تحظى البرامج الاجتماعية سواء تلك التي تعرض على القنوات التلفزيّة أو الإذاعية بنسب مشاهدة عالية خاصة عندما يتعلق الأمر بمواضيع وقضايا تتجاوز الخطوط الحمراء وتتناول المسكوت عنه على غرار الشذوذ الجنسي والاغتصاب وزنا المحارم وغيرها من المواضيع الصاّدمة.. ما يجعل المتلقي يتابعها بشغف وينتظر بثها بفارغ الصبر.. إلا أن هذه البرامج باتت متّهمة بالتأثير في السلوك العام وفي ارتفاع نسبة الجريمة في بلادنا ذلك أن المستمع والمشاهد صار يتأثّر بما يقدم له من مواضيع وبطريقة مبسطة إلى أن صار الأمر عاديا ومقبولا ما أدى في بعض الحالات إلى الاقتداء بما يتم عرضه على وسائل الاتصال السمعي والبصري ويتم تنفيذ جرائم على منوال ما يسمعه أو يشاهده المتلقي. ولعل ما زاد من حدة الانتقاد لمثل هذه النوعية من البرامج هو عرض نماذج وصور لحكايات وروايات فظيعة وبشعة والتي تكاد تكون شاذة ويقع تقديمها بشكل يساهم بطريقة غير مباشرة في الاقتداء بها، ومن بين هذه القصص نذكر الفتاة التي اتصلت ببرنامج إذاعي وسردت كيف أقامت علاقات مع أساتذتها كي تنجح، وكذلك قصة الشاب الذي أغوته والدة خطيبته وكيف أقام علاقة جنسية معها فضلا عن العديد من حالات «زنا المحارم» و»الزواج على خلاف الصيغ القانونية» والقتل والتنكيل بطرق فظيعة بالإضافة الى الشذوذ وغيرها.. وقد دفع بعدد من المشاهدين أو المستمعين من ذوي «النفوس» الضعيفة والتي تقتدي بما يعرض أمامها إلى الاقتداء بها حتى لو كان الأمر لا يقبله العقل أو المجتمع، بالإضافة الى ادخال عبارات دخيلة على مجتمعنا والقيام بتصرفات وحركات لم يتعود عليها المشاهد التونسي في برامج مصنفة على أنها ترفيهية حتى إن العديد من العائلات استحالت عليها متابعتها وهي مجتمعة. الصباح» تطرقت للموضوع واتصلت بعدد من المختصين النفسانيين والاجتماعيين وكذلك مختص في عالم الإجرام للحديث عن هذه النوعية من البرامج ومدى تأثيرها على ارتفاع نسبة الجريمة فكان التحقيق التالي.. الشباب الفئة الاكثر تأثرا في البداية أوضح الدكتور عماد الرقيق المختص في علم النفس أن البرامج الاجتماعية التي تعرض على القنوات التلفزية أو الإذاعية بإمكانها أن تأثر على المتلقي بصفة عامة إذا ما كانت هناك دعاية للجرائم والمشاكل التي تطفو على الساحة مبالغ فيها وكذلك إذا كان تناول هذه المشاكل بإطناب وفيه عدم توازن بين الأخبار العادية والمتشائمة منها فان ذلك سيؤثر بالضرورة على الرأي العام ما يجعل بعض الأشخاص يتأثرون بها. وأضاف الدكتور الرقيق أن تأثير هذه النوعية من البرامج يتفاقم خاصة إذا ما لم توجد استعانة بأخصائيين في علم النفس والاجتماع يكونون أكفاء وذوي خبرات واسعة وضالعين في ميدانهم وفي المقابل يقع الاستعانة بشخص غير مختص ويحاول الاجتهاد وفق ميولاته. وأكد الدكتور الرقيق أن حضور الخبير أو المختص في هذه النوعية من البرامج سيكون له دور هام حيث أنه سيسعى لتبيان الحلول وطريقة الوقاية من الإشكال أو المسألة التي سيقع تناولها ولن يقتصر دوره بالتالي على «البوز» والإشهار كي تستفيد العائلة من الموضوع