تاريخيا بعد فشل الأنظمة الاشتراكية عملت الدول الرأسمالية الكبرى على تعميم نموذجها على الدول المتخلفة والنامية لعولمة اقتصادياتها المتعثرة أصلا إن لم نقل المنعدمة عبر مجموعة من المبادئ الليبرالية في محاولة منها لضمان امتداد لنفوذها عليها مستقبلا مستفيدة من جهل حكوماتها وبعد الرؤية على المدى المتوسط والبعيد آنذاك لضعف وهشاشة المنظومات التربوية والاقتصادية عامة، وتمت هذه العمليات عبر عديد السيناريوهات التي تمت من فترة إلى أخرى في شكل ما يمكن أن نسميه اليوم «فيروسات وهمية» زرعتها في اقتصادياتها مثل» خوصصة المؤسسات التابعة للدولة» و»عولمة السوق» و»ترسيخ بناء الديمقراطيات» في شعوب غير مهيأة أصلا في تركيبتها للنقاش في ما بينها لخلق مناخات تناحر وتجاذبات سياسية وهو الحال للمثال التونسي الحديث، ولعل آخر الفيروسات استدراجنا - على غرار عديد الدول مثل مصر على سبيل الذكر لا للحصر - للاقتراض من المؤسسات المالية الكبرى كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية المنضوية مهامها تحت لواء منظمة الأممالمتحدة بعد «اتفاق واشنطن» التاريخي.. وحيث أثبتت التجربة خلال الأزمات العالمية المتعاقبة والمفتعلة من اللوبيات المتحكمة في القرار الدولي خلال القرن العشرين وبداية القرن الحالي أن المتضرر الرئيسي فيها هو دوما الدول النامية ومنها تونس التي ظلت تعتقد راسخا أن لا تنمية إلا بالدول العظمى، فرغم أننا خرجنا من وطأة الاستعمار بمعاناة ورواسب تبعية اقتصادية وثقافية مع الفرنكوفونية نعاني اليوم «منزلق مديونية» خطير ونلتجئ من وقت لأخر إلى سياسة نقدية غالبا ما اعتمدت أسلوب «تعويم الدينار» كلما عاشت تونس أو تأثرت بأزمة اقتصادية... كما أنه تاريخيا وفي واقع الأمر تم جرنا اليوم على غرار عديد الدول النامية وفي إطار المنظومة العالمية الجديدة إلى الاقتراض من صندوق النقد الدولي تحت شعار «التقليص من نسبة الفقر» و«دعم الاقتصاديات النامية» باعتبارنا دولة تتعثر سريعا في تنميتها منذ الاستقلال من فترة لأخرى وتسعى إلى تحقيق توازن فئاتها المتوسطة والفقيرة ضمانا لاستقرارها-لا غير. ولا يخفى اليوم علينا أن الاقتراض في حد ذاته بإملاءات وشروط هو تكريس لمزيد إغراق الحكومات القادمة مستقبلا في إجراءات ضغط على المواطن بتوريطها في رسم تركيبة اجتماعية فقيرة واقتصاد مهيمن عليه خارجيا ولا مفر لنا اليوم إلا بإيجاد الحلول قبل فوات الأوان للخروج من «الورطة» باعتبارنا «شربنا السم ولا زلنا على قيد الحياة». وللخروج من»الورطة» التي تعاني منها الدولة حاليا والتي تعتبر حادة بنسبة تداين تفوق 70 % وربما هذه النسبة قد تجرنا للمثال اليوناني دون غيره الأقرب في الوضعية الحالية حسب المؤشرات، نجد الضرورة القصوى لإيجاد مخرج للنجاة ربما أهمها في حلول اجتماعية واقتصادية ولا مفر لنا منها مستقبلا تتلخص في ما يلي: 1 - سياسة اجتماعية شاملة قوامها العمل على التطور والتعويل على الذات: يعلم القاصي والداني أن التركيبة الاجتماعية للمجتمع التونسي تتباين في ما بينها بخصوص مستويات العيش والقدرة الشرائية للفوارق الواضحة في الدخل بين العديد من فئات الشعب، علاوة على وجود نقائص في البنية التحتية عامة مقارنة بالدول المتقدمة وهو ربما ما يجعلنا دوما نعيش بهاجس وهمي خلفه الاستعمار أنه «لا تقدم