منذ مساء أمس، تداولت بعض وسائل التّواصل الإجتماعي وحتّى وسائل الإعلام نبأ وفاة رئيس الحكومة الأسبق الحبيب الصّيد، والحال أنّ المعني بالأمر لا زال على قيد الحياة، دون التّقيد بما تقتضيه آداب المهنة والأخلاق من التروّي أو التّحري في مثل هذه الحالات، خاصة وأن الأمر يتعلّق بحياة شخص، مع هول وقع خبر موته على أهله وأحبابه، وما يخلفه من آثار سلبية على معنوياته هو شخصيّا في مقاومة المرض. وقد تعالت الأصوات هنا وهناك مندّدة بنشر هذا الخبر الزّائف وبمن سعى إلى نشره أو تداوله بكلّ سرعة. في الوقت ذاته، تتداول بكلّ إلحاح وبشيء من الفرح والشماتة بعض صفحات وحيطان فيسبوك التّابعة لأشخاص محسوبين على التّقدّمية أو على الأقل المدنية نبأ موت راشد الخريجي، وهذا الخبر يتمّ تداوله منذ أشهر، خبر يطفو على السّاحة كلما تغيّب المعني بالأمر عن المشهد الإعلامي. ولئن دأب رئيس الفرع المحلّي لتنظيم الإخوان الإجرامي والرّئيس غير الشّرعي لمجلس النواب غير الشّرعي على تجنّب أي تأكيد أو نفي رسميين للخبر من طرفه أو من طرف عائلته أو قيادة تنظيمه، مكتفيا بالظهور الإعلامي أو السياسي من حين لآخر لتفنيد هذه الأخبار، فقد كلّف نفسه هذه المرّة أخذ صور له وهو بصدد تناول فطور الصباح وأمامه نسخة من صحيفة الشّروق في عددها الصّادر يوم الجمعة 23 جويلية. كما كلّف مدير مكتبه زبير الشهودي عناء الإتّصال بإذاعة شمس ف.م لتكذيب الخبر. ومهما يكن من أمر، فإنّ تسرّع البعض إلى نشر خبر موت الغنّوشي كلّما ألمّ به طارئ صحّي أو كلّما تغيّب عن المشهد الإعلامي، دليل على الميل إلى أن يروا أملهم في موته يتحقّق، وهو أمر محيّر في حدّ ذاته، لكنّه دليل على ما وصلت إليه فئات بأكملها من الشعب من حقد على فئة بعينها عموما وعلى الشخص بالخصوص، حقد جعلهم يجانبون قواعد اللياقة والأخلاق، ويجاهرون بغبطتهم لمجرّد سماع خبر عن وفاته وإن كان غير مؤكد، متذرّعين بما أبدته قواعد وقيادات أحزاب تجارة الدّين من شماتة في شهداء الوطن، تصرّفات أبعد ما تكون عن ديننا الحنيف وعن الفكر التّقدّمي المستنير القائم على التحليل المنهجي وإعمال العقل في التعاطي مع المشاكل والأحداث وتجنب ردود الفعل البدائية والغرائزيّة. ولقد كانت قطعان تجارة الدّين والإرهاب الأسبق في الدّعوة الصّريحة إلى سفك دماء رموز الخطّ الوطني عموما والخطّ اليساري بالخصوص وإظهار الشّماتة كلّما سقط شهيد تحت رصاص الغدر والتفجير والحرق والذّبح في مرتفعات الشعانبي وعرباطة وورغة والسلوم أو في سهول الرّوحية وقبلاط أو في شورع المدن وفي المتاحف والنّزل…، وقد بلغ ذلك الحقد ذروته يوم دفن فقيد الوطن شكري بلعيد لمّا هرعت آلاف كلاب الدّم إلى محيط المقبرة وقاموا باعتداءات وحشية على الحضور وعلى سياراتهم. وقد قال بيان أصدره المكتب الإعلامي لوزارة الدّاخليّة انه جرى القبض على 230 شخصا تورطوا في أعمال النهب بوسط العاصمة وفي محيط مقبرة الجلاز حيث جرى دفن الفقيد شكري بلعيد، مضيفا أن أغلب الموقوفين تتراوح أعمارهم ما بين 16 و25 سنة كما تم حجز آلات حادة وعصي وحقائب مملوءة بالحجارة. وبينما أوضحت الوزارة أن الرقم مرشح للارتفاع بعد