث بدأت أطوارها عندما أتممت المرحلة الأولى من التعليم الثانوي بمعهد مكثر في صائفة 1973 وتم توجيهي إلى شعبة العلوم الإقتصادية بمعهد الكاف أين تعرفت على مجموعة من الشباب الذي كانوا في نفس سنّي ويتردّدون على المسجد الذي تمّ إنشاؤه حديثا بالمعهد. لم أكن آنذاك في وضعية تسمح لي بتصور ما كان يخفيه إنشاء ذلك المسجد من توافق سياسي بين قيادة الحزب الإشتراكي الدستوري الحاكم وبين قيادة ما كان يُسمّى آنذاك ب”الجماعة الإسلامية” التي اعتبرها مفكّرو النظام آنذاك حليفا طبيعيا لهم ورافدا يمينيّا في مواجهة عدوّهم الإيديولوجي المشترك: اليسار، بما يُظهِر أن التوافق الذي أُبرِم ذات صائفة من سنة 2013 في باريس قبل الإنتخابات بأكثر من سنة لم يكن الأول من نوعه بين ذراعي اليمين التقليديين في تونس: الدساترة والإخوان. وقد تمّ بموجب ذلك إنشاء المساجد في المعاهد، وفتح أبوابها لدعاة الجماعة، وتجميع التلاميذ عشيات الجمعة بعد الصّلاة لإجبارهم على مواكبة المحاضرات، وتمّ تسخيربعض القيمين لرعاية نشاطها، وتحويل وجهة دروس التربية الإسلامية إلى حصص دعوية، وما إلى ذلك من ممارسات تهدف في عقول من أرسوها إلى الوقوف في وجه الفكر اليساري الذي هيمن على الحياة السياسية والجامعية في نهاية الستينات. إذن، كان من الطّبيعي أن أستجيب للواعز الديني الطبيعي الذي تلقيته ضمن تربيتي العائلية والوسط المحافظ نسبيا الذي أتيت منه، وأن أكون من ضمن الرّواد الأوائل لذلك المسجد، أول القادمين عند صلاة الفجر، وآخر المغادرين بعد صلوات المساء، أستمع إلى الدعاة والخطباء، وأنهل بين صلاة وأخرى من كتب حسن البنا وسيد قطب التي تملأ الرفوف على حيطان المسجد وتغطي السجّادات، في متناول اليد، وأواكب المحاضرات التي كان يلقيها ناشطون أصبحوا اليوم قادة تاريخيّين للحركة ، وأشارك في الرحلات التي ينظّمها لنا الجماعة – بمباركة من إدارة المعهد – إلى تونس العاصمة أين كنّا نلتقي بتلاميذ آخرين من جميع أنحاء البلاد وبالطّلبة المؤطّرين وذلك في مسجد الحي الجامعي برأس الطّابية، أملي في ذلك أن أكون من ضمن أولئك الشباب البررة الذين يهدفون بكل فخر واعتزاز إلى رفع راية “الإسلام المبني على العدل بين الناس ورفع الظلم عنهم ودحر أعدائهم، عن طريق تطبيق الشريعة الإسلامية على المجتمع وإقامة دولة الإسلام كدين عقيدة وعبادة، وكوطن وجنسية، دين ودولة، روحانية ومصحف وسيف”، طبقا لما كنت أقرأه في رسائل الإمام الشهيد حسن البنّا. وبمرور الأسابيع تطور الأمر حيث تحولنا من مجموعات تلاميذ جمعتهم الصداقة وألّف بينهم الواعز الدّيني إلى أعضاء في تنطيم يتم تسييره بإحكام، من طرف قيادات عليا أصبحت متغيّبة شيئا فشيئا، يفصلنا عنها مجموعة من القيادات الوسيطة التي تبلّغنا التعليمات، إلى أن صرت عنصرا طيّعا، وقطعة غيار في مكينة عملاقة مهيمنة، بلا دور غير ما يتفضل به علينا هؤلاء، ممنوع من التفكير ومن مناقشة المواضيع، بما ولّد لديّ شعورا بالإختناق لم أعتد عليه، مضادّا تماما لما كنت أراه أنه حرّية شخصية. في الأثناء، كنت كثيرالتردّد على المكتبة العمومية “غرة جوان” بالكاف، ألتهم الكتب بشراهة، لا أكاد أنتهي من كاتب حتى أمر إلى الآخر، من جرجي زيدان إلى أبي الفرج الإصبهاني، ومن توفيق الحكيم إلى نجيب محفوظ، ومن يوسف السباعي إلى إحسان عبدالقدّوس، كتب أدخلتني إلى عوالم