يبدو خطاب رئيس الحكومة يوسف الشاهد في اختتام المؤتمر الوطني ضد الفساد خطابا مؤثرا فقد أكد رئيس الحكومة أن الحرب على الفساد هي من بين أولويات الحكومة وأنها الخط الأول في الدفاع عن النظام الديموقراطي وهي حرب كل التونسيين الشرفاء وهي أم المعارك وغيرها من التوصيفات القوية والمهمة. هذه العبارات وغيرها هي خطابات حماسية تثلج الصدر وتبرز أن الحكومة واعية بخطورة الفساد وتأثيره المدمر على الاقتصاد التونسي وتبرز الإرادة السياسية الواضحة لدى الحكومة التي اختارت محاربة الفساد والتصدي له. سياسيات لا تتلاءم مع طبيعة الظاهرة ولكن بين الحكومة والخبراء هوة واسعة. فالاستراتيجية التي تتخذها الحكومة لمكافحة الفساد خاصة في إطار الحرب التي أعلنها رئيس الحكومة لا تتناسب مع طبيعة الفساد في تونس ولا مع خصوصياته. وإذا تواصلت المقاربة على هذه الشاكلة فلا يمكن الجزم بأنها ستنجح فعليا في الحد من ممارسات الفساد في البلاد. فعديد الخبراء التونسيين والدوليين يؤكدون أن الفساد يمس المنظومة بأكملها وأنه أصبح مستشريا كمرض عضال لا تنفع معه الإصلاحات والمقاربات الفوقية فالحرب على الفساد تقوم على التعامل مع الطبيعة الوبائية لهذه الظاهرة كما تؤكد ذلك تقارير دولية مختلفة مثل تقرير مركز كارينيغي الأخير بهذا الخصوص عندما يتحدث عن عدوى الفساد في تونس. ولكن شعار الحرب في حد ذاته شعار مهم لأن الحكومة عندما أعلنت هذه الحرب وعندما تواصلها اليوم تؤكد التزامها بالتصدي للفساد ومواجهته وهذا الالتزام يخلق نوعا من تحميل المسؤوليات الأخلاقية على الاقل لهذه الحكومة ومسؤوليها. خطوتان مطلوبتان عمليا واتصاليا ولكن هنالك خطوتين لا بد من اتخاذهما إذا أردنا محاربة الفساد بشكل فعلي. الخطوة الأولى هي أنه على الحكومة أن تتنازل عن برجها العالي وتمر إلى المرحلة الحقيقية لمكافحة الفساد التي لا تتعلق بوضع بعض الرؤوس الكبار في السجن فقط بل التعامل مع المنظومة الفاسدة من الأسفل إلى أعلى بدل مقاربة من أعلى إلى أسفل. والثاني هو أن تتخلى الحكومة في استراتيجيتها الاتصالية عن التذكير بالحرب على الفساد بعبارات رنانة يؤدي تكرارها إلى فقدان الحرب ومكافحة الفساد معنييهما الحقيقيين وتتحول المسألة إلى ترديد جملة من "الكليشيهات" في كل مناسبة تستدعي ذلك. فتغرق الحكومة في تبسيط المعنى الخطير والعميق للفساد وتأثيراته الاقتصادية والاجتماعية وحتى السياسية وبدل أن يخرج علينا رئيس الحكومة في كل مرة بخطابات رنانة حول الفساد والحرب، على الخطابات السياسية أن تصل هي أيضا إلى المرحلة الثانية بأن تكون تصريحات المسؤولين الحكوميين قائمة على المؤشرات والمعطيات وقياس الظاهرة ورقابة مدى التقدم فيها لا أن تكون الخطابات منذ الإعلان عن انطلاق هذه الحرب هي ذاتها. محاربة الفساد أمر شاعري وجميل ولكن رصد الفساد وقياسه أمر معقد ومراقبة مدى التقدم في مكافحة الفساد أعقد. لذلك بدل أن تغرق الحكومة في مزيد تعويم الظاهرة عليها أن تفعل خطوات عملية دقيقة لمكافحة الفساد ودعم الرقابة في جميع المجالات لأن مرحلة اعتقال الأسماء الكبرى هي مجرد مرحلة رمزية ولا يمكننا الحد من الفساد فعليا إلا إذا تعاملنا بشكل واقعي مع منظومة متداخلة متشابكة.