إلا بالكبار»، غير أن المسألة واقعيا في حد ذاتها هي امتداد لما رسم لنا منذ القديم من طرقات وعرة للخروج من مخلفات الاستعمار ورواسبه للاستفادة طبعا من ثرواتنا عبر الشركات المتعددة الجنسيات التي تلقينا منها تلقيننا بسوء فهم أنه لا وجود لطريق للنجاة لأنه ببساطة في ضعفنا «قوة لهم». وبناء على ما تقدم، يجب علينا ومن اليوم قبل الغد بدء العمل وفقا لإستراتيجية طويلة المدى بخلق تنمية اجتماعية شاملة عن طريق الكفاءات الوطنية وإعادة استقطاب الأدمغة الوطنية المهاجرة ورؤوس الأموال التونسية بالخارج التي لم تجد التشجيع في عديد محاولاتهم الاستثمارية بتونس، وقد لا يعني هذا الخيار قوقعة الدولة على نفسها بل هي طريقة عمل بتعويل على كفاءات تتحلى بروح الوطنية عالية المستوى ومجردة من أية موالاة لأجندات خارجية ومجردة من إملاءات وسياسات لا تخدمنا مستقبلا، وعليه يجب أن يكون التحول بالمشهد العام في اتخاذ القرار تونسي – تونسي لرسم خارطة طريق تنموية تعطي للتركيبة الاقتصادية تنوعا في النسيج العام وبمنتوجات تنافسية عالميا ونمط في التسيير بعيدا عن تقاليد انتظار الهبات الخيرية والمساعدات المشروطة . كما يستوجب علينا نقد موروثها الثقافي حتى نبقى متعارضين مع أسس منطلقات قطار ركب التطور والتقدم وتجاوز المعضلات التي يعاني منها المجتمع التونسي بواقعه المأساوي الحالي والذي لا أحد يستطيع أن ينكره من خلال المحاولات الماراطونية للحكومات المتعاقبة للصعود إلى الصفر اليوم وخير دليل على ذلك الاحتجاجات الأخيرة ولو أن أشكالها غير قانونية إلا أنها فعليا مست القدرة الشرائية للمواطن وعلى الحكومة التعديل وإيجاد التوازن الاجتماعي الاقتصادي المفقود بعد ورطة التداين الحاصلة مع الخارج. 2 - الحلول الاقتصادية المقترحة: بعد تشخيص المسألة من جذورها يعد واضحا أن النظام العالمي الجديد المتمثل في «عولمة السوق» تحكما في اقتصاديات الدول النامية عامة بما في ذلك تونس اليوم التي عرفت تعثرات وهشاشة أمام الأزمات بطريقة متواترة منذ عقود لتخلفنا الاقتصادي مقارنة بالدول العظمى ولا يمكننا اليوم الخروج من منزلق التداين إلا بتغير ملامح واقع الاقتصاد الوطني عامة كما يلي: * يجب العمل على بناء اقتصاد وطني متنوع أساسه الإنتاجية من خلال رسم إستراتيجية وطنية طويلة المدى تنطلق ضرورة من حسن الاستغلال الموارد الطبيعية والثروات الباطنية بقطع جميع روابط وشبكات الاستعمار وحباله القديمة المتجددة وجعل واقعنا مرتبطا نهاية بمبدأ أنه يحق لنا أن نعيش حياة كريمة كشعب تونسي على غرار الشعوب المقارنة ديمغرافيا على الأقل الذين ليست لهم قيمة استهلاكية كبيرة مقارنة بالمستوى العام الدولي. ورغم أن الأمر صعب في انطلاقته على اعتبار أن الإمكانيات الذاتية التونسية تعاني ضعفا وانعدام البنى التحتية مثلا، لكن هذا قد يجعلنا أمام حل تعزيز التعاون التونسي الجزائري كحليف إستراتيجي وتقليدي، ويمكننا الاستفادة منه للروابط العريقة والتاريخية بين الشعبين والمصالح المشتركة بين الحكومات. ونحن قادرون في إطار تعاوننا المشترك على الصعود بعديد القطاعات المنتجة ذات المردودية العالية والرقي بها إلى أفضل المراتب الدولية وتنمية الدخل مستقبلا مثل الطاقة والفلاحة والسياحة وتكنولوجيا الاتصال... * إعادة النظر جذريا في حجم التعاملات