خيالية لم تكن تدور بخلدي، عوالم انتشار الإسلام وما صاحبه من مغامرات وقصص غرام برواية جرجي زيدان، عوالم الشعر والغناء ومجالس الطرب والخمريات برواية أبي الفرج، عوالم مصر الأربعينات والقاهرة وأزقتها وتقلبات سكانها كما يصوّرها محفوظ، عوالم أغوار النفس البشرية بما فيها من سقطات وشهوات برواية عبدالقدّوس… كما انخرطت في عدّة نوادي ثقافية ، نادي الموسيقى ونادي اللغة الفرنسية ونادي اللغة الأنقليزية ونادي السينما، ينشطها عشيات الجمعة وصباحات الأحد أساتذة أفذاذ ساهموا في فتح الأفق الفكري أمامي، ومكّنوا التلاميذ من تنمية الفكر النقدي لديهم من خلال مشاهدة أفلام دخلت تاريخ السينما مثل زوربا اليوناني و Z والإعتراف…وغيرها، ومناقشة مضامينها مع التطرّق إلى مواضيع سينمائية تقنية بحتة مثل اختيار الممثلين والإخراج وهندسة الأضواء والأصوات والديالوغ والموسيقى التصورية، دون أن أنسى دسامة البرامج الدّراسية، خاصة منها مادة التاريخ وما تظمّنته من فصول مطوّلة حول النهضة الأوروبية وفلاسفة الأنوار، ومادة الفرنسية وما يتخلّلها من حصص مطالعة لكتب مثلت منعرجا حاسما في نظرتي للمجتمع، كتب أذكر منها خاصة كتاب GERMINAL للكاتب Emile ZOLA وكتاب 325000 francs للكاتب Roger VAILLAND، وهما كتابان يتعرّضان بطريقة قصصيّة للمسألة العمّالية وضروف استغلال العملة سواء داخل أمعاء مناجم الفحم نهاية القرن 19 أو في المصانع العصرية أواسط القرن العشرين. وقد تكلّل هذا المسار بدروس الفلسفة التي تلقيتها في السنة السابعة (1976-1977) على يد الأستاذ الفذ م. الزعفوري في أول سنة تم فيها تجربة تعريب مادّة الفلسفة. وهنا وجب عليّ أن أتعرّض إلى مسألة سياسة تعريب التعليم التي اتخذها النظام آنذاك ذريعة بصفتها مطلبا وطنيا ولبنة لازمة في بناء صرح الهوية التونسية، فقام بتعريب جزئي ومبتور، كانت الغاية الحقيقية التي تكمن وراءه تغيير محتوى البرامج خاصة برنامجي الفلسفة والتاريخ عن طريق تنقيتهما من كل الأفكار النقدية والتنويرية التي تحتويها وتحجيم الحصص الخاصة بفلاسفة الأنوار أو بفلاسفة الفكر اليساري، إلى أن جعلوا من مادة الفلسفة اليوم مادة نمطية يتم تدريسها طبقا للضوابط والقيود التي حدّدوها لها، ويتم الإمتحان وإسناد العدد فيها بطريقة مقننة مثل أي مادّة أخرى. غير أن أستاذنا الجليل تمكّن آنذاك من تجنّب هذه الفخاخ ومكّننا من الولوج إلى هذ العالم المليئ أكثر بالفكر والنقد والتساؤل منه باليقين والإيمان، لأن معالم المؤامرة لم تكن اتّضحت بعد. خلاصة القول، انتهى بي الأمر إلى الإنسلاخ عن عالم التنظيم الدّيني المبني على التحجّر الفكري، وغياب النقد والمبادرة، وتكريس الطّاعة العمياء لتعليمات الجماعة، وولجت في عالم التحليق في الحرّية والشّك والدّهشة، عالم أصبحت آفاقه أرحب بعد حصولي على الباكالوريا وقدومي للجامعة أين واصلت دراستي منكبّا على مواصلة القراءة بنفس الشّراهة بتشجيع من أساتذتي الذين أذكر منهم بالخصوص أستاذي ت.الماجري الذي فتّح أعيننا على مؤسّسي المدرسة الكلاسيكية في الإقتصاد والأعمال، خاصة منهم آدم سميث، ديفيد ريكاردو ,ومالثوس، ودجون ستيوارت ميل، والمجدّدين مثل فورد وكاينس، وأستاذي أ.