الانتهاء من معاينة الأشرطة المصورة واستكمال الأبحاث، وبعد مرور 8 سنوات ونصف، فإنّنا لا نعلم مآل تلك الأبحاث وإن تمّ التّحري مع الموقوفين عن الجهة التي تقف وراء الأعمال التي قاموا بها. ولو كانت السلط ممثّلة في القضاء ووزارة الدّاخلية قامت بواجبها في جلب المخطّطين والمدبّرين والمنفّذين في جميع أعمال الإغتيالات والإعتداءات على المؤسسات والمواطنين منذ عشر سنوات لما بلغ منسوب الحقد على رموز الحكم الإخواني التي تقف وراء تعطيل مرفقي العدل والأمن هذا المنسوب. وقد أجهضت تصرّفات بشير العكرمي قاضي الإرهاب وتجاوزاته في ملف شكري بلعيد وآلاف القضايا الأخرى على منسوب الثقة في هؤلاء. يبقى أن أشير إلى ثلاثة أمور على غاية من الأهمّية في نظري: أوّلها أنّه غاب عن الفرحين الشّامتين أنه قبل الخريجي مات حسن البنّا منشئ الجماعة الإرهابية للإخوان ولم تمت الجماعة، وبعد البنّا مات السيد قطب ولم تمت الجماعة، ومات العشرات من القيادات موتا طبيعيا او شنقا أو في عمليات إرهابية ولم يمت التنظيم. ثانيها هو أنه بقطع النّظر عن السقطة الأخلاقية المتمثلة في نشر أخبار زائفة بموت هذا أو ذاك، وفي الشماتة في الموت، فإنّ هناك فرقا شاسعا بين الخبرين مردّه موقع الرّجلين. فالأوّل لا يعدو أن يكون إلّا رئيس حكومة سابق في وضع تقاعد، أي أنه مواطن عادي إلى درجة ما، أمّا الثّاني فهو الرّئيس الحالي لمجلس النّواب، ومن حقّ التّونسيون أن يعرفوا ما الأمر بخصوص حالته الصّحية ومدى قدرته على ممارسة مهامّه التي هو أصلا لا يمارسها إلّا بقلة عندما يستدعي الأمر حضوره للمناورة أو التّآمر. والصّورة الرّديئة التي نشرها وهو يتظاهر بتناول فطوره ويقرأ جريدة اليوم لم تفعل غير أن زادت الشكوك التي أصبحت مشروعة لدى التّونسيين، بعلاقة مع سابقة مماثلة للرئيس قايد السبسي الذي نشر صورة له شبيهة قبل موته بثلاثة أيّأم. أمّا آخرها فهي أشمل، لأنّها على علاقة بالموت واستحضاراته في المخيّلة الشعبية وحتّى لدى كثير من النّخب لدينا على أنّه عندما يطال أقرباءنا وأحبابنا يكون مصابا جللا وفرصة للكثير للتّنافس في إظهار الحزن الفيسبوكي المبالغ فيه كمعوّض عمّا كانت تقوم به جدّاتنا من عويل ولطم ونديب، أمّا عندما يطال خصومنا أو أعداءنا فهو مناسبة للتّهليل والفرح والشّماتة، والحال أن الموت ليس إلّا آخر صفحة في كتاب الحياة سنطويها جميعا دون استثناء، نمرّ من خلالها من مرحلة الوجود إلى مرحلة العدم. فمتى يفهم الكثير أن الميّت لم يعد في حالة تسمح له برؤية حزننا عليه أو شماتتنا فيه؟ ومتى نعرف أنّ حزن أهل الميّت ليس عليه هو بل على أنفسهم وما يشعرون به من حالة الفقد؟ ومتى نفهم أن الحداد ليس محلّا للتنافس في إظهار الحزن بل أمرا شخصيا بالأساس، ثم عائليا، يجب أن نوليه ما يستحق من الوقار والكرامة إلى أن يمر ونعود لشئوننا اليومية؟ يقول الشّاعر عُديّ ابن زيد: أيها الشّامتُ المُعيِّرُ بالدهرِ أأنت المبرَّأُ الموفورُ أم لديك العهدُ الوثيقُ من الأيامِ بل أنت جاهلٌ مغرورُ من رأيتَ المنونَ خلَّدن أمْ من ذا عليه من أن يُضامَ خفيرُ غير أن الأيّام تختصُّ بالمرءِ وفيها لعمري العِظاتُ والتفكيرُ