الاقتصادية للدولة مع القطاع الخاص الذي يتميز في مشهدها الحالي من قبل هذا الأخير على الاحتكار السلبي للثروة المالية المنعشة للاقتصاد، ولعل الخوصصة والغياب التام لمساهمة الدولة خلال العقود السابقة بعديد المؤسسات المنتجة التي هي اليوم مشكل التهرب الضريبي وتترجم سيطرة للقطاع الخاص على عديد القطاعات الحيوية في الاقتصاد لنجد أنفسنا أمام نسيج اقتصادي خاص احتكاري من قبل كبار رؤساء الأموال المحليين الذين يتحكمون في الأسعار وفي الغلاء الحاصل فيها وما وصلت اليه من حدة غير مسبوقة، وبجعل الحكومة تضغط أكثر من أي وقت مضى على جمع الضرائب بالزيادات السنوية المترجمة في قوانين مالية نهاية كل سنة مما أوصلنا اليوم إلى انتقادات ترجمتها الاحتجاجات الشعبية الأخيرة. وعليه يقترح إستراتيجيا أن يعود للدولة دورها في المشهد الاستثماري العام ولو بنسبة ضعيفة وبرأسمال جزئي في القطاعات المنتجة للمواد الأساسية على الأقل حتى ترجع تدريجا وعلى مدى العشرية القادمة الدور المفقود اجتماعيا والذي خلفته «استراتيجيات الخوصصة» في التكافؤ بين القطاع العام والخاص في المجال الاقتصادي للقضاء على المتهربين الجبائيين وللاضطلاع بدور الدولة على المستوى الاجتماعي من جديد على الأقل لتدخلاتها لفائدة الفئات الضعيفة ومحدودة الدخل، باعتبار أن النسيج الخاص لا يتضمن شركات كبرى قادرة على مزاحمة الشركات متعددة الجنسيات للدول العظمى، على اعتبار أن التركيبة التونسية تهيمن عليها الشركات الصغيرة والمتوسطة في النسيج العام . وحيث أنه من زاوية أخرى في خضم الأزمة الاقتصادية التونسية الحالية نرى أن الواقع الدولي عامة أصبح يعيش أزمة قيم أزمة أخلاق ويمكن اعتبار القيم الإنسانية ومبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان شبه مفقودة ولا ترقى إلا أن تكون خطابا حماسيا وشعارات جوفاء في الملتقيات والندوات والتقارير الدولية وهي نهاية مصالح القوي على الضعيف فرضته العولمة الجديدة على الاقتصاديات الضعيفة وهو أصلا في واقع الأمر ما أوصلنا اليوم إلى «ورطة» التداين من صندوق النقد الدولي لتلقي إملاءات من وقت لأخر لا مآل لها غير مزيد تعزيز تقليص الاستثمار العمومي وتدخل الدولة في الرفع من مستوى عيش المواطن عبر المساس التدريجي من منظومة الدعم في قادم السنين والتي قد تحدث ربما «تجويع شعب» وهذا أصلا ما نخشاه في وطننا العزيز، لذا علينا منذ اليوم التصدي بإلغاء المقولة غير المباشرة التي تقوم الأجندات الخارجية بتسويقها لنا : «أننا نحن(المجتمعات المتقدمة) أدرى من أهل مكة (الدول المقترضة من صندوق النقد الدولي) بحالهم. ختاما، لا يستقيم القول إننا غير قادرين على التعويل على الذات إلا بتغير العقلية في العمل والإنتاج في شكل ثورات فلاحية وصناعية وخدماتية مستفيدين من عملية تأميم لثرواتنا إستراتيجيا وعلى مراحل ولا يتم كل هذا إلا بإتباع الحكمة البورقيبية «سياسة المراحل» لتحقيق الاكتفاء الذاتي اقتصاديا وعديد المجالات الأخرى مثل تكنولوجيا الاتصال والطاقة المتجددة لامتصاص الدين الحاد والخروج من ورطة إملاءات المؤسسات المالية العالمية بشروطها التي ربما لسنا مؤهلين لتطبيقها على النموذج التونسي بناء على التركيبة الاجتماعية الموجودة والمتفاوتة على مستوى القدرة الشرائية للمواطنين. بقلم: رؤوف الغشام ( *)