الذي تم تناوله وتجد الحلول للموضوع المطروح. وشدد الدكتور رقيق على أن هذه البرامج إذا لم يكن فيها حضور لمختصين وخبراء ومهنيين يقومون بتحليل الظاهرة أو الإشكال الذي سيقع تسليط الضوء عليه تحليلا عميقا وايجابيا وواعدا من خلال النظر إلى المستقبل لإصلاح الواقع للتوقي من أي مخاطر ممكنه عندها ستصبح هذه البرامج لا فائدة منها وستكون لها سلبيات وستتسبب في مشاكل لا تحصى ولا تعد. كما أكد الدكتور الرقيق على أن عدد المختصين النفسيين والاجتماعيين في تونس يعد ضئيلا ما يجعل حضورهم في البرامج الاجتماعية يكاد يكون مفقودا تماما أضف الى ذلك أن بعض البرامج لا تعتمد على مختصين وهو ما يعد خطأ وفق قوله. وعن نوعية الأشخاص المتلقين لهذه البرامج والذين يتأثرون بها أوضح الدكتور الرقيق بأنها تؤثر على شريحة الشباب الذين يكونون شديدي الانفعال والاندفاع وبالتالي فإنهم يتأثرون سريعا بأية مادة إعلامية تقدم لهم. ودعا في الأخير إلى أن تكون البرامج الاجتماعية متوازنة حيث تجمع بين الترفيه والتفاؤل وإعطاء الحلول للمواضيع التي يقع تناولها كي نضمن أن يكون لها دور ايجابي في المجتمع. ثقافة الجريمة.. والثقافة البديلة من جانبه أوضح الدكتور صلاح الدين بن فرج المختص في علم الاجتماع بأن طريقة صياغة هذه النوعية من البرامج وأشكال بناء الحصة التلفزية أو الإذاعية وكذلك الهدف من ورائها إن كان البحث عن الإثارة وتحقيق أكثر نسبة مشاهدة عالية «audimat» وجعلها أولوية في بعض الحصص يجعل التركيز على البعد الدرامي والإجرامي بالتفصيل وسرد الوقائع مفصلة هو الطاغي عليها، ما يساهم ويساعد في نشر ثقافة الجريمة وهو أمر لا يعني بالضرورة الامتناع عن بثها إذ أنه في كل البلدان توجد حصص مشابهة ولكن أن تصبح النسبة عالية جدا وطاقة الاستيعاب لدى المشاهدين والمتلقين خاصة أولئك الذين يتأثرون كثيرا بهذه النوعية من البرامج التي تبث مواضيع عن الانتحار وأشكاله أو طرق الاستيلاء على الأموال أو طرق التحيّل الخ.. كل ذلك يساهم في نشر ثقافة الجريمة والتنشئة على قيم الجريمة وهو أمر خطير. وبيّن الدكتور صلاح الدين أنه وجب في المقابل أن تكون هناك ثقافة موازية وبديلة لهذه الثقافة التي تكرّس للجريمة وتعطي الأولوية والأفضلية لثقافة الاعتدال والتوازن والسلوك السوي وثقافة الأمانة والصدق وتجنّب أشكال الخيانة، كما وجب أيضا تمرير أشياء بديهية وأمور لا يراد من ورائها تحقيق أرباح، لان مفهوم المصلحة يقتضي أن تكون هناك مجهودات وجب بذلها في هذه النوعية من الحصص والبرامج من خلال بث مواضيع تهدف إلى بيان السلوك السوي والمتوازن، اذ أنه في صورة تمرير برامج بصفة غير مباشرة لبعض السلوكات غير السويّة والتدميرية للذات دون التطرق إلى عيوبها ومضارها من خلال الاعتماد على الإثارة في بعدها التجاري. معتبرا أن هذا الامر مرفوض خاصة ونحن في أوضاع اجتماعية هشة تسودها البطالة وانسداد أفق أمام الشباب وافتقاده للأمل فان مثل هذه الحصص بقدر ما تأخذ صفة حصص اجتماعية وتقدم الواقع لكن وجب تحديد الإطار وجعلها متناسبة معه وهنا تطرح مهمة