بن حمّودة الذي لقّننا مبادئ الأنثروبولوجيا الحديثة في علاقة بتاريخ المجموعات البشرية وبالتنظيم الإجتماعي للإقتصاد، بالإعتماد على مؤلّفات ومراجع قيّمة وخاصة منها الانثروبولوجيا البنيوية لكلود ليفي ستروس، إضافة إلى قراءات خاصة حسب ما يتوفّر من كتب كنّا نتداولها، مثل كتاب رأس المال لماركس الذي لم نكن نفهم منه الكثير نظرا لتعقّد بنائه ولاعتماده على تعقيدات الحساب المجمّع (calcul intégral) الذي لم أكن أتقنه، وخاصة كتاب أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة لفريديريك أنجلس. بالتّوازي، كنّا نتردّد على الحفلات التي دأب على إحيائها مجموعات وفنانون ممّن اصطلح على تسميتهم بالملتزمين، من أبناء المناجم والبحث الموسيقي والحمائم البيض…إلى الهادي قلّة وحمّادي العجيمي ومحمّد بحر…وغيرهم، نسمع فنّهم الذي يحاصره النّظام من جهة ولكن تبرمجه بعض دور الثقافة وبعض المبيتات الجامعية، لأن مديريها كانوا يتبنّون الفكر التّحرري،. كما كنّا نستمع لأغاني مارسال خليفة والشيخ إمام المنوعة هي الأخرى والتي كنّا نتبادل أشرطتها في الخفاء. والغريب في الأمر أن المنشط حبيب بلعيد كان يمرّر تلك الأغاني على أمواخ إذاعة تونس 2 رغم منع بثّها، ربّما لأن المسئولين لا يعيرون أهمّية لما تبثه تلك الإذاعة التي كانت تعتبر إذاعة المائعين. ومثلما خطّط له الجماعة، لم أكن وأصدقائي الوحيدين الذين قدموا للجامعة، فقد قدم معي وقبلي وبعدي مئات ثم آلاف من الشباب الذين تم حشدهم وتعبئتهم وحتّى تدريبهم على فنون القتال خلال سنوات التعليم الثانوي والذين أصبحوا جاهزين ل”تخليص” الجامعة ثم المجتمع من “جرثومة” اليسار وعناصره “الصّائدة في الماء العكر” حسب التّعبير السّائد، عن طريق نشر الفكر الإخواني، وبعث تنظيم نقابي مناهض للإتحاد العام لطلبة تونس المنظمة الطّلابية التاريخية التي ساهمت في الحركة الوطنية والتي سارع النظام وقيادة الحزب الحاكم لتفجيرها بعد عجزهم على احتوائها، وذلك عن طريق الإنقلاب على مؤتمر قربة صائفة 1971 باستعمال عنف الميلشيات والشرطة، ما تسبّب في تأجيج الحركة النقابية الطّلابية وما صاحبها من أعمال احتجاجية جابهتها السلطة بردة فعل قمعية منقطعة النظير حيث ناهز عدد الطّلبة (والتلاميذ) الموقوفين في أحداث 7 فيفري 1972 الألف معتقل. ” من أعان ظالما سلطه الله عليه ” حديث نبوي شريف لكن ما ذهب عن خلد النظام والحزب آنذاك وما غاب عن حساباتهم، هو أنك وإن كنت قادرا على تشجيع بعث تنظيم سياسي أصولي لقضاء مآرب آنية ضيّقة، فإنك نسيت أن مثل تلك التنظيمات تحمل في جيناتها أدبيات العنف الشرعي المتمثل في الجهاد، ومعاداة الدّولة الوطنية مثلما أشرت لذلك سابقا بما هي عقبة لتحقيق الدّولة الدّينية الإسلامية العابرة للحدود والشعوب، وأنّها ستمارس التّواطؤ في البداية، وحين تكبر ويشتدّ عودها، أوّل ما ستفعله هو استهداف الطّرف الذي كان سببا في إنشائها لأنّه يمثّل بالنسبة لها الدّولة القطريّة العدوّة التي يجب الإنقضاض عليها وتقويض أركانها في سبيل انصهارها في مشروع الخلافة الدّينية الكبير، وكل ذلك موجود في جميع أدبيات الحركة قبل الثّورة وبعدها. وقد كان الموقف الواهم للنّظام آنذاك بشأن الجماعة يشبه تماما موقف علاء الدّين عندما أخرج ذلك القمقم المختوم بالرّصاص من البحر وجعل يحكّ الختم إلى أن فكّه فخرج منه دخان “سرعان ما انتفض فصار عفريتًا رأسه في السحاب ورجلاه في التراب برأس كالقبة وأيدي كالمداري ورجلين كالصواري، وفم