رغم انقضاء اكثر من سبع سنوات على تلك الحادثة التي اهتز لها ضمير العالم وهو يتابع مشهد اغتيال الطفل الشهيد محمد الدرة بين احضان والده الاعزل لا تزال ذكراه تؤرق اسرائيل وتزعج كبار المسؤولين العسكريين فيها.. والامر طبعا لا يرتبط باحساس مفاجئ بالذنب او اعتراف بالخطا او اقرار بالندم وبالمسؤولية ازاء جريمة اغتيال الطفولة التي سقطت مرتعشة ضحية رصاص الاحتلال الذي لم يستجب لصرخات استغاثة الاب وهو يتابع احتضار طفله في عجز ويأس.. ولكن الامر مرتبط بتبعات وانعكاسات تلك الجريمة التي لم تنجح كل الجهود الدعائية الاسرائيلية في إلغائها من ذاكرة الراي العام الدولي الذي اكتشف معها ان الآلة الحربية الاسرائيلية لا تقف عند حد ولا تخضع بل ولا تعترف باية خطوط حمراء اما الراي العام الاسرائيلي فقد وجد نفسه بدوره يكتشف الوجه الاخر للجيش الذي ارتبط في الخطاب الرسمي الغربي بالكيان الديموقراطي الوحيد في منطقة الشرق الاوسط. ومع ان استهداف براءة الطفولة لم يكن بالامر الجديد في ثقافة اسرائيل واولوياتها كما في عقلية مختلف قادتها وهوما وثقته مجازر صبرا وشاتيلا والخليل وقانا وشاطئ غزة فقد ظلت صورة محمد الدرة الطفل الشهيد الاكثر قوة في نقل همجية الاحتلال لان العالم باسره تابع اطوارها لحظة بلحظة بشكل يكاد يكون مباشرا بما جعل قوات الاحتلال توجه اصابع الاتهام والادانة من كل جانب.. ولاشك ان اسرائيل التي طالما تحكمت في لعبة الاعلام وادركت اهمية هذا السلاح في معركتها الدعائية داخليا وخارجيا لتبرير وتمرير سياستها العنصرية الهمجية تجد نفسها اليوم تسقط من حيث تدري او لا تدري في الشرك الذي اوقعت فيه من قبل كل من حرك لسانه او قلمه لتوجيه الانتقادات لسياستها الاحتلالية التوسعية عندما قررت ان تقلب الاوضاع وتحول نفسها الى ضحية في جريمة اغتيال محمد الدرة وتسعى لاثارة الشكوك حول الشريط الذي وثق للجريمة. ولعل اغرب ما توصلت اليه اطراف اسرائيلية في محاولتها التشهير بالصحفي الفرنسي شارل اندرلين الذي كان وراء كشف الجريمة البشعة ان تعمد الى التشكيك في الشريط باعتبار ان الاحداث المتواترة فيه تتناقض مع نظريات الفيزياء وتنفي وقوع عملية الاغتيال بالطريقة التي نقلها للعالم بما يمكن ان يعكس حجم الاحراج والازعاج الذي سببه الشريط لاسرائيل.. وهو ايضا ما فسر الضغوطات الامريكية والاوروبية على حد سواء نزولا عند رغبة اسرائيل للحد من بث الشريط قبل سحبه الا في مناسبات محدودة من اغلب الفضائيات العربية بدعوى انه يحض على العنصرية والكراهية ويدعو الى الرغبة في الانتقام. ولو ان المحاولات الاسرائيلية توقفت عند حدود الرهان على الحرب الكلامية لكانت ربما نجحت في كسب الرهان الا ان اصرار اطراف اسرائيلية على اللجوء الى القضاء الفرنسي لادانة الصحفي الفرنسي شارل اندرلي مراسل قناة فرانس 2 واتهامه بالتزوير وفبركة الشريط فقد اقترفت بذلك خطأ لا يقبل التصحيح.. ولعل ذلك ما دفع الخارجية الاسرائيلة ان توصي بعدم فتح القضية مجددا لان ذلك لا يخدم صورة اسرائيل في العالم لا سيما وقد باتت صورة محمد الدرة التي كانت وقود الانتفاضة الثانية بعد الزيارة الاستفزازية لشارون الى الاقصى تعود مع حلول كل ذكرى لتعيد الى الاذهان ما تحاول اسرائيل قبره وإلغاءه نهائيا... عندما كان الصحفي الفرنسي شارل اندرلي مراسل قناة فرانس 2 ينقل للعالم اطوار اغتيال الطفل الشهيد محمد الدرة بين احضان والده الاعزل قبل ثماني سنوات ربما لم يكن يدري انه كان يكبد اسرائيل وهي التي اتقنت استغلال سلاح الاعلام والدعاية في مختلف حملاتها وصراعاتها مع الشعب الفلسطيني اسوا هزيمة دعائية لها وربما لم يكن يدري ايضا ان مهنيته وشجاعته وتمسكه بنقل الحقيقة سيكلفه الوقوف امام القضاء الفرنسي ومواجهة الاتهامات بالتزوير بعد ان فشلت الضغوطات التي تعرض لها ومحاولات الاستمالة والابتزاز حينا والترغيب والترهيب حينا اخر في محاولة لدفعه الى التراجع او الاقرار بان الشريط كان مزورا كما كانت تامل في ذلك اطراف اسرائيلية كثيرة لازالة تلك الصورة الشنيعة من سجلات اسرائيل... لقد كان من المؤسف فعلا ان يجد شارل اندرلي وهو الذي برهن للعالم عن مهنيته ومصداقيته نفسه يخسر الدعوى التي تقدم بها ضد الذين اتهموه بانتهاك اخلاقيات المهنة وتزييف الاحداث بدعوى حرية التعبير والنقد دون ان يحرك ذلك ساكنا في اوساط الاعلام العربي الذي تجاهل ما قدمه هذا الصحفي الفرنسي للقضية الفلسطينية.. تماما كما تجاهل اهمية شريط اغتيال محمد الدرة وغيره ايضا في تعرية الوجه الحقيقي لاسرائيل وكشف القناع عن نواياها ليحظى في المقابل بدعم وتاييد المئات من الشخصات السياسية والديبلوماسية والاعلامية الفرنسية ودعاة حقوق الانسان الذين انضموا الى صفوف الصحفي شارل اندرلي الذي جعل ذكرى الطفل الشهيد محمد الدرة عالقة في الاذهان تأبى النسيان وترفض الموت...