احتضن فضاء الأكروبوليوم بقرطاج في الفترة الأخيرة معرضا للفنان التشكيلي جورج ترنكو.. «GEORGES TRINCOT «. واشتمل المعرض على لوحات أغلبها ذات مقاسات كبيرة أخذت جلها من الجياد موضوعا لها. فلئن رسم ترنكو الطبيعة والمرأة والقطارات (البخارية) فإنه اشتهر بالخصوص بمهارته في رسم الجياد حتى تكاد تتحول اللوحة إلى برية يركض فيها الجواد بكل حرية. وعادة ما تأسر لوحات ترنكو العيون لسبب بسيط هو أن الرجل يملك تلك القدرة التي تكاد تكون سحرية في نقل هوسه بعالم الجياد إلى المتلقي... فريشة الفنان هي ريشة عاشقة، لذلك يبدو كل شيء جميل في اللوحة. ولنا أن نشير إلى أن ترنكو لا يقوم بعملية محاكاة للطبيعة وإنما هو يرسم بأدوات العاشق الذي يسعى بكل قوة إلى إظهار مواطن الجمال... وتكمن عبقرية الفنان التشكيلي في أنه استطاع أن يلتقط الحركة، فالجياد في لوحات ترنكو هي عادة ما تكون في عنفوانها تركض وتسابق الريح وتترك اثرا بالغا في نفوس كل من يتأملها لجمال الشكل ولجمال الألوان. ولا نعني فقط الدقة في رسم الخطوط والأشكال وإنما القدرة على إبراز خصال الحصان وهي القوة والأنفة والبهاء... أما على مستوى الألوان فإن ترنكو يجد متعة في تقديم عالم ملوّن ومليء بالحياة. فاللوحة عند هذا الفنان التشكيلي هي عالم تتدفق منه الألوان مشعة ومضيئة وهو عالم محبّب لكل عاشق للألوان ومنصت جيدا لإيقاعات الطبيعة يستقبلها بفرح تماما مثلما تستقبل الألحان الطربية الجميلة المنسابة من الآلات الموسيقية.. ولنا أن نشير إلى أنه صدر بالتوازي مع المعرض الخاص بالرسام الفرنسي كتاب جديد للناقد الفني مصطفى شلبي حول هذا الفنان التشكيلي الراحل بعنوان: «جورج ترنكو من كلومار إلى قرطاج». وتولى وزير الثقافة محمد زين العابدين تقديم الكتاب حيث اعتبر أن استضافة تونس (من خلال مجموعة من أعماله) للرسام الكبير جورج ترنكو يعتبر امتيازا خصت به بلادنا لأن ترنكو يعتبر أحد أبرز الفنانين التشكيليين الذين رسموا الجياد وأبدعوا في ذلك... ويعود اختيار عنوان الكتاب إلى أن جورج ترنكو ولئن ولد في باريس سنة 1921 وقضى جانبا من طفولته في سويسرا فإنه استقر منذ طفولته في منطقة كولمار الفرنسية (بمنطقة الألزاس) التي تعتبر من بين ابرز المناطق الثرية ثقافيا والعريقة تاريخيا مثل قرطاج في تونس ملتقى الحضارات. وإذ يقدم هذا الكتاب صورة واضحة عن تجربة الفنان التشكيلي خاصة وأن المؤلف قد استعان بشهادات لأفراد من عائلة الرسام وكذلك لعدد من المثقفين الملمين بتجربة الفنان التشكيلي فإنه يقدم خدمة بيداغوجية ذات أهمية بالغة. فالكتاب عبارة عن بحث معمق أو دراسة اهتمت بتفاصيل تجربة الفنان التشكيلي الذي كان غزير الإنتاج وكان على المستوى الإنساني متواضعا جدا وكان يقسّم حياته بين ورشته وبين أسرته مع العلم أن عددا من أسرة الفنان التشكيلي كانوا في تونس بمناسبة افتتاح معرض جورج ترنكو بالأكروبوليوم ولزيارة متحف الأممبقرطاج حيث تعرضت مجموعة من لوحات ترنكو إلى جانب أعمال عدد آخر من كبار الرسامين بالعالم نذكر من بينهم مثلا الفنان التشكيلي سلفادور دالي. ولعل أهم إجابة يقدمها الكتاب هي تلك التي تتعلق بسؤال ذاك التزاوج في اللوحة الواحدة بين التجريدي والتشخيصي. فجورج ترنكو الذي يمكن القول -إذا اعتمدنا معيار اليوم- هو فنان عصامي التكوين خبر المدرستين فلم تستطع كل واحدة على حدة إشباع رغبته في تشكيل عالم يراوح بين الوضوح والغموض وبين الحقيقة والخيال. فقد كانت حاجته كبيرة، من جهة إلى التجريد الذي يمنحه الحرية المطلقة في استعمال الألوان فيمكنه مثلا أن يصور طبيعة مجردة أو سماء مجردة، ومن جهة أخرى إلى ملء الفراغات التي يتركها الرسم التجريدي فكان أن اهتدى إلى الأسلوب الذي يزاوج فيه بين المدرستين فكانت الثمار وبشهادة النقاد جيدة. فقد ترك جورج ترنكو (توفي سنة 2005) رصيدا كبيرا من اللوحات تشكل عالما ملونا ويعجّ بالحياة...