كالمغارة، وأسنان كالحجارة، ومناخير كالإبريق، وعينين كالسراجين، أشعث أغبر”. ولئن تمكّن علاء الدّين بفضل حيلته وبعون من الله من إرجاع العفريت إلى القمقم، فإنّ جميع من راهنوا على توظيف الإسلام السّياسي في حساباتهم الساسية الدّاخلية أو الخارجية لم يلبثوا أن اكتووْا بناره، كذلك كان الشّأن في مصر مع تنظيم الإخوان المسلمين، وفي أمريكا وتوابعها الغربية والشرق-أوسطيّة مع طالبان والقاعدة وداعش والنصرة وأنصار الشّريعة وغيرها من التّنظيمات المتطرّفة، وكذلك كان الشأن في الصومال مع تنطيم الشّباب، وكذلك كان الشأن في الجزائر مع جبهة الإنقاذ الإسلامي ومشتقّاتها، وكذلك كان الشأن في نيجيريا مع بوكو حرام،وكذلك كان الشّأن في مالي والنيجر وجميع بلدان الجوار مع AQMI، وهكذا دواليك، كلّما ظننّا أن دولة اتّعضت من تجربة المراهنة على تنظيم متطرف بعد اكتوائها بناره، إلّا وبادرت دولة أخرى بتفعيل تنطيم متطرف آخرسرعان ما تكتوي هي وغيرها بناره، في تحالف متواتر ومتواصل بين اليمينين: رأس المال العالمي القذر الذي يحكم سيطرته على وسائل الإنتاج لاستعباد البشرية، والحركات التي تتّخذ من الدين أصلا تجاريّا للسيطرة على العقول وبالتّالي على الخيرات. ولم تحد تونس على هذه القاعدة، حيث ما إن تنظّم الجماعةُ، واشتدّ عودهم داخل الجامعة وفي الأحياء الشّعبية مستغلّين في ذلك جيوب الفقر والجهل التي خلّفتها السياسة الّليبرالية المتوحّشة التي اعتمدها النّظام خلال عشرية السبعينات، حتّى وجّهوا لهيب العنف السياسي نحو الدّولة التي رعتهم، بعد أن كانت وجّهتها في الأول نحو قوى “اليسار العلماني الكافر”. عندها أحسّ النّظام بالخطر الدّاهم الذي يتهدّد أركانه، فتحرّك لات لم يعد ينفع التحرّك، مستخدما آليّات القمع البوليسي والقضائي التي لم تكن أقلّ وحشيّة من الآليات التي تستخدمها الجماعة، مع فارق في الإمكانيات. ولكن فارق الإمكانيات، ولئن أحدث أحيانا الفارق على الميدان، فإنّه لم يكن كفيلا بدحر الخطر نهائيّا، لأن جميع شُرَط العالم وجيوشه وأسلحته قد تقدر على دحر أعتى الجيوش لكنها لا تستطيع اجتثاث الإرهاب تماما من حيث أن الإرهاب ليس شيئا ملموسا تقتله رصاصة أو قذيفة أو قنبلة، وإنّما هو فكر مجرّد، يتسلل إلى عقول الشباب في العالم عن طريق وسائل الدعوة والتبشير، بالّلعب على الواعز الدّيني الفطري لديهم، وعلى نقص النضج الفكري، وعلى الفقر المتفشّي جرّاء انخرام منظومة توزيع التّنمية والنّاتج القومي الخام، وانتداب العناصر الهشّة عاطفيا ونفسيا وذلك باحتوائهم وتوفير مناخ يشعرون فيه بكرامة الإنتماء إلى المجموعة الإخوانيّة، والإغداق عليهم بسيول الأموال المتدفّقة من بلدان الخليج ومن المتبرّعين دون حساب، فيما تذهب بقية الأموال لأغراض غير معلومة، لأن تلك التنظيمات لها خاصّيات تجمعها، ومن تلك الخاصّيات الغياب التام للشّفافية في تحديد مصادر التمويل وفي مسك الحسابية وفي تحديد سبل الإنفاق وموجباته، لأن “المرشد” يتولى التصرف في بيت المال دون حسيب ولا رقيب، وهو بذلك يفرض سيطرته الكلية دون منازع على التنظيم أفرادا وأموالا وحتّى أنفسا واعراضا، حيث صاحبت السيطرة على عقول الشباب وأرواحهم سيطرة على أجساد الأخوات من خلال إرساء ممارسات المتعة الجنسية “الحلال” الزواج العرفي، بحيث يتسنى لأي من “الإخوان” إبرام نكاح ب”الأخت” التي