الأشخاص القائمين على هذه البرامج ومدى وطنيتهم لأن المسالة فيها كثير من الإحساس بالوطنية والمسؤولية بقطع النظر عن نسب المشاهدة والمردودية المالية والنجاح الإعلامي التي يبدو أنه في الوقت الراهن يأخذ حيزا هاما وأولوية على حساب قيمنا المجتمعية وفق تعبيره. تعود فاستئناس فقبول.. من جانبه أوضح الأستاذ محمد أنيس الزرقوني دكتور في العلوم القانونية وباحث في علم الإجرام أن المادة الإعلامية التي يتلقاها المشاهد تؤثر بشكل كبير على سلوكه النفسي، فالتقارير الإخبارية التي تعرض بصفة يومية صور الدم والقتل والدمار كل ذلك هي مشاهد محزنة لدى المشاهد لتترسخ في الذاكرة المركزية والتي ستتحول فيما بعد وتتجلى في أعمال عنف وقتل. وأضاف الأستاذ الزرقوني بأن هناك كذلك مواد إعلامية تستدرج فئة من المجتمع وهي المراهقين فهناك برامج تستخدم عنصر التشويق وحين مشاهدة المتلقي لها فان هذا التشويق يجعله متقبلا للجريمة التي اقترفت ومتعاطفا مع مرتكبها في حالة إلقاء القبض عليه بل ومتعلما لآليات وطرق إجرامية كانت غائبة عنه. وأشار محدثنا في ذات السياق أن «البلاتوهات» التي تستعرض برامجا اجتماعية للنقاش تعرض مواضيع جريئة لكن توقيت بثها خطر جدا وهي فترة الليل وفي ساعة متأخرة مما يجعل المشاهد عرضة لطرح تساؤلات قبل النوم وربما تتحول إلى كوابيس إلى حين أن تتجلى في الواقع، ذلك أن تلك الأفكار التي تم بثها تخزن في ذاكرة المتلقي خاصة المراهق وتترسخ ليبقى تنفيذها وتجسيدها غير معلوم إلى أن يحين الوقت فينفجر ويجدها في الواقع، وفي صورة منعه من القيام بذلك الفعل فانه سيدخل في دوامة من الأفكار والصراعات سيضطر حينها إلى إيجاد حل بديل وهو اللجوء إلى المخدرات من أجل الابتعاد ولو ظرفيّا عنها. كما لاحظ الأستاذ أن المواضيع المطروحة للنقاش هي مواضيع تتعلق بجرائم كانت بعيدة عن مخيلة المجتمع وربما منبوذة ويقع طرحها بشكل موسمي لدرجة أن المشاهد يتعود عليها بل ينتظرها والنتيجة أن هذا التعود بمرور المدة يولد الاستئناس إلى أن يتحول إلى أمر مقبول وما أن تتوفر الظروف المناسبة لتجسيدها في الواقع فانه لن يتوانى في تنفيذها، إلا أنه في صورة عدم قدرته على ذلك فان ذلك سيجعله بالضرورة يلتجئ إلى حلول بديلة. «الاحتفاء» بالمجرمين كما لاحظ انه في بعض البرامج الأخرى يقع التعامل الإعلامي مع المجرم ومرتكب الجريمة وكأنه ضيف رئيسي وهذه الطريقة والحفاوة تؤثر في المشاهدين وربما يتعاطفون معه عندما يبرر أفعاله فيتحول هذا التعاطف إلى قابلية لفعل الإجرام، مبينا في ذات السياق بأن افتقار بعض البرامج إلى رجل دين وممثلين عن المجتمع ربما يحيد بها عن الهدف الأساسي وهو التوعية ليصبح الضيوف وكأنهم «ديكور». وختم محدثنا بالقول إن الإعلام تسبب في رفع نسب الجريمة عبر عرض مواد إعلامية تحتوي على العنف والقتل والإدمان ومن خلال البلاتوهات والفضاءات الحوارية والتي تتطرق إلى مواضيع جنسية مثلا يقع التطرق إليها بتركيز ممنهج وبصفة متكررة كل ذلك يجعلها تساهم في ارتكاب جرائم بالإمكان تجنبها إذا ما تم تناولها بطريقة مدروسة.