الجميل في معارض الفنان التشكيلي أحمد الحجري أنك تجد نفسك لا تتأمل فحسب في أعمال ابداعية بل تشعر وأنّك تعبر إلى عالم مليء بالعجائب غنيّ بالألوان والأشكال فيه لمسة خاصّة جدّا بقدر ما تدل على بلوغ صاحبها درجة من النبوغ بقدر ما تكشف عن تمسّكه بجانب الطفل الذي يرسب في أعماقه فتتحول اللوحة عنده إلى فضاء يمارس فيه الفنان طقوسه متحرّرا من القوانين الصّارمة مستسلما إلى الإحساس الجارف الذي يقوده. وأحمد الحجري يعرض منذ يوم السبت في فضاء "فن زمان" بقرطاج بيرصة بالعاصمة لوحاته تحت عنوان عالم الأحلام مستجيبا إلى حاجة الجمهور الذي يبحث عن تلك اللحظة النادرة التي يكون فيها في حضرة الفن الذي يخاطب الوجدان ويمنح الشعور بلذة خاصة لا تتوفّر إلا أمام عمل فني ابداعي بلغ فيه أصحابه أقصى درجات الصدق في التعبير. وأحمد الحجري يملك تلك الوصفة السحرية سواء بألوانه التي يصبّها على فضاء اللوحة أو حينما يمسك قلم الرصاص ويرسم الخطوط والأشكال التي تمكّنه ليس فقط من استمالة عين المتلقي وإنّما تقحمه في عالم الألوان والأشكال الذي يفتحه الرسام أبوابه على مصراعيها خاصة وأنّ أغلب لوحات أحمد الحجري ذات مقاسات كبيرة تسرح بخيال المتلقي وتشعره بأن المكان رحب وتأخذه في رحلة إلى برّ الأحلام. جاء أحمد الحجري المقيم في فرنسا إلى تونس هذه المرة محملا بكمّ كبير من الشوق. لقد حول فضاء "فن زمان" لصاحبته هند بن عمار إلى حديقة مزهرة بألوانها التي غلب عليها جانب البهجة. تجد نفسك تلقائيا مأخوذا بهذه الجولة في حديقة الألوان المتعددة بين الأحمر والأصفر والأخضر التي تذكرنا بالربيع عندما يزهر على أرضنا وذلك الأزرق السماوي الذي يستحضر من خلاله الرسام سماء البلاد وبحرها. لمسة تذكر بعفوية الأطفال لوحات عديدة كان موضوعها الطفولة. سألناه إن كان يرسم تحت تأثير الشوق والحنين إلى البلد فلم ينف. وقد سألناه كذلك أيّ سر في احتفاظك وأنت الفنان الكبير بلمسة تذكرنا بعفوية الأطفال فإذا به يقول لنا أن اقصى درجات النبوغ عند الفنان أن يستسلم لإحساسه, أن يرسم بقلبه وأن يضع جانبا الفلسفة والحسابات. وفعلا يجول بصرك بين لوحات أحمد الماجري فتجد أن الفنان يرسم بلا عقد. الأجساد المتكوّمة المثقلة بتضاريسها الكبيرة تفيض على اللوحة ويطنب الرسام في سريالته فيطيل في الأعناق ويضاعف في حجم الكتل اللّحمية لكن الشكل يبقى محافظا على جانب من الطرافة تطرب لها العين. لم يكتف الرسام في هذا المعرض المليء بالأحلام بعرض الأجساد ورسم الوجوه مبديا سعادة عارمة في التحكّم في عالمه حيث فسح المجال لريشته تسرح في فضاء اللّوحة تعبث بالأجساد وتغرق الأشكال في عوالم تتنوع وتنوع الألوان بل عالج كذلك بعض القضايا الإجتماعية والسياسية وقد برز ذلك بالخصوص في اللوحة التي تتعرض إلى قضية "الحرقان" والهجرة السرية التي تعاني منها بلدنا وتستعمل فيها سواحلنا منطلقا لرحلة الموت. بطبيعة الحال لا يحتاج الرّسام التّونسي أحمد الحجري إلى تقديم فقد تجاوز هذه المرحلة منذ وقت طويل بل لعله من الفنانين التشكيليين القلائل الذين تسعّر لوحاتهم بأثمان عالية مثلما يحدث في الغرب مثلا وهو من الفنانين التونسييّن القلائل الذين تفتح أمامهم أروقة الفن الشهيرة في الخارج وتفتح أمامهم المتاحف إلخ... هو من الفنانين التشكيليين القلائل الذين نجد أسماءهم في المناجد الخاصة بالفنانين ومن الفنانين التشكيليين التونسييّن القلائل الذين تستطيع أن تميّز أعمالهم بيسر. أحمد الحجري ببساطة يحمل اسما كبيرا وقد تحوّل إلى علامة مميّزة وهو من الأسماء التي ارتفعت أسهمها في الخارج. الكثير من المجلات العربية احتفت بتجربته وكرمته لكن الرجل وبمجرد أن سألناه عن علاقة تونس بالفنان التشكيلي أحمد الحجري وإن كان صيته قد بلغ التونسيين وإن كان يجد في بلده الحفاوة التي تليق بفنان في مستوى ما حققه من شهرة وجدنا أنه يحمل في نفسه شيئا ما. قال لنا له أن له عتاب يريد ان يوصله إلى ما من يهمه الأمر. أولا استاء كثيرا لأن وزير الثقافة لم يحضر افتتاح معرضه وثانيا لأن قلة من الفنانين التشكيليين كانوا في الموعد. لا يجد أحمد الحجري تفسيرا للأمر لكنه يشعر بشيء من المرارة إزاء ذلك. قال في هذا السياق أنه تجاوز مرحلة البحث عن تسويق لوحاته ولكنه يبحث عن مكانته الإعتبارية. لعلّنا نشير في هذا السياق إلى أن تجربة فريدة من نوعها على غرار تجربة أحمد الحجري من المهم بل من المفيد للتونسيين أن يكونوا على بينة منها. فالرجل عصامي التكوين وكان فقيرا حتى أنه لا يجد أي حرج في أن يقول أنه ابن تلك المرأة التي كانت تعمل في البيوت من أجل بيتها وأولادها بل على العكس هو يفتخر بتاريخه وبسيرته الذاتية لأنها ليست عادية إن لم نقل أنها قصة من قصص الخيال الغابر. تجربة بهذا المستوى جديرة بأن نحتفي بها إن لم يكن تكريما لصاحبها فعلى الأقل حرصا على الإستفادة منها.