تعجبه ولو لليلة تجمعه بها مع إمكانية فك الإرتباط من الغد أو متى شاء طبقا لما يقتضيه الشرع، مقابل التشنيع بأيّة علاقة عاطفية عادية من التي تنشأ بين شابّ وشابّة غير منتمِييْن لهم. ولغاية التّمكن، اعتمد الجماعة على أشهر الحِيَل الفقهية وما أكثرها، حِيَل مرتكزة على مبدإ الضرورات تبيح المحرّمات والتي أفضت بهم للإعتماد على التقية والكذب، وهي أفانين ابتدعها مؤسِّسهم حسن البنّا صاحب القولة الشّهيرة “ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين”، قالها بشأن إخوانه بعد تورّطهم في عدّة اغتيالات طبقا لما خطّط له، وصاحب مقولة ” إن الملك فؤاد هو «ذخر للإسلام!»” ومقولة “إن الملك فاروق «ضم القرآن إلى قلبه ومزج به روحه«” وهي مقولات لا يمكن إلّا أن تحيلنا لمقولة راشد الغنّوشي “ربّي لفوق وبن علي لوطا”، ولكن كلّ ذلك يتغيّر تماما حال تغيّر الوضع وشعور الجماعة بالقوّة والتّمكن، بناء على فكرة “حتمية الصِّدام” التي أنشأها مؤسسهم حسن البنّا، ورغم أن هذا الأخير تخلّى عنها لاحقا فإن سيّد قطب الذي أخذ عنه مشعل القيادة أعاد إحياءها، بل وطوّرها ووسّعها. فبعد أن سعى الملك فاروق إلى تقوية العلاقة مع الجماعة وأن أعلنوا ولاءهم وأملهم في “ملك مصر المسلم “، ولمّا اشتدّ عودهم، شرعوا في التفجيرات والإعتداءات، ما حدا به إلى حلّ التنظيم نهاية الأربعينات ومصادرة أملاكه، ولكن صدر حكم سنة 1951 يقضي بعدم قانونية قرار الحلّ، فعادوا للنشاط. وبعد ثورة 1952 حدث نفس الشيئ بينهم وبين عبدالنّاصر الذي بدأ بمهادنتهم إلى أن توتّرت العلاقة ودخلت في دوّامة العنف، كرّ وفرّ، استقواء فقمع، مظاهرات وتفجيرات فمحاكمات وإعدامات، وتواصل ذلك مع السّادات الذي بدأ بفكّ حبسهم وانتهى تحت رصاصهم. وقد أخذ عنهم الجماعة في تونس مبدأ حتمية الصدام تحت صيغ مختلفة لعلّ أهمَّها ما سمّوه ب”تحرير المبادرة” الذي آل إلى ما آل إليه من أعمال عنف، وسكب الحامض على النّاس، وتخريب للبلاد، وتفجيرات في النّزل أعدّ لها وأنجزها من أصبح أول رئيس حكومة بعد انتخابات 2011، وحرق لمقر الحزب الحاكم في باب سويقة وقتل لحارسيه حرقا. بعد الثورة حدث ما حدث من عودة بعضهم من المنافي وخروج آخرين من السّجون ومن السريّة – وحتّى من تحت معطف حزب التجمع الحاكم-، وواصلوا ازدواجية الخطاب (أنظر فيديو الغنوشي مع أنصار الشريعة، وفيديو مورو مع وجدي غنيم)، وازدواجية الهيكلة (قضية الجهاز السري والأمن الموازي)، وازدواجية المراجع (الشريعة والدستور)، وازدواجية المنهج العملي (السياسي والدّعوي)، وازدواجية التعليم (منتجعات تفريخ الإرهابيين تحت مُسمّى “المدارس القرآنيّة”)، في انتظار ما ستفضي إليه الأبحاث في معضلة اغتيال شكري بلعيد ومحمد البراهمي. وفي محاولة منها لتضليل خصومها وأعدائها، تبنّت حركة النهضة فى موتمرها العاشر ايام20 و 21 و22 ماى 2016 مبدأ “الفصل بين الدعوى والسياسى مع المحافظة على المرجعية الاسلامية للحزب”، دون أن تُغيّرَ حرفا واحدا في نظامها الدّاخلي بهذا الإتّجاه، وهو اختراع آخر من اختراعاتها للظّهور بمظهر الحزب المدني من جهة، مع تمسكها باتخاذ الدين أصلا تجاريّا وسعيا منها للإستثمار في الوازع الديني الفطري لدى غالبية التونسيين المسلمين من جهة أخرى، ولو كانت صادقة فيما تزعمه لأعلنت التخلّي عن استغلال كل ما هو ديني أو دعوي