لفتت قضية عادل الدريدي في بداية 2013 المتهم بالتحيّل وبتبييض الأموال في عمليات مشبوهة، أنظار الرأي العام إلى جريمة أكبر باتت اليوم في مقدّمة الجرائم التي تهدّد الاقتصاد الوطني وهي جريمة تبييض الأموال التي اعترف بها التشريع التونسي منذ 2003 وقام بتجريمها، هذه الجريمة التي باتت تشغل كل الأنظمة القضائية في العالم، شهدت طفرة كبيرة في تونس بعد الثورة مستغلّة في ذلك التراخي الأمني وتعثّر أجهزة الرقابة الرسمية في القيام بمهامها. واليوم باتت هذه الجريمة من أخطر الجرائم الاقتصادية التي يواجهها الاقتصاد والتي عادة ما تكون مرتبطة عضويا بجرائم أخرى لها صبغة ارهابية أو صبغة جنائية، والبنك المركزي الذي حذّر من تنامي هذه الجريمة العابرة للحدود منذ 2012، حذّر من خطر وجود شبكات و»مافيات» مختصّة في هذا النوع من الجرائم. وقد قام البنك المركزي منذ 19 سبتمبر بنشر منشور موجّه للبنوك والمؤسسات المالية ينصّص على ضرورة اتخاذ إجراءات تلزم هذه المؤسسات بتعزيز المراقبة الداخلية للتصرف في مخاطر تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، وفي ذلك اعتراف باستفحال وانتشار هذه الجريمة، كما أفردت لجنة التحاليل المالية بالبنك المركزي في تقريرها الأخير هذه الجريمة بالجزء الأكبر من أشغالها. ولم يتخلّف القضاء التونسي عن هذا الحرب التي باتت ضرورية في التصدّي لهذه الجريمة ذات الانعكاسات الخطيرة والأسباب الأخطر وتواترت احالة متهمين في مواقع مختلفة على القطب القضائي والمالي بتهمة تبييض الأموال وآخر هذه الاحالات تلك التي تمت بالأمس وأعلن عنها الناطق الرسمي باسم القطب القضائي، حيث تولّي قاضي التحقيق اصدار 9 بطاقات إيداع بالسجن وإبقاء 4 في حالة سراح من بين 20 متهما في جرائم غسل أموال وغيرها من ضمنهم اطارات بنكية وديوانيون. تبييض الأموال.. «قضايا بالجملة» بالإضافة الى التسع بطاقات بالسجن التي صدرت بالأمس في حق متهمين بجرائم غسيل أموال وتضمّ اطارات بنكية وديوانيين وفق تصريح الناطق الرسمي باسم القطب القضائي ل»وات» بالإضافة الى احالة عدد آخر من المتهمين بحالة سراح، بعد أن أذنت النيابة العمومية أوّل أمس بفتح بحث تحقيقي ضد 20 شخصا، وذلك من أجل جرائم غسل الأموال من قبل وفاق «باستعمال خصائص الوظيف والتسهيلات التي خولتها خصائص الوظيف والنشاط المهني والاجتماعي، وتكوين وفاق بقصد الاعتداء على الأملاك والانخراط فيه، وتدليس ومسك واستعمال مدلس والارتشاء والإرشاء، واستغلال موظف عمومي لصفته لتحقيق فائدة والاضرار بالإدارة، وتقليد أختام وطوابع سلطة عمومية وجرائم ديوانية»، وفق تصريح الناطق الرسمي، تم الاحتفاظ برجل الأعمال محمد الفقيه تحت الإقامة الجبرية، وذلك بمعية 12 شخصا من إطارات وموظفين ببعض الإدارات العمومية، بناء على أبحاث قامت بها إدارة الأبحاث الديوانية من أجل جرائم ديوانية وصرفية وغسل أموال. كما تم في إطار الحرب على الفساد والتهريب تفكيك شبكة في تبييض الأموال والاحتفاظ ب13 شخصا، من بينهم رجل الأعمال محمد الفقيه ومدير جهوي للتجارة ومدير مركزي ببنك خاص. ومنذ أشهر تحاول السلطات الأمنية ردع شبكات تبييض الأموال التي تمكّنت واستقوت وأصبحت عبارة عن شبكات منظّمة لها امتداد حتى في خارج البلاد، وشملت داخل البلاد شخصيات في مواقع دقيقة وحسّاسة، وتكبّد جرائم تبييض الأموال الاقتصاد الوطني خسائر كبرى. الايقاع ب«الكبار» رغم أن عادل الدريدي المتهم في بعض القضايا بتبييض الأموال والذي يعد في تونس «نموذجا « للاحتيال والتحيّل، اذ نجح في الايقاع بحوالي 52 ألف تونسي وسلبهم عن طواعية عشرات المليارات الاّ أنه لا يعدّ الوحيد، فهذه الجريمة أوقعت بمرشّح سابق للانتخابات الرئاسية وبمقدّم برامج اعلامية وبرجال أعمال وبإطارات في الدولة وبإطارات بنكية وديوانية، واليوم هناك بعض الشخصيات المعروفة مثل سليم الرياحي ممن تلاحقهم شبهات تبييض الأموال. وأمام انتشار الظاهرة لم يجد البنك المركزي الاّ الدفع نحو مزيد اليقظة والحيطة ومطالبة المؤسسات البنكية والمالية باتخاذ إجراءات يقظة وأخرى خاصة بالحرفاء والعمليات المالية وحثّ المسؤولين بهذه المؤسسات على الإعلام عن العمليات والمعاملات المشبوهة.. واتخاذ «الإجراءات الملائمة لتحديد وتقييم وفهم مخاطر تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، التي يمكن أن يتعرضوا لها، على غرار طبيعة الحرفاء والبلدان أو المناطق الجغرافية والمنتوجات والخدمات والمعاملات أو قنوات التوزيع»، وفق ما أورده منشور البنك المركزي. ويرى البنك المركزي أن هذه الإجراءات تعمل على المساعدة على مقاومة تبييض الأموال، التي رأت اللجنة التونسية للتحاليل المالية في تقريرها الأخير أن درجة خطورتها مرتفعة. حيث أكّد تقرير لجنة التحاليل المالية الأخير،أن القضايا ذات العلاقة بتبييض الأموال مثل جرائم الفساد المالي والاداري بلغت واستنادا على المعطيات التي وفّرتها الادارة الفرعية للأبحاث الاقتصادية والمالية حوالي 30 قضية في 2016 وأن جرائم الاستيلاء على أموال عمومية بلغت في نفس السنة 53 قضية في ما بلغت جريمة مسك وترويج العملة 28 قضية وبلغت جرائم تهريب الأموال حوالي 22 قضية، وقد علّقت لجنة التحاليل المالية في تقريرها أن معدّل القضايا تراجع مقارنة ب2015 باستثناء القضايا ذات الصلة بجرائم الفساد وغسل الأموال والاستيلاء على أموال الغير ومسك وترويج العملة والتهريب. وتعدّ جريمة تبييض الأموال من الجرائم «الزئبقية» التي تتطلّب مهارات وخبرات كبيرة في تعقّبها واقتفاء أثرها، وهو ما يفرض وجود كفاءات أمنية وقضائية مؤهّلة للقيام بذلك.