في مرجعياتها وممارساتها، ولنصّصت على ذلك في نظامها الدّاخلي، مع أنّ لي قناعة راسخة أنه لو اضطرّتها لذلك متطلّبات وإكراهات السّياسة مستقبلا لفعلت. أمّا اليوم، فقد أصبح التّعامل مع ما يجري من أحداث في البلاد على علاقة بموضوع حركة النهضة أمر شائك ومعقّد ويوشك أن يفضي إلى أفق مسدود لا تحمد عواقبه إذا لم تتم معالجته بأسرع الطرق وبأكثرها عقلانية وأبعدها عن الإنفعاليّة والعاطفيّة. ويكمن هذا التّعقيد في كون تلك الحركة ، على ما يمكن أن يجد فيها خصومها وأعداؤها من عيوب، أصبحت تمثّل أمرا واقعا وطنيا بفعل وجودها كحزب مرخص له، يتحوز على قوانين داخلية ومقر رسمي ومقرات فرعية وقيادات مركزية ومحلية ومناضلين ومنخرطين ومتعاطفين، وبالتّالي لا يمكن إعلانها حركة غير قانونية والتعامل معها أمنيّا وقضائيّا مثلما يطالب بذلك البعض دون توقّع المواجهة العنيفة معها، خاصّة في ضل ما يُتداول حول تحوُّزها على جهاز سرّي وجناح عسكري وما يصدر من حين لآخر عن بعض قياداتها من تهديدات بشن حرب أهلية وبدوس الخصوم وباستباحتهم. هذا من جهة. كما يكمن التّعقيد في استحالة مواصلة القبول بهذا الأمر الواقع نطرا لما يمثله من تهديد واضح للسلم في البلاد وللأمن الداخلي والخارجي ولتعارضه مع سيادة الدّولة ومع البناء الديمقراطي الذي ما انفكّت الحركة ذاتها تنادي به، على ضوء علاقتها بمواضيع شائكة مثل الإنخراط في المشروع الظلامي للتّنظيم العالمي للإخوان المسلمين المعادي لمفهوم الدّولة الوطنية بالمعنى الحداثي، وما يعنيه من ارتهان إلى الأطراف الخارجية الرّاعية له مثل بريطانيا وفرنسا والولايات المتّحدة، والمُموّلة له مثل قطر، والمُسندة له مثل تركيا، والمستفيدة منه مثل إسرائيل، والتقاطعات مع المجموعات الإرهابية المنفّذة له، وكلّ ما كان يلزمه من تغلغل في مفاصل الدّولة واختراق لأجهزتها وتفخيخ لآليات عملها وتدجين لإطاراتها عن طريق ابتزازهم بما علق بهم من ملفّات تحوزت عليها الحركة أثناء اضطلاعها بأعلى المناصب السيادية في الدولة، وما يتداوله الجميع دون مواربة حول امتلاكها لجهاز أمني موازي مكلّف بالتّجسس على التونسيين عموما، وعلى السياسيين والخصوم خصوصا، والتّنصت على مكالماتهم وبريدهم ومتابعة أنشطتهم سواء في الحياة اليومية أو في المجال الإفتراضي وتكوين ملفّات لهم، وتنفيذ القرارات المتّخذة في شأنهم، وهو متّهم من طرف خصومه (وحتّى “المتوافقين” معه) في الضلوع في الإغتيالات السياسية، أو على الأقل في واحد منها. وهذا من جهة أُخرى. وتبدو هذه الوضعيّة على درجة من التّعقيد بحيث أصبح من شبه المستحيل معالجتها دون كلفة باهضة على البلاد عموما وعلى الحركة بالخصوص، لذلك أمكن التعبير عن هذه الوضعية بالعبارة الشعبية السّائدة في مثل هذه الحالات: وحلة المنجل في الڨلة (أي الجرّة)، بحيث لا مناص من الخيار بين قطع المنجل أو تهشيم الڨلة، وهما أمران أحلاهما مرّ على قول أبي فراس الحمداني. لذلك، وحسب رأيي، وجب على الجميع دون استثناء التّحلّي بكثير من الحكمة والتبصر والصبر وسعة الصّدر في التعامل مع هذا الموضوع وإيجاد حل له خارج أخطار الإنفجار التي تتهدّده، ولكنه يتطلّب منهم جميعا، ومن قيادات وقواعد حركة النهضة بالخصوص كثيرا من الشجاعة، لأن العنف لا يتطلّب إلّا ذرّة من التّهور، بينما يتطلّب السلم محيطات من الشجاعة والصبر. وأمام هذه الوضعية التي أصبحت خطرا على وطني، وعلى شعبي، وعلى الدولة التّونسية ومكتسباتها، لم أجد بدّا من التّقدم بهذه المبادرة وعرضها على الجميع للنقاش خارج الإعتبارات الحزبية الضيقة والحسابات السياسة والإنتخابية الحينية،عساها تكون منطلقا لحل وطني تونسي لمعضلة تكاد تكون كونية: الإسلام السياسي، من خلال تصور جديد لحل سياسي: تحديد المسئوليات والإعتراف، تفكيك الجهاز الموازي، تفكيك الجناح العسكري، تسليم جميع الأسلحة للجيش الوطني، صفح من عائلات الضحايا، مصالحة وطنية، إعادة صياغة النصوص الأساسية للحركة وجعلها مطابقة تماما لمبادئ الدستور وخاصة منها علوية القانون والتخلّي عن كل مرجعية دينية. 1- تحديد المسئوليات والإعتراف: على عكس ما يمكن أن يتبادر إلى ذهن الكثير من المهتمّين وخاصّة منهم مناهضو الإسلام السياسي وخصوم النهضة، فإنّ المسئولية الحقيقيّة في نشأة وانتشار الإسلام السياسي الحديث بالمعنى الإخواني على الأقل لا تقع على الجماعات التي كانت ضمن التنظيم عند انبعاثه في مصر نهاية ثلاثينات القرن الماضي لوحدهم، بل يتحمّلها معهم وبشكل يكاد يكون متساوٍ جميع الأنظمة العربية والإسلاميّة والغربيّة التي رأت فيه في وقت من الأوقات حليفا سياسيا (وعسكريا أحيانا) ضدّ أعداء وهميّين أو حقيقيّين، داخليّين أو خارجيّين. ولكن كثير منهم ماتوا من غير الممكن ومن غير المعقول أن ننبش التّراب عليهم ومحاسبتهم، وكثير منهم موجودون في الحكم في بلدان أخرى ولا نملك إحالتهم على المحاكم التونسية أو الدولية من أجل ما افترفت أيديهم في حقّ الشعوب في العراقوالجزائروتونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن والصومالونيجيرياومالي، والقائمة تطول. غير أنّ القيادة الحاليّة للنّهضة موجودة بيننا اليوم، وهي قيادتها التّاريخية تقريبا إذا استثنينا بعض من غيّبهم الموت رحمهم الله. وجميعهم دون استثناء وبدرجات مختلفة وكل من موقعه ساهم في بناء الحركة وانخرط فيها، ومنهم من خطّط ولا يزال، ومنهم من نظّر ولا يزال، ومنهم من نفّذ ولا يزال، في سبيل تثبيت المشروع، مع ما يتطلبه من إمكانيات مالية لا يُعلم مأتاها ومآلها، ومن تضحيات جمّة وأليمة، ولكن أيضا من أعمال دعوية وانتدابات وتأطير وتدريبات، أدّت ولا تزال إلى أعمال يأباها الله والعباد، ولئن سبق لبعض القادة أن اعترف بها وللبعض أن تبنّاها ولا فائدة في العودة إليها، فإنّه لا مناص اليوم للحركة من الإعتراف بها وبمخالفتها للقانون وللدّستور الذي ساهموا في كتابته وأن تُقِرَّ رسميّا كحزب بمسئوليّتها فيها وبتحمّل نتائجها أخلاقيّا على الأقل، كخطوة أولى تقطعها باتّجاه الحلّ المنشود، على أن يتمّ ذلك أمام لجنة مصالحة وطنية متكونة من حكماء البلاد يتم اختيارهم خارج إطارات التّوافقات الحزبية المعهودة، وأقترح أن تتعهد بذلك مكونات المجتمع المدني والمنطّمات الوطنية. 2- تفكيك الجهاز الموازي، تفكيك الجناح العسكري، تسليم جميع الأسلحة للجيش الوطني: أنا لست قاضيا، وليس لي علم بما آلت إليه الأبحاث في قضيّة ما عُرف بالجهاز السري للحركة عدا ما تتدواله الشبكة وما تجزمه هيئة الدّفاع عن شكري بلعيد، وأقف مثل كثير من التّونسيين في حيرة أمام إنكار الحركة التّام تحوّزها أي جهاز سري أو جناح عسكري واتّهامها للهيئة بإرادة تشويهها وتوظيف الإغتيال سياسيا، وأمام إصرار الهيئة وما تقول أنّها حجج وبراهين تثبت امتلاك الحركة لجهاز سري على الأقل وتورّطها في اغتيال شكري بلعيد. غير أني لن أذيع سرّا إذا قلت أن قرائن امتلاك النهظة لجهاز أو جناح مكلف بتنفيذ ما تقرّره بشأن خصومها كثيرة، وأن مبادرتها بزرع إطاراتها في مفاصل الدّولة والإدارة وإسنادهم أعلى الرّتب وأخطر الخطط بهما يعد اختراقا لهما قصد تدجينهما، بل أن التصريحات المتكرّرة لقياداتها سواء في اجتماعاتهم العامة أو الخاصّة والمتظمّنة لتهديدات بالسحل وباستباحة الدّماء وبالحرب الأهليّة لا يمكن إلّا أن يصدر عن أناس يملكون الإمكانيات الّلازمة لتنفيذ تلك التّهديدات. لذلك، لا مناص من مجيئ تلك القيادات للحقّ وذلك بكشف حقيقة تلك الأجهزة أمام هيئة الحكماء القترحة وتسليم ما تملكه من أسلحة حربية أو نفسية (ملفات تستعمل للضغط والإبتزاز) إلى قوات الجيش الوطني دون مواربة. 3- الصفح من عائلات الضحايا: بعد أن تكون الحركة قد قامت بخطوتين جريئتين وعملاقتين وقد تكونان أليمتين بالإتّجاه الإيجابي، وقبل أن تبتّ المجموعة الوطنيّة في الموضوع، وجب إرجاع الأمر إلى أصحابه الأصليّين، عائلات الضّحايا، وطرح الصّلح عليهم بما يُطيِّب جراح الأمهات والآباء، ويجبر بخاطرالأزواج والأبناء، ويستفزّ حلمهم، ويسهّل عليهم الصّفح. وظنّي أنّهم لن يبخلوا بذلك حفظا للوطن، خاصّة وأن بعضهم عبّر بعد عن استعداده لذلك شريطة الإعتراف والكشف. 4-المصالحة الوطنيّة ومراجعة النصوص المرجعية للحركة: بعد أن يكون أصحاب الحق تنازلوا عن حقّهم في القصاص بناء على ما سبق طرحه، تتكفّل لجنة الحكماء بطرح عقد مصالحة وطنيّة في شكل ميثاق مدني مُلزم للجميع: مؤسسات وأحزابا وجمعيّات ومواطنين، تتولّى الحركة بموجبه مراجعة نصوصها الأساسية، يكرّس بصفة نهائية ولا رجعية مبادئ الدولة المدنية وعلوية الدستور والقانون وعدم الزّج بالدّين في الحياة السّياسية وتحييد المساجد ونبذ جميع مظاهر تجنيد الشباب وتوظيفهم والتّخلي عن الإستعانة بأي طرف أجنبي في الصّراعات السياسية الداخلية وعن كل المصادر غير القانونية لتمويل الأحزاب. 5- أو 4+1 المصالحة الوطنيّة وحل الحركة طبقا لمقتضيات المرسوم عدد 87 لسنة 2011 السّاري المفعول إبّان إسنادها التّرخيص والذي ينص في فصله الرّابع على ما يلي: يحجر على الأحزاب السياسية أن تعتمد في نظامها الأساسي أو في بياناتها أو في برامجها أو في نشاطها الدعوة إلى العنف والكراهية والتعصب والتمييز على أسس دينية أو فئوية أو جنسية أو جهوية. في نهاية هذا العمل، لا يسعني إلّا القول بأنّه عمل بشري يحتمل الكثير من الخطإ، إلا أنه عمل صادق، نابع من إرادة واضحة لحلحلة إشكال عميق وخطير سيضلّ يلقي بضلاله على الحياة العامّة في تونس، ويهدّد أمنها، ويُنغّص عيش أهلها اليومي، إذا واصل الجميع التمّسك بما يرون أنه الحقّ، دون اكتراث لما ينجر عن ذلك من عواقب وخيمة على البلاد. لذلك، على كل من يقرأه أن يتحلّى بكثير من الحلم، وأن ينبذ انتماءاته ومشاربه، قبل إبداء رأيه الذي سأقبله بكل رحابة صدر. لكن على كلّ من يرى أن هذا الحلّ المقترح غير قابل للتّطبيق، أو غير واقعي، أو لا يتطابق مع الشريعة، أو متعارض مع مبادئ الدستور، وغير ذلك من أسباب الإعتراض عليه، أن يتفضّل وينيرنا حول طريقة أخرى تحفظ ماء وجه الجميع وتجنّب البلاد حمّام الدّم الذي يعدنا به البعض.